الاثنين، فبراير 27، 2012

م. ك. إبراهيم: هل يستدرك بن يزة على نفسه...؟

تعد صناعة النفط العمود الفقري للاقتصاد الليبي ومصدر الدخل السيادي الأوحد للدولة الليبية بعد ثورة 17 فبراير؛ خاصة في ظل الشلل الكامل الذي أصاب الاقتصاد الليبي، وكما أعلن المجلس الانتقالي سابقاً فالمداخيل المتوقعة من صناعة النفط ستكون هي الممول لجميع الخطط التنموية وبرامج إعادة الأعمار على مدي العشر سنوات المقبلة. هذا بالإضافة لكون النفط هو المصدر الوحيد لتوفير الدعم لتغطية المتطلبات الأساسية اليومية للشعب الليبي من مرتبات الجهات الحكومية وسلع تموينية أساسية ومحروقات وكهرباء ونحوه. مما يعطي قطاع النفط صبغة المصدر الأساسي (بعد الله) لحياة الليبيين؛ مما يستوجب اعتبار أي عبث به خيانة عظمى في حق الليبيين ووطن الليبيين.
من ناحية أخري، فإن حجم التداول المالي الضخم لهذا القطاع وتعدد قنوات التداول فيه يجعل من الأهمية بمكان وضع الضوابط اللازمة بما يكفل القضاء على تركة الفساد والتلاعب التي خلفها نظام القذافي. وإلا فإن بريق المال "السايب" الذي أغرى الكثيرين في السابق لن يخفت في عيون أباطرة نفط ليبيا الجدد، خاصة في ظل حالة الفوضى التي تكابدها البلد وغياب الرقيب والحسيب، إضافة للنشاط المحموم لشركات النفط العالمية والمقاولين ومقدمي الخدمات الذين يتحسسون بكل حرفية مواطئ إيلاج الرشاوى لحراس مستودعات الذهب الأسود الجدد.

فالفساد بالنسبة لبعض هذه الشركات لا تنقصهم فيه الخبرة ولا يعوزهم لتأكيد نجاعته الدليل، فلطالما حققت قبلاتهم على أيادي ملك ملوك أفريقيا والرشاوى المقدمة لابنه سيف صفقات درت ولازالت تدر عليهم عشرات المليارات. وتأتي على رأس هذه الشركات شركة إيني الايطالية التي تفننت ولازالت فامتطاء أساليب الفساد وشراء الذمم والرمم لضمان الحصول على امتيازات على حساب الدولة الليبية والشريك الوطني.
فبالإضافة للعدد الهائل من عقود المشاريع وعقود توريد المواد التي تحصلت عليها شركات تتبع لايني من شركائها الوطنيين منافية بذلك لشرط تعاقدي أساسي من شروط ضمان "عدم تعارض المصالح"، فهناك سلسلة صفقات بيع حقوق استغلال عدد من الحقول النفطية التي قامت بها شركة ايني على مدى سنوات حكم القذافي؛ ابتداءً من صفقة بيع حصص في حقل الفيل الذي كان استثمار مضمون النتائج لا معني لمشاركة شريك أجنبي فيه، مروراً باتفاقية حقل الوفاء المشبوهة وانتهاءً بأم الطوام التي تمثلت في تجديد اتفاقية المشاركة بين المؤسسة الوطنية للنفط وشركة ايني الايطالية في حقول شركة مليتة للنفط والتي تحصلت بموجبها ايني على حصة من مداخيل حقول هذه الشركة المنتجة للنفط والغاز.
فقد كان الشعب الليبي مضطراً على مدى عقود الاتفاقية القديمة الطوال أن يحتمل لعشرات السنين جشع شركة إيني الايطالية التي التهمت قرابة النصف من مداخيل حقول شركة مليتة للنفط بما احتوته من نفط خام وغاز ومشتقات نفطية ومداخيل مالية؛ ناهيك عن التلاعب بعقود بمليارات الدولارات لإنشاء مشاريع وتوريد مواد وعقود صيانة، والتي احتكرت الغالبية العظمى منها شركات ايطالية تتبع اغلبها لايني مباشرة، وفوق كل هذا طبقت ايني سياسة إنتاج استنزافي لهذه الحقول سعت من خلالها ايني لاستنزاف اكبر كمية ممكنة من الخام الليبي قبل انتهاء عمر هذه الاتفاقية، مما انعكس سلباً على ديمومة وإنتاجية هذه الحقول والمكامن على المدى الطويل، وخلف أثاراً مدمرة على البيئة والمياه الجوفية والحياة البرية الصحراوية في ليبيا.
وما أن فرح الليبيون سنة 2008 بأن وضعت عنهم أوزار هذه الاتفاقية المجحفة وتخلصوا من هذا الشريك الجشع وألت إليهم ملكية هذه الحقول المطلقة بما تحويه من إنشاءات ومعدات واستثمارات تبلغ قيمتها عشرات المليارات؛ في صورة أقرب ما تكون لخروج قوة استعمارية من وطن رواه الأجداد بزكي دمائهم واستعاد فيه الأحفاد حقوقهم وحقوق أبائهم. ولكن هيهات أن يتوب الذئب من أكل النعاج، أو أن يرتوي من ذاق حلاوة طعم الخام الليبي السلسبيل، فبدأ الشريك الثقيل إيني بالبحث والتنقيب عن شقي غادر مستعد لبيع وطنه ودماء الأجداد ومستقبل الأحفاد بأبخس الأثمان، وما أكثر هؤلاء في مستنقعات القذافي الآسنة، وسرعان ما وجدت ايني ضالتها في مدير المؤسسة الوطنية للنفط السابق "غانم" الذي قبل أن يتاجر بشرفه وشرف عائلته وتاريخ أبنائه وأحفاده حينما وضع يده في يد الشيطان و سدد طعنة غادرة آثمة لليبيا و قام بمنتهى الخسة بتجديد هذه الاتفاقية خلسة بطريقة غير شرعية وبتواريخ رجعية استطاع من خلالها الشريك الثقيل "إيني" أن يغرس أنيابه الصدئة من جديد في جيد صحرائنا البكر وشطوطنا الناعسة ليستمر نزيف ثرواتنا في التدفق لجيوب أحفاد الفاشست.
وحصل مقابلها الرخيص "غانم" على حفنة من الفرنكات وجنسية ايطالية، فتعس البيع وبئس الغنيمة ياغانم، وشر الابن العاق أنت لهذا الوطن الذي رباك وعلمك فخنته وطعنته وعضضت يده الحانية التي أطعمتك وسقتك، فلا بارك الله لك ما سرقت، ولا أصلح لك ما نهبت. وبالفعل أثبتت هذا التلاعب لجنة تحقيق أصدرت نتائجها بتاريخ: 07/07/2009 وتضمن أهم ما جاء فيها النقاط التالية [منقولة حرفياً] (1):
  • "إن اتفاقيات المقاسمة الموقعة مع شركة إيني الايطالية بعضها ينتهي بحلول سنة 2009 مسيحي وهي غير قابلة للتمديد أو التجديد تلقائياً بنفس قاعدة المشاركة ومقاسمة الإنتاج.
  • إن العقود والاتفاقيات التي تم تجديدها مع شركة إيني الايطالية لا توجد بها مخاطر لأنها عقود لحقول منتجة وهذا يعني منح الايطاليين دون وجه حق ولم تكن في حساباتهم لمدد تتراوح ما بين 10-15 سنة.
  • إن العقود التي تم تجديدها لشركة إيني الايطالية تم تطبيقها بأثر رجعي في مدد تتراوح مابين 4-6 أشهر.
  • أن دمج شركتي إيني للنفط مع شركة إيني للغاز هو محل للاستفهام؟
  • لقد ثبت لنا صدور قرار من مجلس الوزراء الايطالي بمنح الجنسية الايطالية للدكتور/شكري محمد غانم أمين لجنة إدارة المؤسسة الوطنية للنفط لاعتبارات خاصة ولما قدمه من خدمات للجانب الايطالي وذلك في جلسة مجلس الوزراء الايطالي بتاريخ 18 الكانون (ديسمبر) 2008
وتمثلت أهم توصيات اللجنة المذكورة في الآتي:
  • إحالته على القضاء لاستكمال إجراءات التحقيق.
  • يقترح تشكيل لجنة مختصة (فنية - قانونية) لمراجعة كافة العقود والاتفاقيات الموقعة مع شركة إيني الايطالية والشركات الأجنبية الأخرى التي تم توقيع اتفاقيات مشابهة معها سواء في قطاع الإنتاج أو التصنيع وذلك للتحقق من مردودها الاقتصادي لصالح الاقتصاد الوطني." ا.ه.
وكما كان متوقعاً من مصير لأي إجراء تصحيحي يطال مصالح عصابة السلب والنهب التي أنشاها سيف القدافي؛ فان كل ما توصلت إليه اللجنة من نتائج مهنية أغضى عنها الطرف وظلت حبيسة الأدراج كغيرها من الإجراءات الإصلاحية وتحقيقات جرائم الفساد في جماهيرية القذافي الغوغائية، وسرعان ما أعاد سيف القذافي "كاشيكه" القذر على رأس المؤسسة الوطنية للنفط يجيله يمنة ويسرة نهباً وسلباً لثروات البلاد. وهو ما لم يكن مستغرب الحدوث بجماهيرية القذافي الزائفة؛ ولكن ما سيكون مستغرباً هو أن تقف ليبيا الحرة اليوم موقف المتفرج من هكذا تجاوزات؛ فما يجب فعله اليوم ليس أقل من إصدار مذكرة جنائية لتسليم المدعو شكري غانم لمحاكمته جنائياً كما جاء في توصيات اللجنة سالفة الذكر، وإلزام الجانب الايطالي بإسقاط الجنسية الممنوحة له مقابلة خيانة وطنه وبيع مقدراته لأحفاد الفاشست، وفتح تحقيق وتوجيه تهم الفساد والتحريض على الفساد والرشوة لشركة إيني الايطالية، وإلغاء الاتفاقيات الغير القانونية سالفة الذكر واستدعاء كل المتورطين من الجانبين للتحقيق وعلى رأسهم مدبري هذه الجريمة من إدارة المؤسسة الوطنية للنفط وإدارة شركة إيني الايطالية، وكذلك إيقاع عقوبات مستقبلية على شركة إيني قد تصل إلى طرد الشركة ومصادرة استثماراتها في حالة ثبوت تورطها في تجاوزات مشابهة مستقبلاً. ومما لاشك فيه أن هكذا إجراء سيوصل الرسالة التي كتبها أبناء ليبيا بدمائهم لكل من تسول له نفسه بنهب ثروات ليبيا. وهذا للأسف مالا يبدو أن الإدارة النفطية الجديدة في ليبيا بصدد القيام به ولا حتى التفكير فيه.
فعلى قدر ما أثارت تصريحات السيد رئيس الوزراء بمراجعة عقود شركة ايني في ليبيا من التفاؤل بين أوساط المهتمين بصناعة النفط في ليبيا، جاءت تصريحات السيد وزير النفط عبد الرحمن بن يزة "باستثناء عقود النفط والغاز من هذه المراجعة" مخيبة للآمال و منذرةً لكل الليبيين بأن دماء أبنائهم الزكية ستذهب هباء، وان كل ما قدموا من تضحيات لن تجاوز مجرد التخلص من القذافي وابنه المعتصم.
أما إقامة دولة سيادة القانون والنظام والشفافية وإعادة الحقوق المنهوبة فستبقى لحين إشعار آخر حبراً على ورق. بل أن السيد بن يزة بعد اجتماعه "بمديره السابق "سكاروني" مدير مجموعة إيني خرج علينا مؤكد أملاءات الايطاليين بأن "المراجعة لن تطال عقود النفط والغاز" على الرغم مما ثبت من فساد وتلاعب صاحب إبرام هذه العقود؛ و أكد أن "المراجعة" ستقتصر على مجرد عقود "المسؤولية الاجتماعية"، والتي في مجملها مجموعة عقود "بسوم القرعة" ألزمت فيها إيني نفسها بتعهدات (تهربت من أغلبها لاحقاً) أيام حكومة سيف القذافي بإقامة بعض الدورات التدريبية للخريجين الليبيين؛ ذراً للرماد في العيون حتى تعمى عن رؤية تجاوزات إيني الأخرى ولتلميع الصورة القبيحة للعجوز الايطالية وتسويقها كشركة ذات "اهتمامات اجتماعية".
رغم أن البعض يذهب بتساؤلاته عن ما إذا كان تعيين السيد بن يزة (موظف إيني السابق) في منصب وزارة نفط ليبيا الحرة هو أحد حيل ايني لتجاوز جرائم الفساد ومحاولة التغطية على اتفاقيات إيني التي ثبت بطلان شرعيتها ومحاولة تثبيتها و الضحك على ذقون الليبيين الذين ضحوا بدمائهم الزكية لاستعادة السيادة على ثروتهم الرئيسة وحمايتها من براثن الفاسدين؟ وهل بن يزة الذي ذكر اسمه في كل من َ حكومتي محمود جبريل (التي لم ترى النور) و حكومة الكيب الحالية يبرهن على مدى تغلل مجموعة ايني في قطاع النفط الليبي وتدخلها السافر بما يضمن تعيين بيادق ليبية الجنسية لتخدم مصالحها الخاصة في المقام الأول لا مصالح الشعب الليبي الحر؟ و لكن يبقى السؤال الأبرز الذي تثيره عندى استدراكات السيد وزير النفط:
هل النفط الليبي اليوم تحت رحمة "غانم" آخر؟ وهل دعم إيني المالي الزهيد للثوار كان في مقابل تعيينه؟ وإلى أي مدى السيد بن يزة مستعد لخدمة مصالح الايطاليين على حساب مصالح ليبيا؟ وهل تعتبر تصريحاته السابقة إجابة لهذا السؤال.

م. ك. إبراهيم
(1)   للاطلاع على النسخة الكاملة لهذه التحقيقات (اضغط هنا)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق