سمعت متحدث لبق، في واحدة من محطات ليبيا الجديدة يقول: "نحن نعيش حالة ثقافة الغنيمة.." أعجبت جدا بوصف حالتنا، وكم وددت لو أنه ربط ثقافة الغنيمة بثقافة "المكافأة قبل الكفاءة" فما هي ثقافة المكافأة؟
هي ببساطة: ليكن هذا مديرا لأنه أعلن انشقاقا مبكرا، أو أنه هرب سلاحا..فكوفئا بوظيفة قيادية تترأس كفاءات لم تهرب سلاحا ولم تنشق مبكرا.. هذا أمر مرعب!!مرعب أن تتصدر جماعة المكافأة قيادة الكفاءات!! فما الفرق بين تكليف ثوري (في سلاطة القذافي) بتولي منصب يسير منه كفاءات مؤهلة؟ وبين بعض المعايير في اختيار بعض القيادات في عهد ثورة 17 فبراير؟ أليس هذا ما قهر الليبيين زمن الغبن؟
إن ما يحث الآن، في ليبيا الثورة، هو ثقافة المكافأة لتحل محل الكفاءة في مناخ تسوده ثقافة الغنيمة!! لماذا أقول لكم ذلك؟ لأنني ببساطة جلست مع صديق مؤهل مطلع، في القاهرة، مكلف بأمر مهم!! فحدثني – بحسرة - عن أمور يسيرها أبطال المكافأة وأن التصدي لهذه المهزلة سوف يزعج أبطال الغنيمة ويقف حائلا دون تحقيق مأربهم.. فأبطال الغنيمة يدفعون بأبطال المكافأة لتصدي المشهد، فيما تتحسر الكفاءات من دون قدرة على النقد، فمن بمقدوره أن ينتقد رجال المكافأة.. الذين وضعوا رؤوسهم على أكفهم وخرجوا ليلة الخامس من ابريل ليدعموا ثورة 17 فبراير، ثم لبسوا رؤوسهم بالمقلوب، وصاروا أبطال ثقافة الغنيمة!
المؤسف، حقا، أن هذا هو واقع الحال. ومن منا لا يعرف هذه الحقيقة؟ ومن منا لا يتحسر منها؟ وكيفما يكون واقع الحال، فإن أيام معدودة تفصلنا عن الذكري الأولى لانفجار ثورة 17 فبراير المباركة، وهذه المناسبة هي على نحو ما - عيدٌ عليه مهابة وجلالة - عيد يستحق أن يتبادل فيه الناس التهاني لأنهم تحرروا بعد استعباد طويل، فهنيئا لشعبنا العظيم بهذا العيد الحقيقى، الذي ستكتمل فرحة الشعب به عندما يقدم لهم أوليا الأمر كشف حساب!! كشف كالميزانية السنوية – مثلا - ليعرف الناس مكاسبهم، أو حجم خسائرهم. أخذين في الاعتبار أنهم يعرفون أنه لن تكون ثمة خسائر أسوأ مما خسروه طوال 42 سنة كئيبة ؛ ولكنهم يريدون فقط أن يعرفوا.. أن يخبرهم أحد عما جراء وعما سيجري؟ ولو أن من تولوا المسئولية يخبرونهم، باتصال، وبشفافية لانقشع ضباب الكثير من المشاكل البسيطة العالقة. وأنا شخصيا، بصفتي كاتبا صرت، بعد الثورة، حرا كتبت بامتداد العام (51 مقالا) عما رأيت، وعما سمعت، وعما شاهدت.. وقلت رأي بحسب ما قدرني الله عليه..
شيء واحد نوهت عليه في مقال سابق، ولكنني أرى أن أعيد كتابته وبوضوح وتفصيل، فكما لنا حق على السيد رئيس المجلس الوطني الانتقالي في يطلعنا عما يجري في البلاد، ويفسر لنا كيف تصدرت ثقافة المكافأة أحقية تصدر ثقافة الكفاءة، سوى ذات الأصول المحلية أو العائدة من غربة متعبة؟ ومثلما لنا حق عليه، له حق علينا في توضيح ملابسات اختياره كما حدثت، وليس كما يقول بعض المنفعلين بأن مجيئه للمجلس غامضا!؟ وأنا لا أنوى، مطلقا، أن يفهم من مقالتي هذه أنني راض تماما عن مسيرة المجلس، ولا لتحسين صورة أحد، أو ( تسويقه) بل أنا مع من ينادون بتصحيح المسار فقط، لأن الناس اتفقوا على أنه أخذ منحنى خطر ومهمتنا جميعا تصحيحه. خصوصا فيما يتعلق بعدم اختيار الكفاءة المناسبة للمكان المناسب إرضاء لثقافة المكافأة فصارت ثقافة الغنيمة هي السائدة، وهذا في تقديري هو أسوأ هفوات إدارة الأزمة!!
ولأنني كنت شاهد عيان مبايعة السيد المستشار مصطفى عبد الجليل ليتولى رئاسة المجلس الوطني الانتقالي، بل أحد الذين بايعوه بالفعل، فيتعين أن أخبركم كيف تمت هذه المبايعة التاريخية، بسبب أهميتها وخطورة توقيتها؛ فماذا حدث؟
سقطت الكتيبة - (الباستيل) – وفر المرتزقة، وتناثرت القبعات الصفراء، وهرب السفاح عبد الله السنوسي، وترك الساعدي مرعوبا المدينة التي أعطاها له أبوه!! وعاد ثوار بنغازي إلى محكمة شمال بنغازي يتطلعون لمن يقودهم نحو إتمام الثورة، فساهم كل من كان بمقدوره أن يساهم. تجمع عدد ممن نظموا تظاهرات سابقة تنادي بالتحقيق في مذبحة أبو سليم، انظم إليهم عدد آخر من مختلف فئات الشعب، وتأسست نواة تنظيمية قيادية، هي ما تسمت، فيما بعد، بإتلاف ثوار 17 فبراير.
من أمام مقر عملي، الذي يقع في مواجهة الجامعة الدولية للعلوم الطبية انتبهت لعدد من الأصدقاء: مثقفين وأكاديميين يتجمعون يوميا هناك، ثم أخبرني أحدهم عما يفعلون، فالتحقت بهم : كانت صالة الاجتماعات مفتوحة طوال الوقت، تستقبل كل من يريد المساهمة، أذكر منهم، بالإضافة إلى ما سوف يذكر لاحقا من أسماء: الأستاذ إدريس الطيب، الدكتور عبد الله المنصوري، الأستاذ رجب الشلطامي، الأستاذ محمد الكيخيا، الدكتور عبد الله شاميه، الدكتور زاهي المغيربي، الدكتور على سعيد، الدكتورة أم العز الفارسي، الأستاذة نعيمة جبريل، الدكتورة آمال سليمان، الدكتور مصطفى الفاخري: الدكتور نجيب الحصادي، الدكتور أبوبكر بعيره الأستاذ مصطفى الورفلي، الدكتورة هالة الأطرش، الأستاذ أحمد الفيتوري، الدكتور يونس فنوش، وشقيقه الأستاذ محمد فنوش الأستاذ عطية الأوجلي، الدكتور محمد المفتي، الأستاذ فرج الترهوني..والأستاذ سعد الطرابلسي، والأستاذ محمد بوشناف.. وليعذرني من خانتني ذاكرتي في ذكره، فلقد التحق كثيرون ممن انتبهوا لأهمية ما كان يدور في تلك الاجتماعات وكان المجتمعون يتناولون، يوميا، مسائل مهمة، يناقشونها، وتشكلت لجان متنوعة، وصارت المعلومات تتدفق على المقر، وتأسيسا عليها يتخذ إجراء ما، فمثلا كان للدكتور السنوسي الطاهر أخ يعمل بمطار سبها، يخبرنا يوميا عن الطائرات المحملة بالمرتزقة التي تصل يوميا، ويخبرنا عن تحركات أبناء وأعوان الطاغية، وكان الأستاذ عمران بورويس، بحكم تخصصه، على اتصال بقانونيي المناطق الغربية.. وكان رمضان جربوع يمدنا بمستجدات الوضع الدولي بسبب علاقته المهنية مع بعض القنوات والصحف الغربية.. كل كان يساهم بما يستطيع، وكان لزاما أن نعمل تحت مسمى فاتفقنا على أن يكون عنوانه(مجموعة الدعم والمشورة) من دون تحديد أسماء بعينها، باعتبار أن التجمع مفتوحا لكل من يريد المساهمة.
واستمرت اجتماعاتنا بين تفاؤل وتشاؤم، للأسباب المتنوعة، التي لم تكن مخفية على أحد، خصوصا في تلك الأيام الحرجة الأولى لاندلاع الثورة. ولعل غياب قيادة سياسية منظمة للثورة كانت من ضمن هذه الأسباب، فلا أحد يهمش دور الأساتذة القانونيين، خصوصا المحاميين، في تسيير الأزمة ولكن غياب الخبرة السياسية المطلوبة خلقت نوعا من التخبط، مما جعل الدكتور محمد سعد يطرح ضرورة تأسيس مجلس وطني انتقالي، فأخذ الأستاذ عمران بورويس المبادرة، وأقترح الأستاذ المستشار مصطفى عبد الجليل، لكونه من أوائل المنشقين وبسبب تاريخه المشرف. وافق الحاضرون عليه، فاتصل هاتفيا، في الحال، بالسيد المستشار وعرض عليه المقترح، وفتح لنا مكبر صوت الهاتف، فسمعنا من السيد المستشار موافقته منوها أن ليبيا ليست بنغازي فقط، ولذلك يتعين مبايعة بقية مدن ليبيا، أو على الأقل كبرياتها، فاتصل الأستاذ عمران بالأستاذين عبد الله بانون و محمد سالم درا، باعتبار أنهما من رئاسة لجنة المبادرة الوطنية، فسمعنا موافقتهم عبر مكبر الصوت. ثم اتصل بالأستاذ هادي التريكي باعتبار انه مصراتي الجذور، ثم بأحد رجال الزاوية، وهو الأستاذ المحامي عبد الباري تربل وسمعنا جميعا موافقة كل من ذكرت. ومن خلال هاتف الأستاذ عمران بورويس اتصلنا بالسيد المستشار مصطفى عبد الجليل وأخبرناه بموافقة الجميع ومبايعتهم له ليترأس المجلس الوطني الانتقالي، واتفقنا على مجيئه إلى بنغازي صباح اليوم التالي ليجتمع مع رجال ائتلاف 17 فبراير.
يوم 26 فبراير 2011 م حضر، عند منتصف النهار، السيد المستشار رفقة عدد من قادة الثورة في درنة وطبرق والبيضاء واجتمعنا بصالة الاجتماعات بالجامعة الدولية للعلوم الطبية، وحضر الأستاذ عبد الحفيظ غوقه، وعدد من رفاقه، أذكر منهم الأستاذ مصطفى مانع، والدكتور عاشور شوايل، الذي نبه الحاضرين بضرورة تعديل الوثيقة التي أعددناها، وقراءها الأستاذ عمران بورويس بضرورة التأكيد على أن طرابلس هي عاصمة ليبيا الأبدية. وتم الاتفاق على أن يتولى المستشار مصطفى عبد الجليل رئاسة المجلس الانتقالي، ويكون الأستاذ عبد الحفيظ غوقه الناطق الرسمي للمجلس، وقرأت الفاتحة، بعدها أكد السيد المستشار ضرورة اجتماعه بالمرحوم الشهيد عبد الفتاح يونس فانطلق منا إليه. وفي المساء تفاجئنا بتعديل طفيف للوثيقة وبتعديل مهمة الأستاذ عبد الحفيظ غوقه من ناطق رسمي إلى نائب رئيس المجلس.
كل ذلك موثق بالكلمة والصورة لدى مجموعة الدعم والمشورة، التي أشهرت مؤخرا رسميا، والتي يترأسها الأستاذ عمران بورويس. وموثق أيضا من حضروا هذه المبايعة.لماذا أقول لكم ذلك؟ لأنني أريد ببساطة شديدة، أن أعطى السيد المستشار مصطفى عبد الجليل حقه في أنه تمت مبايعته - على نحو ما - ديمقراطيا، وليس كما يهمز ويلمز بعض الناس. وبالطبع هذه الحقيقة لا تهمش حق الليبيين في معرفة ماذا يحدث داخل المجلس وخارجه؟ وبحقهم في المطالبة بتصحيح المسار! ذلك إن كنا نريد أن نتفادى مثل الذي حدث مساء يوم 21/1/2012م أثناء انعقاد المجلس الوطني الانتقالي بمدينة بنغازي الثائرة على الدوام.
وكل عام وثورة 17 فبراير بخير.
محمد عقيلة العمامي
2 فبراير 2012
** شطر بيت من (زمن المملكة) الذي يذكره المخضرمين: عيد عليه مهابة وجلال... عيد وحسبك أنه استقلال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق