أحى الليبيون، الذكرى الأولى لثورة 17 فبراير 2011، بكل ابتهاج وسرور، فقد تخلصوا من نظام بغيض، وقدموا تضحيات جسام، في سبيل بناء ليبيا الجديدة على قواعد من الحق والعدالة والمساواة في إطار دولة تقوم على مبدأ سيادة القانون والمؤسسات،وهذا وذاك، لم يكن قائما قبل السابع عشر من فبراير، فلم تكن هناك دولة قانون ولا دولة مؤسسات، ومن ثم هيمن الاستبداد الطغيان بصورة بشعة قل نظيرها.ومن أجل التخلص من هذا الوضع الكارثى، بذل الليبيون أرواحهم رخيصة، وخاضوا صراعا عنيفا مريرا ضد طاغية العصر، حتى تمكنوا من القضاء عليه في مشهد سجله لهم التاريخ بكل الفخر والإعزاز. ومن يريد أن يتذكر ثورة السابع عشر من فبراير، عليه أن يتذكر شهداؤها الأبرار العظام، بكل الإعجاب والعرفان، فأولئك هم الذين صنعوا المجد واستردوا الكرامة و بعثوا الحياة في الوطن. ولكنهم في نفس الوقت تركوا مسألة "بناء ليبيا الجديدة، أمانة في أعناق الجميع، وهي أمانة مقدسة، لأنها ترتبط بأهداف ومبادئ ثورة فبراير.
فماذا حققنا من أهداف هذه الثورة؟ أو بمعنى آخر، ما هو التغيير الذي طرأ على ليبيا في أعقاب قيام الثورة؟
أن الأمر يتعلق بثورة شعبية عارمة وشاملة، اندلعت وتفجرت في كل مكان، من الشرق إلى الغرب على حد سواء، وشارك فيها كل الأحرار والشرفاء من أبناء هذا الوطن، وكانت هناك التضحيات والخسائر والألأم والمصاعب وكل الظروف القاسية التي رافقت الثورة من أول أيامها، ومع ذلك لم يستسلم أحد ولم يتراجع، فكان الأمر معبرا عن حقيقة أن لهذه الثورة أسبابها ومبرراتها القوية والمزمنة التي جعلت هذا الشعب وبكل رضاه، يخوض غمار حرب ضروس لا هوادة فيها، ويقبل التحديات المترتبة على ذلك. وهذا بالقطع والتأكيد، من أجل تحقيق أهداف معينة وبلوغ غايات محددة، وليس بغرض بذل التضحيات، دون مقتضى، أو الصراع لذاته، أو لتحقيق مطالب فئوية أو فردية أو مكاسب جهوية، فكل ذلك ليس من خصائص الثورة الشعبية ولا من طبيعتها، فالثورة أهداف ومبادئ وغايات وأسباب دفعت وبررت الانقضاض على نظام بغيض ومتخلف، لإسقاطه واجتثاثه من جذوره، وإقامة نظام جديد وفق رؤى ومفاهيم جديدة.
وهنا وبعد مضي سنة من قيام الثورة، وسقوط نظام "اللا نظام"، يثور سؤال عما تحقق من أهداف ثورة فبراير؟
هناك من يقول أن الشيء الوحيد الملموس الذي تحقق كان رفع علم الاستقلال ونشيده الوطني!! وهناك من يضيف إلى ذلك، الحرية التي يشعر بها المواطن الليبي بصورة لم يعهدها من ذي قبل!! هذه الحرية التي كان من أهم مظاهرها وصورها الملموسة، عودة المناضلين الليبيين الذي كانوا مشردين ومنفيين في الخارج، وكذلك في هذا الكم الكبير من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة داخل ليبيا، ولأول مرة، كدليل على حرية التعبير والرأي.
غير أن كل شيء من هذه الأشياء، كان نتيجة لازمة من نتائج الثورة، وعلى نحو تلقائي، فإن لم يكن كذلك فبفعل التغيير إلي أحدثته الثورة، على صعيد التفكير والأشخاص والعقليات والمفاهيم، فقد سقط حاجز الخوف، وتلاشى ذلك المراقب الذاتي الذي صنعناه بأنفسنا داخل أعماقنا!!! ومن أجل ذلك، فإن ثورة فبراير لم تكن انقلابا عسكريا أو حزبيا أو فئويا، أو قبليا، قامت به جهة أو مجموعة أو تنظيم، أو عشيرة للاستيلاء على السلطة بالقوة أو الخداع أو التآمر!! وإنما كانت ثورة شعبية، قام بها وقادها وتحمل مسؤوليتها،شعب بأسره، في مواجهة نظام قمعي غير شرعي، قام وأسس بنيانه على البطش والاستبداد والتنكيل بكل صوره وأشكال.
ولهذا السبب، فليس من المنطقي أن تغيب الحرية أو تقيد أو يحد نطاقها بعد الثورة، وإلا فما الداعي إلي القيام بهذه الثورة؟؟ وما المبرر لكل تلك التضحيات الجسام والمصاعب والمشاق؟؟؟
وبناء على ذلك يمكننا القول إن تلك الصور والمتغيرات التي طرأت، إنما كانت بسبب فعل الثورة مباشرة، وليس بسبب تدخل من جانب أحد. ولا نتيجة إجراء إداري أو تنفيذي اتخذته جهة معينة !! فلم يأت شخص ما، ليقول أنه يسمح برفع أعلام الاستقلال ، أو أنه يأمر أو يوافق على عودة المناضلين الليبيين المنفيين خارج الوطن، ولكن عودة هؤلاء تمت وتحققت بفعل الثورة، وكنتيجة منطقية ترتبت على مسبباتها ومبرراتها المتعددة.
وعلى ذلك فإن الثابت والمتيقن، أن شيئا لم يتحقق من أهداف الثورة على صعيد السلطات الانتقالية!! حتى المنحة أو العطية أو (!!) التي قررت السلطات الانتقالية صرفها لكل أسرة ليبية، بمناسبة العيد الأول للثورة، أمر يثير الكثير من التساؤلات!! ليس أقلها مشكلة السيولة، وليس آخرها، هذا التعميم في الصرف على كل ذي كتيب عائلة، حتى لو كان من اللصوص الذين نهبوا أموال هذا الشعب، أو ممن شارك القذافي في تنكيله وتقتيله وإذلاله للشعب الليبي خلال حقبة حكمه الطويلة!! لو أن هذه السلطات المعنية قالت إن تلك العطية أو "الهدية" إنما تصرف لذوي الدخل المحدود الذي أفقرهم القذافي متعمدا.. لكان الأمر معقولا.. أو أن تلك "لهدية" تعطى لأبناء الشهداء الذين قتلهم نظام القذافي أو أبناء المعتقلين الذين سجنهم نظام القذافي، سنوات طويلة، لكان الأمر مقبولا.. فالهدية هنا مرتبطة بعيد الحرية.
ولو أن السلطات الانتقالية بدلا من ذلك، وبمناسبة الذكرى الأولى للثورة، أعلنت أنها ستشرع حالا ومباشرة في ترجمة أهداف الثورة إلى أفعال وحقائق!!! لكان الأمر مريحا ومهديا ومسكنا لحالة الاحتقان التي أصابت كل الليبيين بسبب التجاهل المتعمد، أو التغاضي والابتعاد عن أهداف ثورة فبراير!!!
ولو أن السيد عبد الرحيم الكيب، رئيس الحكومة، أورد في خطابه، فقرة أو جملة، تفيد أن حكومته قد انتهت من وضع قائمة بالمندسين وعملاء النظام السابق، وأنه قد تقرر إبعادهم من الوظائف التي كانوا يشغلونها منذ زمن المقبور، وليس في الأمر هنا إقصاء أو إبعاد، بل هو تطبيق لروح القانون ومنطقه، فالذي كان يشغل وظيفة ما، بسبب ارتباطه أو خضوعه أو تبعيته أو عبوديته لنظام القذافي، يجب أن يختفي من المشهد، لأنه يثير المشاعر والأحاسيس الوطنية. نحن ندرك جيدا وعن يقين، أن الوظائف الرئيسية في نظام القذافي كانت تعطى، لأشخاص محددين بذواتهم، بسبب ارتباطهم به معنويا وماديا، وليس بسبب كفاءة مهنية أو دراية فنية أو تخصص علمي، فهذه الأمور لا يعرفها نظام القذافي، ولا يعترف بها، فكم من أمين أو وزير أو سفير أو مفوض أو مدير، لم يكن له من مسوغ في وظيفته سوى التطبيل للقذافي أو التنكيل بالليبيين لحسابه. وهذه النوعية قد وصلت إلى درجة التفوق في التملق والدجل والرياء، بحيث أنها تستطيع اختراق الموانع والسواتر وبكل سهولة، ولما لا!!!! وهي مجردة من الضمير والخلق والإحساس!!
وفي هذا السياق أيضا كان يمكن لوزير العدل، أن يهدي الشعب الليبي خبرا طيبا في عيد الثورة،مفاده، أن وزارته، بدأت في التحقيق في الجرائم التي ارتكبت قبل وأثناء ثورة فبراير، كجرائم القتل التي راح ضحيتها آلاف المناضلين الشرفاء، سواء داخل ليبيا أو خارجها، ومن أبرزها ما وقع في سجن أبو سليم. وهل الجريمة البشعة التي تعرض لها المواطن محمد عبد السلام خشيبة القذافي على أيدي حيوانات القذافي تسمح لأحد أن يتغاضى أو يتغافل أو يرضى بأي انتظار أو إبطاء!!! هل عرف العالم أجمع جريمة فظيعة، كهذه الجريمة البشعة؟ وربما كانت هناك جرائم ارتكبت من الفظاعة والقسوة والخسة بحيث تهون معها تلك الجريمة!!!!....
وليس هناك مبرر يحول دون البدء في التحقيق في الجرائم التي وقعت على المواطنين الليبيين، خاصة وأن تلك الجرائم ثابتة بأدلة يقينية، وهناك مئات، بل آلاف من الشهود والوقائع الدامغة التي تدين المجرمين الذين ارتكبوا تلك الجرائم، فهل هناك أحد في ليبيا لا يعرف قتلة الشهيد الصادق الشويهدي!!! أو الشهيد عابد عبد السلام الغرياني أو الشهيد أسامة البدري أو الشهيد علي البرعصي أو الشهيد عمر النامي أو الشهيد يحى زرتي.. ومئات وآلاف غيرهم!!!
وإذا لم يكن في البلاد، قضاء يصلح لأداء هذه المهمة الوطنية، فإن اللجوء إلى الاستعانة بكوادر قضائية من الدول العربية، للقيام بهذه المهمة، يعتبر أمرا واجبا لا مندوحة عنه،فليس هناك مبرر يسوغ الانتظار أو التأجيل في ملف حساس ودقيق كهذا الملف.
وينطبق القول ومن باب أولى على الجرائم التي وقعت أثناء ثورة فبراير وراح ضحيتها، شهداء كثر، كالشهيد محمد نبوس والشهيد حسن الجابر، والشهيد مؤيد البرعصي،، ومئات غيرهم...
وكذلك الاعتقالات وأعمال التعذيب التي وقعت قبل التحرير. ما هو المانع الذي يحول دون البدء في التحقيق في كل هذه الجرائم ؟؟؟ وتقديم الجناة للعدالة، فإذا كانوا هاربين خارج البلاد، فيمكن من خلال ملفاتهم القضائية، والوقائع المسندة إليهم، طلب تسليمهم من الدول التي يقيمون فيها طبقا لقواعد تسليم المتهمين والمجرمين المعمول بها دوليا، خاصة وأن أغلب الجرائم التي وقعت هي جرائم إرهابية بشعة يتأذى منها الضمير الإنساني في مجموعه ومن ثم يكون التسليم، أمرا وجوبيا.
وفي هذا الإطار، أيضا، لو أن وزير الخارجية، أذاع بيانا تضمن أن عملاء القذافي الذين كانت لهم السيطرة الكاملة على ما كان يعرف كذبا "بالمكتب الشعبي للاتصال الخارجي" قد تم تسريحهم، فقد انقضى الغرض الذي لأجله كانوا يعملون!!
وفي هذا الاتجاه أيضا، الاتجاه نحو الالتزام بتطبيق أهداف الثورة، لو أن وزير التعليم العالي، هنأ أبناء وطنه بمناسبة العيد الأول، وقدم هدية موضوعها تطهير الجامعات ممن زرعهم القذافي ونظامه فيها، وجعلهم أساتذة دون أن يتوافر فيهم الحد الأدنى لممارسة التدريس أو العمل الأكاديمي في الجامعات!! هل في هذا الإجراء صعوبة أو ظلم؟؟ أم أن الظلم هو في استمرار هؤلاء في أماكنهم ينشرون الجهل والغباء!! أم أن نظام القذافي كان يهتم بالجوانب والمعايير العلمية؟؟؟!! ولو أن وزير التعليم العالي طبق على أعضاء هيئة التدريس الجامعي، المعايير والشروط المطبقة في تشاد أو تونس أو مصر مثلا وفي حدها الأدنى، لكان جديرا باحترام كل الليبيين وتقديرهم، لأننا في مرحلة إعادة بناء ليبيا الجديدة، يجب علينا القيام بواجبات وأعمال وتضحيات تقتضيها تلك المرحلة، وآلا تكون للعلاقات الشخصية أو المصالح الخاصة أو المجاملات تأثير أو دور في المرحلة القادمة.
ولو أن جميع الوزراء كل فيما يخصه، وفيما يتعلق بشغل الوظائف، أن يستلهم روح ثورة فبراير، وأن يتخلص كل واحد منهم من الداء أو المرض القديم الذي أوجده نظام القذافي وجعله قانونا أعلى، وأدمن عليه الجميع، ويقضي بحصر الوظائف للموثوق فيهم أمنيا وثوريا، ودون أدنى اعتبار للمعايير الأخلاقية والعلمية والمهنية والفنية.. لو أن هذا العرف الذي ظل مهيمنا زمن القذافي تلاشى، وحل محله عرف جديد يقوم على الكفاءة والموضوعية والنزاهة، والشفافية والإعلان والمسابقة، فإن ذلك يعني أننا فعلا في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق أهداف الثورة، وهي الأمانة المقدسة التي وضعها الشهداء في أعناق كل منا، وأرواحهم الطاهرة ترقبنا، وعن قرب.
المنفيين خارج البلاد الي متي محرومين من ليبيا
ردحذف