خلال فترة
حكم العقيد المقبور، وعلى الرغم من الثروات التي تتمتع بها ليبيا، وقلة عدد
السكان، أدخل علينا أموراً لا تحتاجها إلاّ الدول الفقيرة ذات التعداد السكاني
المرتفع أو المتفجر. جعلنا نظامه الهمجي نصطف أمام الجمعيات الحكومية؛ وأعاد إلى
شيوخنا وعجائزنا ذكريات (الرسيوني) البغيضة، المشتقة من كلمة (Razione) بالإيطالية أو (Rations) بالانجليزية، وتعني أن تقوم الحكومة
بتوزيع الحد الأدنى من احتياجات الأشخاص أثناء المجاعات التي تحدث خلال الحروب
بصفة خاصة.
وكانت
حكومة (الفاتح العظيم) تدعم أسعار السلع الأساسية مثل السكر والدقيق والأرز والزيت
وغيرها، وكذلك المحروقات، وتصرف مليارات من أموال الشعب على هذا الدعم الذي لم
يستفد منه. وسأقول لكم كيف لم يستفد الشعب الليبي من ذلك الدعم:
كان إمعات
العقيد المقبور حريصين على استمرار الدعم، فقد كانوا يتربحون من العمولات الكبيرة
التي تدرها عليهم السلع المدعومة. كما كانوا يستوردون أردأ أنواع السلع بأسعار
مبلغ فيها ويسرقون الفرق في السعر. فإذا قلت أن حوالي 40% من ميزانية الدعم كانت
تذهب إلى جيوب اللصوص (الأمناء!) وغيرهم من المتنفذين؛ فلا أعتقد أنني جانبت
الصواب.
ونعلم
جميعاً أن جماهيرية العقيد كانت تعج بالمهاجرين المتواكلين المتكالبين الطامعين
الذين أتوا من الدول العربية الفقيرة والدول الإفريقية، وتجنسوا طبقاً لشريعة
(القائد المعلم) الذي آواهم ورعاهم ليكسب ولاءهم، ولينصروه على أصحاب الأرض. هؤلاء
استفادوا من السلع المدعومة على مدى عقود من السنين. فإذا قدرنا أن عددهم مساوٍ
لعدد الليبيين إن لم يكن أكثر، فنستطيع أن نقول أن نصف ميزانية الدعم المتبقية (أي
30% من الإجمالي) ضاعت في بطون غير الليبيين.
أما
المسافرون عبر الحدود الليبية (ليبيين وأجانب) فكانوا يُحمّلون سياراتهم بالسلع
المدعومة لبيعها والاستفادة من ثمنها في الخارج. كما كان الجيران يقودون سياراتهم
إلى أقرب محطة بنزين في (أرض كل العرب!) ويعبئون الخزانات الرئيسة والإضافية
بالبنزين ليبيعوه في بلدانهم. ويقدّر التسرب عبر هذه المنافذ بحوالي 10%، بالإضافة
إلى 10% أخرى تُهرب عن طريق المهربين المحترفين، الذين يسيّرون الشاحنات المحملة
بالأصناف المتعددة ويدفعون الرشاوى لتسهيل تمريرها عبر الحدود.
إذن بقيت
نسبة 10% فقط استهلكها المواطن الليبي البسيط (الأصلي) بشكل مباشر.
قيل أن
دعم السلع الغذائية الأساسية والمحروقات يقدر بحوالي خمسة وعشرين مليارات من
الدنانير. بعملية حسابية بسيطة نعلم أنه إذا ألغي الدعم ووزعت قيمته على المواطنين
لكان نصيب كل عائلة أكثر من خمسة عشر آلاف من الدنانير! أنا أنصح الحكومة الجديدة
أن توزع هذه المليارات أياً كان مقدارها على الليبيين؛ على هيئة زيادة في مرتبات
الموظفين وإعفاءات ضريبية وتسهيلات للعاملين على حسابهم الخاص، فتتحقق العدالة
ويخسر الذين يمنون أنفسهم بالتربح من ميزانية الدعم على حساب الشعب. ولا أنسى أن
أكرر كما أقول دائماً ضرورة إلغاء الخزعبلات التي ابتكرها (الصقر الوحيد) مثل
المحافظ الاستثمارية والثروة وغيرها التي شجعت الناس على الكسل والتواكل والغش،
وأحبطت الليبيين الشرفاء الذين يكسبون عيشهم بعرق جبينهم.
إذا أضيفت
ميزانية الدعم إلى دخول الليبيين، فلا شك أن بعضهم سيفضل عدم صرف ماله في شراء
المواد السكرية والكربوهيدراتية والدهنية التي سوف تباع بسعر السوق العالمية،
فانخفاض أسعارها يشجع على المبالغة في شرائها والإفراط في استهلاكها أو رمي ما
يفيض منها في القمامة. وستقفل كثير من محلات الحلويات (الكنافة والبكلاوة وغيرها)
فيقل عرضها ولن يتهافت الناس على شرائها. وبهذا كله سيقل معدل الإصابة بمرض السكري
والأمراض الناجمة عن ارتفاع الكوليستيرول في الدم، ويقل معدل إنفاق وزارة الصحة
على استيراد الأدوية المعالجة لهذه الأمراض ومضاعفاتها. وإذا بيعت المحروقات بسعر
السوق العالمية فسيقلل الناس من استخدام السيارات فيقل معدل تلوث الهواء ومعدل
إصابات حوادث السيارات.
كما ستوفر
الدولة في مصاريف التخلص من فائض المواد الغذائية الأساسية التي تملأ حاويات
القمامة، وتتغذى عليها الحشرات الضارة والقوارض المختلفة التي تنقل الأمراض إلى
الناس فتسبب زيادة مصاريف مكافحة الحشرات والقوارض والأمراض المترتبة عليها.
سينقص
متوسط وزن الليبيين، ويتشجعون على ممارسة الرياضة، بهذا تتحسن صحتهم ويزيد إقبالهم
على العمل والإنتاج والدراسة والتحصيل. كما سيزيد إنقاص الوزن من معدل العمر
الافتراضي للسكان فيزيد الإنتاج بشكل غير مباشر.
الحكومات
في دول الغرب تقدم الدعم لمواطنيها المساهمين في دفع عجلة الإنتاج، مثل المزارعين
ومربيي الماشية والدواجن وأصحاب المصانع القائمة على المنتجات الزراعية والحيوانية
لإغاثتهم في حالات الكوارث الطبيعية والقحط والجفاف، وفي فصول الشتاء إذا اشتدت
البرودة وتراكمت الثلوج ما يسبب نفوق الحيوانات والقضاء على المزروعات. هذا هو نوع
الدعم الذي يجب أن تقدمه الحكومة الليبية لتشجع الإنتاج الحقيقي وليس إنتاج
(جماهيرية بومنيار) الذي تفنن في تفريغ الأسماء من معانيها، فتسميته جماهير البطالة
المقنعة (منتجون)، تتوازى تماماً مع تسميته ليبيا (الجماهيرية العظمى) و (النعيم
الأرضي)!
د. فوزي
بن عمران
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق