ساد
الاعتقاد لدى الشعب الليبي، أثناء وبعد ثورة فبراير أنه حين يتم التخلص من
القذافي، ستبدأ مرحلة جديدة من التغييرات والتطورات العميقة في كل المناحي والمجالات
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وهي بحسب مسببات الثورة
ومبادئها، تغييرات نحو الأفضل، نحو المأمول، بحيث يقتضي الأمر، وبالضرورة، زوال
أوضاع بالية فاسدة كانت قائمة وسائدة، وحلول غيرها محلها. وهكذا هي طبيعة الثورة.
وعلى ذلك فإن ارتباط الثورة بالتغيير هو ارتباط العلة بالمعلول، وحيث انتفى
التغيير، انتفت معاني الثورة.
ومنذ أيام
قليلة، مرت الذكرى الأولى ليوم لتحرير، يوم 22 أكتوبر، والمقصود هنا بالتحرير معنى
ينصرف إلى نجاح الثورة وانتصارها الذي تجسد رمزيا في التخلص نهائيا من القذافي
كشخص يمثل نظاما غير شرعي، وكان قائما على الاضطهاد والاستبداد والتخلف.
ومن ثم
كان معنى يوم التحرير، بداية الانطلاقة الهادفة إلى تحطيم هذا النظام واجتثاثه من
جذوره. وليس الاكتفاء بزوال صانعه.
ولا يوجد
ثمة جدل أو خلاف في هذا الهدف أو تلك الغاية، فقد قدم الليبيون ثمنا باهظا من أجل
هذا، ومن أجل هذا وحده.
ورفع
الليبيون شعاراتهم التي آمنوا بها منذ زمن طويل، وأعلنوا في عزم عن مبادئ ثورتهم
والتي تمثلت في إقامة دولة مدنية تقوم على الدستور ومبدأ سيادة القانون، تحمي
الحريات وتصون الحقوق، وهذا المطلب الذي رفعه الليبيون في السابع عشر من فبراير
2011 وما قبله، يعني في مدلوله الظاهر والباطن، أن الليبيين يسعون لإقامة نظام
مغاير من حيث الطبيعة أو المكونات، لما كان سائدا في الحقبة المظلمة التي مرت
عليهم، حيث لا دستور ولا قانون!!.
ومن أجل
ذلك، لم تفرز الثورة، ولم ينتج عنها، أشخاصا أو قادة أو زعماء يفرضون مبادئها أو
أهدافها، ولهذا لم يظهر علينا شخص بصورة القائد أو الزعيم لهذه الثورة، لأنها كانت
ثورة شعبية حقيقية بكل مدلول هذه الكلمة من معنى، والثورة كي تكون هكذا
"ثورة" بالمعنى التاريخي، يجب أن تتمثل في المبادئ والأهداف لا في
الأشخاص أو الزعامات، ويجب أيضا أن تكمن الثورة في التغيير، ومن ضرورة هذا التغيير
وحتميته، تستمد الثورة شرعيتها.
وإذا كانت
الثورة قد آمنت بالديمقراطية، فإنها فقد فرضتها على نفسها، وقبلت بالأسلوب
الديمقراطي للشعب، باعتباره الوسيلة الصحيحة كي يختار الشعب بنفسه عبر انتخابات
حرة ونزيهة من يتولى السلطة حتى لو كانت هذه السلطة "ذات طبيعة مؤقتة
وانتقالية".
وذلك بهدف
الانتقال بالبلاد من الحالة العبثية إلى دولة المؤسسات.
وفي هذا
الإطار، ظهرت علينا وتكاثرت الأحزاب والتكتلات السياسية كمظهر من مظاهر التغيير
الذي أحدثته ثورة فبراير، إذ لم يكن ألقذافي يقبل الحزبية، بل ويعتبرها خيانة
يعاقب فاعلها بالإعدام.وبلا محاكمة! وكيف لنا أن نتصور أن تجرى له محاكمة في بلد
لا قضاء فيه ولا قانون!!
وترتيبا
على ذلك، جرت انتخابات وتم تشكيل المؤتمر الوطني العام، وكانت الآمال معلقة عليه
بصورة كبيرة كي يتحمل المسؤولية وهو مدعم بسلاح الشرعية، ولم يكن أحد يتوقع أن
المؤتمر الوطني، سيكون صورة مشابهة لما كان عليه المجلس الانتقالي من عجز وهزالة،
سواء في أدائه، أو في سياساته أو في تعامله وتعاطيه مع الأحداث.
ولعل
الحالة التي ظهر بها المؤتمر الوطني وإخفاقه في تشكيل حكومة مؤقتة تتولى تسيير
الأمور وإعداد البلاد لمرحلة جديدة، كان أمرا بالغ الدلالة على أن ثورة فبراير في
خطر داهم، لأن السلطات التي قامت في ظلها وكنتيجة من نتائجها المباشرة، تفتقر
للكثير من العناصر والشروط والمقومات التي تؤهلها للاضطلاع بالمسؤولية الوطنية
والسياسية وبالواجبات التي تفرضها الثورة!! وهذا هو ما أكدته الوقائع وبرهنت عليه
الأحداث والمواقف.
وإذا كان
الفرز الذي انتهت إليه مفوضية الانتخابات بتشكيل المؤتمر الوطني، وبحسب هيئة
النزاهة والوطنية، كان مطعما بعناصر من اللجان الثورية والحرس الثوري والأمن
الداخلي والخارجي وما يدخل في هذا الاعتبار!!!
فإن
التشكيل الوزاري الذي جاء به أبوشاقور لم يكن بعيدا عن ذلك التشكيل الخاص بالمؤتمر
الوطني العام!!! فيما عدا أنه (أي أبوشاقور) فضل اختيار عنصر أو أكثر من جهاز
الأمن الداخلي على جهاز الأمن الخارجي، أو ربما العكس!!
وكان عليه
أن يكون عادلا بين هذين الجهازين!! فيختار من كلاهما معا!! لا أن يفضل أحدهما على
الآخر، فقد قام الجهازان (الأمن الخارجي والأمن الداخلي) وبكفاءة فائقة لا نظير
لها، بما كان مطلوبا منهما زمن ألقذافي من بطش لا حدود له ومن تنكيل لا نظير له في
حق أبناء هذا البلد سواء في الداخل أو حتى في المنافي، لهذا كان على أبو شاقور أن
يكون منصفا لهما معا!! لا أن يكون متحيزا لأحدهما دون الآخر!!! فليس لأحدها امتياز
على الآخر، فكل منهما كان يؤدي عمله بكل وحشية وخسة وانحطاط!!! فلماذا يبخل أبو
شاقور بحقيبة وزارية أو أكثر لكل منهما على قدم المساواة!!!!. فالمسألة قد تكشفت
وظهرت منذ المجلس الانتقالي!!! ولم يحتج أحد ولم يعترض أحد.بل ومن احتج واعترض، لم
يد آذانا صاغية، فلا حياة لمن تنادي!! وصارت الأمور والأوضاع تمضي بكل سلاسة ويسر
وكأننا في ظل توجيهات القائد ألأممي وتعليمات اللجنة الشعبية العامة!! ومؤتمر
الشعب العام!!
ومع مضي
سنة على يوم التحرير، يتساءل كثير منا عما تم من تغييرات في البنية السياسية
والإدارية والقضائية والتشريعية في ليبيا، بل والعقلية أيضا!! هل حدث من جديد؟ ولو
على سبيل المجاملة لدماء الشهداء!!
هل اختلفت
العقليات والسلوكيات والأخلاقيات عما كان سائدا زمن ألقذافي؟ أم أن نظام القذافي
قد زاد قوة وتوطد بعد ثورة فبراير؟؟!!
وربما
كانت الإجابة الصائبة على السؤال الأول، هي بالنفي، فلم تختلف السلوكيات والعقليات
عما كانت عليه قبل ثورة فبراير. بينما هي صحيحة في حالة السؤال الثاني!! فلا تغيير
حدث.. ويبدو أنه لن يحدث بالصورة التي استهدفتها ثورة فبراير، إذا استمرت الأوضاع
على ما هي عليه الآن.
والمسألة
لا تحتاج إلى إثبات. فكل ما خلفه ألقذافي وتركه من تشريعات وعقليات ومنظومة من
الفاسدين والتافهين، مازال قائما، بل ازدادت هذه المنظومة قوة.
ولو أننا
التفتنا يمينا أو يسارا على مختلف الأجهزة والقطاعات والمرافق، لوجدنا نفس الأشخاص
والوجوه القبيحة التي زرعها ألقذافي في منظومته العبثية والقمعية!!! فكيف يمكن
لأحد منا أن يتكلم أو يتوقع التغيير الذي قامت لأجله ثورة فبراير؟؟!!
ربما كان
التغيير في المسميات،أو الشكليات لا في المضمون والجوهر.
فمن مكاتب
شعبية في الخارج إلى سفارات!! ومن أمين مكتب شعبي إلى سفير، ومن أمناء لجان شعبية
عامة إلى وزراء الخ الخ!!
فهل هذا
هو التغيير الذي ضحى من أجله الآلاف من الشهداء؟؟؟ أم هو مهزلة واستخفاف بالعقول؟؟
ولعل أولى
الواجبات والمهام التي كان يجب على السلطات الانتقالية التي قامت في ظل ثورة
فبراير، وكمقدمة أولى وضرورية لكل شيء، هو ضرورة إعادة التنظيم المحلي للدولة
المهدمة، كخطوة أولى في محاولة البناء الجديد، وهذا كان يقتضي أن يتم تقسيم البلاد
إلى ثلاثة ولايات أو عشرة محافظات، والأمر هنا لا يحتاج من هذه السلطات، إلى كثير
عناء أو بذل جهد. فهناك القواعد والأسس الجاهزة والمجربة والمدروسة بعناية في هذا
السبيل، وهي متوافرة وهي تحت تصرف السلطات إذا كانت تعي مسؤولياتها وتدرك طبيعة
المرحلة الراهنة.
وعلى ذلك،
فإن مشكلة بني وليد وغيرها، ما كان يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم. لو كان
هناك تقسيم إداري محدد المعالم واضح الصلاحيات.
ولكن الذي
حدث ويحدث في بني وليد وقد يحدث في غيرها، إنما بسبب العجز وغياب الرؤية لدى
السلطات القائمة!! ترى لو كانت هناك محافظة تضم بني وليد، وكان هناك محافظا يمثل
السلطة المركزية الشرعية، هل كان يمكن أن يحدث هذا الذي يحدث في بني وليد؟
بل أن الذي
يحدث الآن في بني وليد كان يمكن أن يكون مبررا ومقبولا رغم ما فيه من ألم يقتل
النفس، لو أنه حدث في مواجهة السلطة المحلية القائمة في بني وليد. لأن الوضع في
هذه الحالة يعني خروج على شرعية الدولة. ولكن هذا الخروج كي يكون ثابتا وحقيقيا
يجب أن يكون ثابتا ومؤكدا بناء على تقرير أو طلب السلطة المحلية في بني وليد، وليس
من غيرها، أي من المحافظ الذي يمثل الدولة في بني وليد. فإذا تقدم المحافظ بطلب
إلى الحكومة المركزية طالبا مساعدته في فرض الأمن والنظام، بسبب وجود اضطرابات في
المدينة، ومن أي نوع، كان تدخل الدولة في هذه الحالة مبررا ومهما كانت النتائج.
ولكن الذي
اتبعته السلطات القائمة في ليبيا لمواجهة أو معالجة مشكلة بني وليد، لم يكن موفقا
ولا صائبا ولا ينسجم مع أهداف ومبررات ثورة فبراير، بل العكس من ذلك هو الصحيح،
فقد كان تدخل السلطة بالصورة والطريقة التي تمت فيها، مطابقا تماما لنفس الطريقة
التي كان يمارسها ألقذافي!! ومن ثم كان تأثر أو التزام المؤتمر الوطني بعقلية
ألقذافي، أمرا لا خفاء فيه!! ولهذا كانت طريقة معالجة مشكلة بني وليد وبحق، وفاء
وعرفانا لتعاليم ألقذافي وتوجيهاته وإرشاداته.
ولهذا
لجأت هذه السلطات إلى ما أسمته بالمشايخ والعقلاء والوجهاء كي يحلوا المشكلة، وهي
مشكلة حسب ما قيل وتردد مشكلة " جنائية "تدخل في اختصاص النيابة العامة
وقضاء التحقيق ومأموري الضبط القضائي، ولا علاقة لها لا بالمشايخ والأعيان، وهل
ترك ألقذافي في ليبيا، مشايخ أو أعيان أو وجهاء؟؟!!
ألم يكن
هؤلاء هم أنفسهم من كانوا يشكلون " القيادة الشعبية الاجتماعية!!! أو أليس
اللجوء إلى هذا الحل هو تبني وقبول بأساليب ألقذافي؟؟
غير أن
هذه المشكلة أيضا أظهرت لنا وأثبتت مدى هزالة وهشاشة التكتلات والأحزاب السياسية
وصوريتها المفرطة، فلم يكن لأي منها أي دور أو وجود، مثلما كان دورها ووجودها في
حلبة النزال لاصطياد أكبر وأهم الحقائب الوزارية!! وقد اعترف الجميع بذلك، ولهذا
فإنهم استسلموا للحل القبلي البدائي، وهو الحل الذي يقوم على أساس غياب الدولة
وانعدام السلطات، أو كأن المشكلة هي مشكلة طلاق أو مصاهرة!! والأكثر عجبا في الأمر
أن ما يقال له حزب التحالف الوطني أو تحالف القوى الوطنية وهو الأكثر تواجدا
وتأثيرا في الشارع السياسي كما يدعى ويشاع!! كان يجب عليه وعلى رئاسته تحديدا أن
يجندا إمكانياتهما في سبيل وضع حل حاسم لمشكلة بني وليد يتفق مع المصلحة الوطنية
واحترام مبدأ سيادة القانون. فإذا عجزا عن ذلك أو ابتعدا عن المشكلة أو اخفقا في
الوصول إلى حل مرضي، فما هي أهمية مثل هذا التحالف وغيره من الأحزاب والتكتلات. بل
كان المنطق يقتضي من رئيس هذا التحالف الوطني أن يكون هو الذي يتواجد على الساحة
وأن يكون هو أيضا المعني بالمسألة، وأن يحدد موقفه بشكل صريح وواضح فيما يقع وفيما
يجب أن يقع، على ضوء الحقائق والوقائع، كي تكون الأمور بينة للكافة لا غموض فيها.
والخطأ
الكبير الذي وقع فيه المؤتمر الوطني بصدد معالجته قضية بني وليد، هو تصديه لهذه
المسألة باعتباره طرفا مباشرا فيها، وهذا مأخذ كبير وعيب فادح ما كان يجب عليه أن
يقع فيها، فهو يمثل السلطة التشريعية في البلاد، وليس هو السلطة التنفيذية ولا هو
كذلك السلطة القضائية.
وربما
كانت هاتان السلطتان هما اللتين يعنيهما الأمر في وقائع بني وليد، دون غيرهما.
على أن
الشيء الأكثر استهجانا، ونحن في مرحلة تأسيس الدولة المدنية الدستورية أن يستعمل
الجيش أداة لفض الاضطرابات الداخلية، فهذا أمر، ليس من شؤونه ولا من واجباته ولا
من اختصاصاته. وإن كانت هذه الطريقة في حقيقة الواقع، هي مجرد تطبيق لأساليب
ألقذافي الذي استعمل الجيش لقهر الشعب الليبي مثلا حدث في بني وليد سنة 1993، فما
أشبه الليلة بالبارحة!!
ومن أجل
ذلك قامت الثورة لمحو وإنهاء هذه الأساليب العبثية والقضاء عليها. وليس ترسخيها.
لأن المهمة الوحيدة الملقاة على الجيش بمختلف تشكيلاته هي حماية الأمن الخارجي
والدفاع الوطني للبلاد، وفي مواجهة قوى أجنبية معادية، وليس من مهامها المحافظة
على الأمن الداخلي، فهذا من اختصاص الشرطة وقوى الأمن المحلية.
على أن
الخطأ غير المغتفر في مشكلة بني وليد، يتمثل في مقاومة المسلحين في بني وليد لقوات
الجيش الوطني، فهذا خروج سافر على شرعية الدولة، وقد أعطى كثيرا من المؤشرات على
أن ثمة وضعا مضرا لأمن الدولة ولثورة فبراير في بني وليد، وهذا هو المعنى الوحيد
الذي يستنتج من خلال الوقوف العدائي لقوات الجيش الوطني.
وكان
بإمكانهم عوضا عن تبني هذا الموقف الخاطئ، اللجوء إلى السلطات الوطنية بل والدولية
إذا كان في تدخل تلك القوات ما ألحق بهم ضررا أو مس حقوقهم أو حرياتهم بأي أذى.
وما ينطق
على بني وليد، ينطبق على كل مكان في ليبيا، فليس لأي شخص أو مجموعة من الأشخاص، أي
حق في مواجهة أو مقاومة أي سلطة شرعية في الدولة بالقوة أو العنف. ذلك لأن المفترض
في السلطات الوطنية أنها منشأة لمصلحة الشعب، وأنها إنما وجدت بصفة رئيسية لخدمة
المواطن الفرد ورعايته مصالحه. هذه هي ليبيا الجديدة بعد ثورة فبراير، وقد آن
الأوان أن تبدأ خطواتنا الأولى نحو بناء ليبيا على الأسس والقواعد والمبادئ التي
أعلنت عنها ثورة فبراير.
وكان
ينبغي أن نبدأ السير نحو تحقيق هذه الأهداف منذ عام من الآن، وها نحن في الذكرى
السنوية الأولى ليوم التحرير، ما زلنا في نفس المكان الذي كنا فيه يوم السابع عشر
من فبراير 2011، لم نتجاوزه قيد أنملة!!
ولازلنا
نخضع بصورة شبه كاملة لمنظومة ألقذافي ولعقليته القمعية أو توجيهاته العبثية!!
فكيف يمكن
لنا التخلص من هذه الحالة الجامدة الراكدة التي تهدد وفي الصميم، ثورة فبراير؟
وهل من
سبيل إلى ذلك في ضوء ما يجري؟
د. محمود سليمان موسى (علي أبوشنة الغرياني)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق