كثر
مؤخراً الهجوم على كل من يدعوا إلى تطبيق النظام الفدرالي حيث تراوحت الآراء في
حدتها من قائل يقول أنها بداية التقسيم مروراً بمن يرى أنها جهوية وانتهاءاً بمن
يطالب بالضرب بيد من حديد وقمع كل من ينادي بها. في هذه الأسطر أحاول أن ألقي نظرة
تحليلية حول كل هذه الآراء.
قبل
الولوج إلى تحليل هذه الأصوات المعادية للفدرالية أحب أن أذكر أن هناك حقيقة مرة
لا ينفع إنكارها أو المكابرة بنفي وجودها. هذه الحقيقة المرة هي أن ليبيا تم
تصحيرها سياسياً وتدمير النخبة فيها على مدى 42 عام. هذه الحقيقة تفسر لنا الكثير
من ما نراه من تسرع في الحكم على الأشياء، وخاصة ما يرتبط منها بالسياسة، دون أدنى
جهد للإطلاع والبحث لبناء فكرة نقدية لها قاعدة متينة. هذه الضحالة السياسية والعزوف
المنتشر عن القراءة بجميع مجالاتها قد خلق معضلة اللاوعي المركب. واللاوعي المركب
هو عدم وعي الإنسان بأنه لا يعي.
أحد الصور الجلية لهذا التصحر
السياسي وحالة اللاوعي المركب هو ما حصل مع أول حراك سياسي في ليبيا ما بعد التحرير
في ما يخص مسألة نظام الدولة القادم. حيث أننا نعيش هذه الأيام استحقاق مهم وهو
تحديد نظام الدولة السياسي الذي يجب أن نتبناه ونبنيه. وبطبيعة الأشياء، فإن تحديد
نظام الدولة السياسي هو أول شيء يجب طرحه والاتفاق عليه لأن كل ما يلي يعتمد على
النظام الذي سنختار. ولكن ومع بدء النقاش والحوار وعندما طرح بعض الناس ومنهم
المختصين وأساتذة الجامعات وبعض من الطبقة المثقفة، عندما طرحوا فكرة الفدرالية،
حصلت عليهم هجمة شرسة من التخوين والتنديد والمطالبة بكتم صوتهم. هذه الهجمة كانت
دليل على وجود المشاكل التي ذكرت سابقاً. ولكي نوضح حقيقة هذه المشاكل، سوف أبداء
في سرد معظم ما تمحورت حوله الانتقادات وأقوم بربط كل منها بحقيقتها وعلاقتها
بمشكلة الأمية السياسية ومتلازمة اللاوعي المركب:
أولاً: معظم من
رفض الفدرالية وندد بها أدعى أنها بداية للتقسيم أو تفكيك الدولة وإليكم الحقائق
التي تدحض هذا الإدعاء:
- كثير من دول العالم فدرالية، حيث أن 40 % من سكان الكرة الأرضية يعيشون تحت أنظمة فدرالية أي ما يعادل 2,800,000,000 (2 مليار و 800 مليون نسمة). ولو أن الفدرالية بطبيعتها تؤدي إلى التقسيم لما بقي عليها الكثير من دول العالم. أي أن الدول الفدرالية ستسعى لتطبيق نظام يحل محل الفدرالية ولو بشكل تدريجي خوفاً على تفتت الدولة في المستقبل ولرأيناها تنقرض وتنتهي مع الزمن، ولكن ما يحصل هو العكس حيث أنها مازالت تطبق حتى في دول لم تكن فدرالية. وهنا لم يكلف من يرفضون الفدرالية أنفسهم عناء البحث والإطلاع ليعرفوا مدى انتشار هذا النظام كونه أحد أنظمة الحكم السياسية وليس كما يسمونه وصفة انقسامية لتفتيت الدول.
- الفدرالية أو النظام الاتحادي مطبقة منذ مئات السنين في دول مثل أمريكا وكندا وبريطانيا. وكلنا يعلم مدى تطور وتقدم هذه الدول الديمقراطية. فعلماء الاجتماع والتاريخ والعلوم الإنسانية عموماً في جامعاتهم الأفضل في العالم من المؤكد أنهم سيقترحون على حكوماتهم إلغاء النظام الفدرالي منذ زمن طويل إذا كان سيؤدي إلى التقسيم في المستقبل. لم نسمع بأي صوت منذ مئات السنين في هذه الدول يطالب بدمج الولايات في نظام دولة مركزي سياسياً.وبالطبع لا يدرك معارضي الفدرالية أنها مطبقة منذ مئات السنين إلى الآن مثل أمريكا التي تزداد قوة وتطور وتقدم.
- الفدرالية تم تجربتها في ليبيا وهي ليست جديدة. كلنا يعلم أن ليبيا بدأت فدرالية وبقيت فدرالية منذ 1951 وحتى 1963 حين تحولت من فدرالية سياسياً إلى مركزية سياسياً.
وهنا يجب
التوقف والتفكير مئة مرة!!!!! هل بعد تطبيق الفدرالية في ليبيا لمدة 12 سنة نتج
عنها تقسيم ليبيا أم مزيد من الاندماج فيها؟؟؟؟؟؟ كلنا يعلم أن الفدرالية قادتنا
إلى مزيد من الوحدة والاندماج. إذاً فكل من أدعى أن الفدرالية تقود للانقسام،
فعليه مراجعة نفسه لأن تاريخ ليبيا بالذات يدحض إدعاءه. وهنا بصراحة يتجلى عدم فهم
وإطلاع من يدعون أن الفدرالية تعني الانقسام، يتضح أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء
الإطلاع حتى على تاريخ ليبيا ـ ولا أقول تاريخ بلدان أخرى ـ ليعرفوا أن الفدرالية
في الحالة والتجربة الليبية قادت إلى مزيد من التوحد وليس الانقسام.
ثانياً: يردد
كثير من ينتقدون النظام الفدرالي بأن ليبيا دولة موحدة ولا ينفع أن نرجع بها للخلف
ونقسمها إلى ولايات ويدعون بأن كل الفدراليات بدأت بإتحاد دول منفصلة وبالتالي لا
يصلح تطبيقها على دولة هي في الأصل مركزية سياسياً مثل ليبيا.
- وهنا يخلط المنتقدون بين تعريف الفدرالية كنظام سياسي توزع فيه السلطة بشكل أفقي بحيث يشمل الجميع ويستوعب الاختلافات بجميع أنواعها، وبين هدف الوحدة بين دولتين أو أكثر. فإن الدول المنفصلة والتي تفكر في الإتحاد أمامها خيارات متعددة لتبني أحدها كنظام سياسي. فكثير من الدول تذهب للخيار الفدرالي بينما يذهب البعض للخيار المركزي. لذا فخيار الفدرالية جاء ليس كأداة التوحيد وإنما كنظام سياسي تم تبنيه من ضمن عدة أنظمة متاحة.
- البرازيل تعتبر مثال رائع جداً على دولة موحدة تعرضت لحكم دكتاتوري شمولي مركزي كما حصل بين عامي (1985 ـ 1964) ثم بعد التخلص من هذا النظام الديكتاتوري قرر البرازيليين الذين كانوا دولة سياسياً مركزية، قرروا التحول إلى النظام الفدرالي. وللعلم البرازيل كانت من أكثر الدولة في العالم مديونية وتدهور اقتصادي، ثم ها هم اليوم بعد 23 عام من النظام الفدرالي يتربعون على أحد أكبر 20 اقتصاد في العالم.
هنا يظهر
بشكل ناصع لا شك فيه أن من يشككون في الفدرالية لا يتعبون أنفسهم في البحث في
تاريخ الدول التي تعتمد نظام الفدرالية مثل البرازيل. وهنا يجب التركيز والتفكير
مئة مرة!!!!!!!.... إذا طبقت الفدرالية في ليبيا فإنها لن تكون أول دولة متحدة ومركزية
سياسياً تترك طواعية النظام المركزي سياسياً وتستبدله بنظام سياسي فدرالي حيث
سبقتها البرازيل في عام 1988.
هذه
النقلة النوعية في نظام الحكم هي ما جعل البرازيل ولأول مرة أحد أقوى الاقتصاديات
في العالم. والغريب في الأمر أن البرازيل هي دولة مستقلة منذ العام 1822 ومرت
بجميع الأنظمة السياسية، ولكنها رغم كبر مواردها وضخامة مساحتها إلا أنها لم تكن
أحد أكبر الاقتصاديات في العالم إلا بعد ما طبقت النظام الفدرالي. وبما أن معظم من
ينتقد الفدرالية يدور كلامهم حول النقطتين السابقتين، فإنني سأكتفي بهذا القدر من
التوضيح بأن المشكلة الأساسية في رسم مستقبل ليبيا السياسي هو غياب الوعي السياسي
في كثير من الحالات ومعضلة اللاوعي المركب.
وسأغتنم
الفرصة قبل الختام للتعريج على المثال البرازيلي. فالبرازيل التي عمرها حوالي 190
عام كدولة مستقلة، قد مرت بمعظم أنظمة الحكم. فهي في بدايتها كانت ملكية
إمبراطورية ومرت بمرحلة الملكية الدستورية، ثم أصبحت جمهورية بنظام سياسي مركزي وحكم
ديمقراطي يتبادل البرازيليين فيه الحكم بالانتخاب. وهنا سأتوقف قليلاً كون
الرافضون للفدرالية يردون على من يقول بأن الفدرالية هي أقوى ضمان لعدم ظهور
ديكتاتوريات بقولهم أن النظام الديمقراطي والدستور يحميان الدولة من الوقوع في يد
دكتاتور. وهنا المثال البرازيلي يدحض هذا الإدعاء. ففي العام 1964 قام الجيش
بانقلاب وحكم البلاد طغاة استمروا في الحكم حتى العام 1985 أي واحد وعشرين عام من
حكم دكتاتوري شمولي. ولأن النظام السياسي المركزي تكون فيه حكومة مركزية واحدة،
فإنه من السهل على جنرال أو عدة جنرالات من عمل انقلاب عسكري والسيطرة على الحكم
بسبب تمركزه في حكومة وحيدة مركزية.
وفي
الختام أحب أن أنوه إلى أنه في وجود حالة من عدم الثقة بين أطراف عدة في ليبيا،
فإن النظام الفدرالي هو الحل الذي يعطي ضمانة لجميع الأطراف أن لا أحد سيستأثر
بالحكم وأنه لن يتم تهميش أي من مكونات الشعب الليبي. وبصراحة، فإن أي طرف يصر على
رفض المركزية بعد معرفة حقيقتها والبعد عن الإفتاء فيها دون علم، أي طرف يتمسك
برفضه حتى طرح الفكرة على المستوى الرسمي، فإنه سيزيد من جو عدم الثقة ويدفع
الأطراف المنادية بالفدرالية للمزيد من التمسك بها. والسبب ببساطة هو أن حقائق
التاريخ والحاضر تثبت كلها بطلان فكرة ربط الفدرالية بالتقسيم، وبالتالي فإن من
يرفض الفدرالية خاصة على المستوى الرسمي إنما لسان حاله يقول أنا غير مستعد لطمأنة
أخواني من لديهم شكوك وأنا مصرّ على تمركز السلطة في حكومة واحدة وأن السلطة لن
توزع بشكل أفقي. وهنا بصراحة، فإن الأطراف المتحكمة والتي وصلت إلى السلطة وذاقت
حلاوتها لا تريد أن تُـفرغ السلطة التي في أيديهم من محتواها لأن نظام الأقاليم
يُـفقد حكومة المركز سلطتها وتتحول إلى حكومة واجهة لا تملك القرار داخل الأقاليم
ولا سلطة لها على ثروات البلد كونها ستوزع على الأقاليم.
المصدر: ليبيا المستقبل
الغريب هو الحملة المحمومة لاحياء الفيدرالية في بلد علي شفي تقسيم من الداخل و الخارج.و لماذا التشبث بالفيدرالية الايطالية ذات الاقاليم الثلاثة ,لماذا لا يكون عندنا عشرة اقاليم و نسعي لتوحديدها تحت شعار الفيدرالية ان لم يكن الهدف هو الجهوية و الانفصالية ----- الجميع يعرف الاجابة و لكننا نحاول البحث عن اعذار و اسباب للقراراتنا التي تتجسد فيها مصالحنا حتي و لو كانت علي حساب الوطن.
ردحذف