لابد لنا
في البداية من الإشارة إلى بعض الأصوات التي صرنا نسمعها من بعيد، وأخذت في
الاقتراب من آذاننا ، تنادي بالعفو والصفح عن أشخاص تلطخت أيديهم بدماء الليبيين،
وسرقت أموالهم واعتدت على ممتلكاتهم، وقد بُررت تلك الأصوات بأن هؤلاء الأشخاص لم
يكن لهم من دور مباشر ولكنه مساعد أو مساند غرتهم الأيام والحوادث والذهب الذي ملأ
رقاب أفراد أسرهم وأصابع أيديهم وأربطة أعناقهم فنسوا أن الأمر لن يدوم.
وإذا ما
كانت مسألة العفو عمن تلوثت أيديهم بشكل مباشر أو غير مباشر بدماء الليبيين لا
تبدو – حتى من خلال مجرد ذكرها – لا هي بالمنطقية ولا بالجائزة، فإن أموراً أخرى
يمكن أن تكون محوراً لمناقشات ومفاوضات وإن كان محوراً محفوفاً بالمخاطر لكن تبقى
المسائل رغم ذلك مطروحة لإيجاد سبل للحوار والمناقشات وقد لا تصل إلى منتهاها!!
وقد تبدو
مسألة العدالة والإنصاف والمصالحة من المفاهيم والأفكار الجديدة المطروحة، لكن أية
فكرة ستظل هكذا دون خلق آلية لتفعيلها ذلك أن هذه الآلية هي التي تكشف عن نجاح
الفكرة أو إخفاقها، وكذلك عن مدى قبولها واستهجانها خاصة في المجتمعات التي حصلت
فيها أمور تكشفت بشاعتها بعد رحيل دكتاتور بدت معالمه مفضوحة بعد سقوط آلاف
الشهداء والجرحى الذين غصت بهم مستشفيات الدولة الليبية والدول الأخرى.
لابد لكل
هذا من انعكاسات زاد أوارها – في ليبيا – أن حقبة القذافي قد امتدت إلى ما يزيد عن
أربعة عقود ، كأنها أربعة قرون أو يزيد ضاع فيها النسل والأموال وحطمت الأخلاق
بأيادٍ استغلت أبشع استغلال في الاعتداء على أبناء جلدتهم وسرقة ثرواتهم والقيام
بأعمال يندي لها الجبين.
وفي خضم
كل هذا لابد أن يكون البحث عن آلية أو وسيلة للعدالة والمصالحة الوطنية من الأمور
الصعبة وإن لم تكن مستحيلة، لكن الموضوع يحتاج إلى دراسة ووقفة متأنية فاحصة
وعميقة في آن الوقت، ويمكن أن يستفاد في هذا المجال بتجارب الشعوب الأخرى في هذا
الإطار – وإن كانت هناك اختلافات جذرية وجوهرية – إلا أن الأمر قد يُحصر في نطاق
المبدأ لا التطبيق ليظهر التجسيد العملي في ليبيا مسبوغاً بالطابع المحلي
(الليبي).
وفي
الواقع إنني – وبالرغم من المآسي – التي ارتكبت في ليبيا – لم أزل متفائلاً وإن
كان هذا التفاؤل سيظل يُحيط به غمام خلفه عصر القذافي تمثل فيما تركه من حساسيات
بين الأماكن وإن استشعرت أن الليبيين في كثير من المناطق قد أدركوا مكائد القذافي
واستوعبوا الدرس، ولكن وبالرغم من ذلك لابد من خلق آلية للعدالة والإنصاف
والمصالحة الوطنية في ليبيا، وفي اعتقادي أن الشعب الليبي سوف يكون مستوعباً
لأشياء كثيرة وإن كان ذلك قد يكون صعباً في البدء.
وقد تبدو
على السطح مسألة الذين ارتكبوا جرائم في عهد القذافي وللأسف الشديد هم ليسوا قلة،
حيث قد لوثت عن عمدٍ أيادي الكثيرين بعد أن تم إغرائهم بالمال والجاه والسلطان
فعميت أبصارهم – كذلك من ارتكب العنف والاضطهاد في ذلك العصر فكانت المراكز والمقرات
الأمنية والسجون السرية شاهدة على ذلك، وهي أماكن عُذِّب فيها الكثيرون وغادرها من
حالفهم الحظ من تلك الأماكن بذكريات سيئة – ومنهم من قضى نحبه تحت التعذيب في
ردهات عميقة ودفنوا في أماكن لم تعرف إلى يومنا هذا.
وفوق هذا
وذاك هناك الذين عاثوا في مال الشعب الليبي فساداً وسرقة وقاموا بتحويل المليارات
من الدولارات إلى خارج البلاد حرّفوها على ملذاتهم ومتعهم الشخصية، وجلبوا بها
المغنيات والغواني وأنفقوها في دور الملاهي وأماكن القمار وهربوا بجلودهم بعد أن
نجحت الثورة الوليدة إلى خارج البلاد ليتمتعوا بأموال الشعب دون رقيب أو حسيب.
وإذا كان
من هرب قد يلاحق قضائياً بالرغم من أن الجهود – حتى الآن – لا نراها جدية، فإن من
لم يغادر ليبيا وانضم إلى الثورة أو آثر الانزواء في انتظار مسائلته أياً كان
وصفها – فهو لم يزل بين أحضان المجتمع ولن يكون هناك استقرار لهذا المجتمع، وقد
رأى الضحايا جلاديهم وسارقي أموالهم يمرحون – إلا بوضع أسس يتم من خلالها رسم
معالم لعدالة ومصالحة وطنية، ولن تكون هذه المصالحة إلا من خلال آليات أعتقد أنها
ليست ككل الآليات بل يجب أن تكون سبل تتوافق ورؤى المجتمع الليبي!!
وفي هذا
الإطار قد تطفو على السطح بعض المعالم في شكل آليات مقترحة ، تظل دائماً عرضة
للحوار والمناقشة:
أولاً: المفاوضات
وهو طريق
– كما أرى – وعر الدروب شائك المسالك ولكنه في كل الأحوال سبيل لابد أن يُطرق، وقد
يثير هذا الطريق بعض المسائل والتساؤلات حول هوية الأشخاص الذين يستطيعون ولوج هذا
الدرب ، وهل يمكن قبولهم أو حتى تقبل الحديث في هذه الأمور خاصة فيما يتعلق
بالاعتداءات الصارخة.
في
اعتقادي أن المسألة بالرغم من صعوبتها ليست مستحيلة، وهو أمر يتطلب الاستعانة
بمختصين واختصاصيين من هذا الجانب، ومن جـانب آخر أن (الحوار المباشر) مع الضحايا
هو الأجدى كما أرى، ذلك أن هذا النوع من الحوار يتيح للضحية سرد الواقعة كما حصلت
بآلامها ومآسيها وما سببته عند وقوعها وما نتج عنها بعد ذلك في سيرة حياة الضحية،
وفي ذلك تخفيف وإفراغ لما في الصدور من جهة ومعرفة الحقيقة الكاملة غير منقوصة في
الغالب.
وإذا ما
كـان بعض الضحايا لا يستطيعون أو لا يرغبون في الظهور العلني أمام المحققين أو
الناس بشكل عام فإنه يمكن الاستعانة في هذا الشأن (بالحديث من خلف الستار) وهو نهج
ليس غريباً وليس مستهجناً خاصة في بعض الجرائم.
كما أن
هذا الأسلوب (الحوار المباشر مع الضحية) سوف يساهم بدرجة كبيرة – حسب اعتقادي – في
إماطة اللثام عن أمور عن طريق التفكير بشكل منطوق يغني الآخرين الذين يريدون
المشاركة في إتمام المصالحة عن التحليل والتفكير في مسائل كان يُعتقد أنها لم تقع
إلا على شخصه دون آخرين غيره.
ثانياً:الكشف عن
الحقائق منذ البداية
ذلك أنه
في كثير من الأحيان – ما لا يتم الكشف عن الحقائق التي يتم التوصل إليها إلا بعد
زمن قد ينسى فيها الضحايا الكثير مما تحدثوا عنه أو بالأحرى محاولة التناسي.
ولذلك فإن
ما قد يساعد في إذكاء الشعور بالإنصاف والعدالة هو سماع ما تكشف عن التحقيقات من
اعترافات مرتكبي الجرائم.
وإذا ما
كانت مسألة (السماع الفور) لاعترافات مرتكبي الجرائم قد تكون في بعض الأحيان غير
متصورة، فإن العمل على سماع الضحايا لاعترافات مرتكبي الجرائم قد يخفف من وطأة
العديد من المسائل خاصة إذا ما قرنت هذه الاعترافات باعترافات قد تكون متأخرة
ولكنها – كما أعتقد – مؤثرة.
فالبطء في
إظهار الحقائق وعدم تلقي الضحايا لهذه الاعترافات بشكل مباشر قد يُساهم في صعوبة
السير في تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف والمصالحة
ثالثاً: اللجان
المتخصصة
في
اعتقادي أن من المشكلات التي قد تواجه المصالحة الوطنية هو (قبول الآخر للآخر)
بمعنى أن القائمين بالمصالحة والذين يشكلون تروس آلة المصالحة وتطبيق معايير
العدالة يجب أن يكونوا ذو قبول للضحايا.
وقد اقترح
في هذا السياق أن يكون لهؤلاء الضحايا دور – أياً كان قدره – في تشكيل هذه اللجان
وهو أن وصف بأنه سيظل دوراً محدوداً لكنه سيكون مؤثراً وذو فاعلية وهو أمر يقرب من
الوصول إلى العديد من نقاط التلاقي، ذلك أن النقل – حتى الكلامي – لن يكون مقبولاً
من كل الأشخاص وتبقى الاعتبارات الخاصة التي يجب أن تتوافر في اللجان من الأمور
التي أرى أنها جديرة بأن تراعي وقد يستفاد في هذا الجانب ببعض الرموز الوطنية
الشريفة والنزيهة التي تلقى قبولاً لدى الجميع، ويفضل أن لا يكونوا من ذوي
الاتجاهات الجهوية أو المناطقية.
رابعاً: المسائلة
والمحاسبة
لا أعتقد
أن مجرد الحوار، سواء كان مباشراً أم غير مباشر مع الضحايا سيكون كافياً في هذا
الصدد بالرغم من أهميته التي لن تنكر.
لذلك فإن
المحاسبة والمسائلة عن الأفعال المرتكبة من الأمور الجد مهمة، فهي فضلاً عن كونها
رادعة وزاجرة، فهي تتضمن الترضية الجادة للضحايا الذين لن يرضوا بغير ذلك فالعفو
في هذه الجوانب - في اعتقادي – قد يزيد الطين بلة.
كذلك من
اللازم كي تتحقق بوادر للمصالحة لابد أن يكون للمسائلة القانونية والعادلة مكان
يراه الضحية عن قرب لا عن بعد وأن لا تكون مؤسسة العفو بمثابة صكوك يلوح بها البعض
من الجهات دون أن تدرك مغبة ذلك، وتبقى مسألة العفو بعد صدور الأحكام من حق
الضحايا وحدهم وهم كفيلون بتقدير ذلك.
خامساً: التعويضات
من
الموضوعات الهامة – الإشارة إلى أن التعويضات مهما كان حجمها وارتفع سقفها ستظل
غير كافية لجبر العديد من الأضرار في واقع الأمر، غير أن التعويض قد يساعد
(مادياً) بعكس القول (بالمعنوية) في تضميد جراح الأجسام ولكنها – في الغالب لن
تساعد في تضميد جراح غائرة في النفس لن تندمل في اعتقادي وقد يكون الزمن كفيلاً
بخلق هالة ولو رقيقة من النسيان حولها.
وقد تكون
مسألة التعويض بالنسبة لما أصاب الأشخاص وذويهم والمجتمع من آلام من الأمور التي
يمكن أن نرى لها تصوراً، إلا أن من الآلام وما يجتاز هذا التصور ليصبح أمر
الاستعانة بمؤسسات خبيرة لحل رموز آلام نفسية من الموضوعات التي يجب أن تنتبه لها
الدولة وإلا لترتب على هذه الأمور مشكلات أكبر من حيز أفراد المجتمع.
أيضاً
فإنه في نطاق التعويضات تبدو مسألة (الاعتداء على الأموال) والممتلكات واغتصابها
من أصحابها من المسائل المطروحة لإتمام عملية المصالحة من خلال إرجاعها إلى
أصحابها وحائزيها الشرعيين ، وإن كان في بعض الأحيان قد تبدو صعوبات من حيث
التطبيق يستعاض عنه بالتعويض شريطة أن يكون التعويض عادلاً تراعى فيه كل الجوانب.
سادساً: التوافق
والاتفاق
إن
العدالة والإنصاف والمصالحة لن تؤتي أكلها دون وجود نوع من التوافق والاتفاق، وقد
تبدو هذه المسائل أكثر ظهوراً في (حقل المصالحة)، وأقصد بذلك أن يكون هناك توافق –
على الأقل – في الأفكار بين شرائح المجتمع وأعني بذلك هنا (الضحايا) من جهة
(ومرتكبي الجرائم) من جهة أخرى في الاقتناع بأن نظام الدكتاتور القذافي قد ذهب إلى
غير رجعة، وهو ما يتطلب منهم قبول القوانين الجديدة والانصياع لها، ومن صور هذا
الانصياع اعترافهم بالجرائم المرتكبة والكشف عن الحقائق التي اجتهد النظام المنهار
في طمسها - ومن ثم تعويض الضحايا – وكذلك الاتفاق بين الضحايا بجميع شرائحهم - على
الأقل في أمد بعيد يمكن أن يُقرّب – على أن المصالحة والإنصاف هي الطريق السليم
لحل مشكلات ظلت عالقة سنين طويلة قيض الله لها أن تنكشف جوانبها باعترافات من
صانعيها.
وختاماً
وبسبب حيز هذا المكان نقول أن المصالحة وتطبيق العدالة والإنصاف ليس بالأمر
المستحيل إن صدقت النوايا وعمل على تطييب النفوس ولملمت الجراح ومداواة آلام
القلوب الكسيرة وتعويض الضحايا بكل الطرق والسبل، واعتقد عندها أن الليبيين سوف
يترفعون ويرتفعون بأخلاقهم القويمة ودينهم الإسلامي الحنيف عن هفوات قام بها أفراد
عميت أبصارهم، ولعل الضحايا سوف يدركون عندها – وبعد أن حدث ما حدث – أن الفجر قد
عم المكان وأن مرور الزمن – وإن لم يكن كفيلاً بنسيان كل الحوادث – فعلى الأقل
فإنه سوف يحد من بعض الذكريات الأليمة، وقد يكون في تدخل الدولة الوليدة بشكل
مباشر في الإسهام في حل العديد من المشكلات التي خلفها عهد القذافي وأزلامه الخطوة
الأولى نحو عصر جديد يتفهمه الليبيون ويحاولون من خلاله أن يتناسوا آلامهم ، وأن
غداً لناظره لقريب.
د. سعد العسبلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق