رحلة كفاح وقصة وطن
بقلم شكري السنكي
مشوار عبد الله امنينة من الميلاد إلى الرحيل
عاشت ليبَيا سنوات زهاء ورخاء في عهد الملك الرّاحل إدْريس السّنوسي، وتغير كل شيء بعد أن صفق النَاس للمجهول واستولى معمّر القذّافي على السّلطة بانقلاب عسكري حوّل الوطن من خلاله إلى صورة شخصيّة له.
رفض أحرار ليبَيا انقلاب سبتمبر وحكم العسكر، فشن قائد الانقلاب حملات اعتقال وتصفية لكل معارضيه إلى جانب الإقصاء والإبعاد والسيطرة المطلقة على القرار ومصير العباد.
سُجن عبد الله امنينة ثماني عشرة عاماً لأنه اصطف مع الحرية ورفض الاستبداد...
أٌدْخِل عبد الله إلى السجن، وقدر الله ليّ أن أعيش في المنفى سنوات طوال...
جاءت ثورة 17 فبراير والتقيت مع عبد الله في بنغازي بعد طول فراق...
زرتُ بنغازي بعد غياب طال لثلاثة عقود من الزمان، وجمعني شهر أبريل/ نيسان من عام 2011م بعبد الله امنينة في بيته بعد فراق استمر من يوم خروجي من ليبَيا بتاريخ 31 مارس/ آذار 1981م إلى ساعة اللقاء. التقيت به وليبَيا تعيش ثورتها التي انطلقت في منتصف فبراير/ شباط من عام 2011م، والتي تأكد انتصارها بسيطرة الثوار على مدينة طرابلس عاصمة البلاد يوم 20 أغسطس/ أب 2011م، والتي انتهت بسقوط سرت وبن وليد أخر معقلين لمعمّر القذّافي ثمّ بمقتله في يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2011م. رأيت عبد الله امنينة في بيته وكان في زيارته الحاج غيث عبد المجيد سيف النصر والأستاذ مفتاح الطيّار وعدد آخر من الرفاق والأصدقاء، وكان محور الحديث عن أخر التطورات في جبهات القتال.. الوضع الاقتصادي وأثره على سير المعارك وصمود الشّعب.. المخاطر التي تحدق بليبيا وشعبها.. تقييم الأداء السياسي للمجلس الوطني الانتقالي.. مستقبل ليبَيا في ظل الأوضاع الراهنة، وكان عبد الله يستمع إلى الحديث الدائر بعين الاهتمام ويتدخل عند الضرورة، وحينما لا يجد مفراً من الكلام – يتكلم في صلب الموضوع بشكل مختصر مفيد بحكم طبعه الذي يميل إلى قلة الكلام فكان في صمته حكمة، وفي كلامه عبرة ودلالة. كان عبد الله يقبض على الألم وينسى المرض المتمكن من جسده حينما يكون الوطن مرتكز الحديث.. ويكون الحدث الراهن منطلق النقاش.. ويكون المستقبل مسافة الرؤية وبؤرة الاهتمام والنظر.
وعبد الله مفتاح امنينة الذي فرَّقت دولة الفساد والاستبداد بينه و بين زوجته وأولاده وعائلته لمدة قاربت العشرين عاماً.. وحالت بينه وبين لقاء بعض أصدقائه لثلاثة عقود من الزمان، وأنا واحدُ من بين هؤلاء. وشاءت الأقدار أن ألتقيه بعد طول غياب، وبعد ستة شهور من لقائنا سمعت خبر وفاته الذي نزل عليّ كالصاعقة. فليس من السهل أو الهين سماع خبر وفاة صديق عزيز بمثابة الأخ علاوة على أنه رفيق درب قضى حياته من أجل الوطن في رحلة كفاح ومعاناة طويلة، ومسيرة عامرة بالأحداث والوقائع واللقاءات والحوارات المشبعة بالأفكار والتحليلات والرؤى. وقد تلقيت خبر وفاته بالدموع ومراجعة النفس والدعاء للفقيد بالرَّحمة والقبول الحسن، وقد توفي المغفور له في تونس بعد صراع طويل مع مرض السرطان اللعين.
واجه عبد الله المرض بإيمان وعزيمة لا تلين، وقد كان كذلك مع كافة الصعوبات والمحن التي مرت عليه، والسجن كان من بينها. كان عبد الله راضياً بما قدَّره الله له، ولا يحب أن يشكي آلامه لأحد. فلم يطرح عبد الله على أحد يوماً مسألة للنقاش لا ترتبط بشؤون الوطن، ولم يتحدث طيلة فترة مرضه عن معاناته والآلام التي تداهم جسده النحيف، وحتى من يتأثر أمامه وتسيل دموعه، يقول له على الفور:..".. حاول النظام إعدامي داخل السجن مرتين ولكنهم فشلوا لأن الساعة ليست بيدهم إنّما هي بيد من خلق الأنفس والذي يتوفاها في ميعاد. وربّما يكون المرض سبباً في نهاية المشوار ولكن المحيا والممات بيد الخالق لا بيد أحد سواه، والآجال عنده في كتاب معلوم..".
كان عبد الله رحمه الله في رحلة معاناته مع المرض مثالاً للصبر وقوة العزيمة والإيمان الراسخ بأن للموت ساعة لا يفلت أحد منها قط فقد خلق الله الأنفس وهو يتوفاها، وله مماتها ومحياها، وهو القائل في محكم كتابه: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ). (سورة يونس 49)
عبد الله هو أبن الحاج مفتاح من عائلة (امنينة) أعرق العائلات البنغازية، وهو سليل عائلة مجاهدة تعد من كبار العائلات التي ناصرت السّنوسيّة وجاهدت معها، وقد استقبلت دارهم (دار امنينة) الإمام محَمّد بن علي السّنوسي، مؤسس الطريقة السّنوسيّة كما استقبلت أتباعه من مناطق البلاد المتفرقة. عُرف عن آل امنينة الكرم والجود فقد كان بيتهم وسط مدينة بنغازي بيتاً عامراً بـالضيوف، وهم الضيوف الذين نزلوا في دار امنينة من مختلف الجهات والمناطق فكانوا يقضون أيامهم من ساعة قدومهم إلى بنغازي حتى ساعة سفرهم في تلك الدار التي اشتهرت بـالوطنيّة والكرم وحسن الاستقبال. وقد لعبت عائلة امنينة أدواراً مختلفة عبر تاريخ ليبَيا الطويل، ومن أهم شخصيات العائلة على سبيل المثال لا الحصر: سُليمان باشا امنينة الذي كان عميداً لبلدية بنغازي وقائمام إجدابيا، وكان صوته مسموعـاً وكلمته مقدرةً من قِبل الأتراك في عهد ولايتهم على ليبيا. وكان من النشطاء المقاومين للاحتلال الإيطالي، فاعتقلته السّلطات الإيطاليّة، واستولت على كافة أملاكه وممتلكاته، ثمّ نفته إلى أحدى الجزر الإيطاليّة القريبة من صقليّة، والذي توفي عام 1334 هجري الموافق 1916م في المنفى، ودفن به.. محَمّد عبد الله امنينة (عم الفقيد) الذي كان في عام 1920م عضواً بمجلس النَّواب البرقاوي.. عبد الرحمن امنينة الذي كان أوّل رئيس مجلس بلدي لمدينة بنغازي عام 1875م بعد أن انفصلت برقـة عن طرابـلس، وأصبحت متصرفيّة مستقلة تابعة رأساً إلى اسطنبول.. مصطفى سُليمان امنينة مسئول (الأوقاف) في عهد الإدارة الإنجليزيّة (1942م – 1949م)، وأحد أعضاء (الجبهة البرقاويّة)، وعضو مجلس الشيوخ في عهد الملك إدْريس السّنوسي، والمنوفي في مدينة بنغازي في أكتوبر/ تشرين أوّل 1985م، والمدفون بها.
وفي جانب ثاني، كان لعائلة امنينة موقف من النظام الانقلابي منذ استيلاء معمّر القذّافي على السّلطة في سبتمبر/ أيلول 1969م، وتمثل موقف العائلة في رأي كبيرهم مصطفى سُليمان امنينة الذي تعرض للعديد من المضايقات والتحقيقات من قبل أجهزة نظام القذّافي.. وفي مواقف عدد من أبنائها فقد سُجن عبد الله لمدة ثماني عشرة عاماً.. وكان علي وتوفيق مصطفى امنينة ضمن قائمة اعتقالات الطلبة عام 1976م حيث كانا من نشطاء الحركة الطلابيّة، وبعد الإفراج عنهما، تعرَّض علي للفصل من كليّة الهندسة بجامعة طرابلس، وتعرَّض توفيق للفصل من كليّة الآداب بجامعة بنغازي.
ولد عبد الله مفتاح امنينة في أغسطس/ أب من عام 1951م بمدينة بنغازي. عاش طفولته وشبابه في شارع قصر حمد، ودرس بمدارس مدينة بنغازي، وتعلم اللغة الانجليزية وبعض العلوم الأخرى في المملكة المتَّحدة. ووالدته هي الحاجة حليمة امنينة التي توفيت وابنها لازال رهن الاعتقال، وهي شقيقة مصطفى سُليمان امنينة عضو مجلس الشيوخ في عهد الملك الرَّاحل إدْريس السّنوسي. ولعبد الله أخ غير شقيق هو محَمّد محمود بوقعيقيص، وثلاث أخوات شقيقات، هن: خديجة وسليمة وفاطمة.
كان عبد الله عضواً بنادي الهلال، ومن نشطائه المشاركين في كافة برامجه كذلك من رواده حينما كان مقره بشارع أدريان بلت ثم في السبخة موقعه الحالي. ويذكر أن عبد الله كان لاعباً في صفوف فريق النادي للكرة الطائرة في فترة من الفترات.
تزوج عبد الله من السيدة الفاضلة رسمية غيث الورفلي من العائلات المعروفة في بنغازي، وأنجب منها بنتان وولدان، وعاش معها حياة سعيدة هانئة فكانت خير سند وأروع مثال للزوجة الصالحة الوفية مع زوجها وأهله فقد وقفت إلى جانبه في صحته ومرضه، وحافظت على بيته وأولاده أثناء اعتقاله الذي استمر ثماني عشرة عاماً.
اشتغل عبد الله بالقطاع الخاص في مجال الأثاث حتى عام 1984م حيث تم اعتقاله في أحداث مايو/ أيار 1984م التي قادتها الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا، فقد كان من بين الأوائل الذين انضموا إلى صفوف (الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا) داخل البلاد بعد تأسيسها في الخارج في 7 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1981م، ومن الذين شاركوا في أحداث مايو 1984م، وقد تعرَّض للاعتقال بسبب انتمائه للجبهة ومشاركته في أحداث 1984م، وقضى في السجن قرابة العقدين من الزمان.
مكث عبد الله في السجن سنوات طوال ذاق خلالها الظلم والقهر وكل صنوف العذاب الجسدي والنفسي من العزلة والحبس الانفرادي إلى التعذيب بالآلات الكهربائية والضرب بالهراوات والفلقة. وكان من أوائل المبادرين برفع قضية ضد الدولة بعد خروجه من الاعتقال حيث ظُلم وقُهر وخُطفت منه أغلى سنوات عمره فلجأ للقضاء الذي حكم له بتعويض مادي لم يستلم منه شيئاً حيث ساومه رئيس جهاز المخابرات عليه حسب ما ذكره الأستاذ إبراهيم إقدوره في مقالته: (رحيل أبن الوطن سليل المجاهدين)، فقال:..".. حكم له القضاء بتعويض مادي ساومه عليه المجرم موسى كوسه، فرفض المرحوم أن يخون وطنه ، فألغى المجرم حكم القضاء بالتعويض..".
كان عبد الله قبل فترة اعتقاله على اتصال بالقوى الوطنيّة المعارضة في الخارج، ووفياً مع الأسر التي زُج أبنائها في السجن رغم معرفته بخطورة موقفه هذا في ظل نظام دموي كنظام القذّافي.
فرح عبد الله بثورة 17 فبراير فرحاً شديداً واستبشر بها خيراً، وكان مفتخراً بشباب ليبَيا وعظيم تضحياتهم التي فاقت كل التوقعات، وكان متفائلاً بمستقبل مشرق لليبَيا، ولم يكن يزعجه في مشهد الثورة إلاّ راكبي الموجه وظهور بعض المتسلقين، فكان لب انتقاده للمجلس الوطني الانتقالي بعض التكليفات والتعيينات.. فكيف يُعين على سبيل المثال ملحقاً ثقافياً في أحدى السفارات وهو من كتب مقدمة لترهات القذّافي ليجعل منها أدباً !؟.. وكيف يكون في سكرتارية المجلس من كان محسوباً على حركة اللجان الثورية !؟.. ويكون في اللجان الأمنية والاقتصادية والوفود الدبلوماسية أشخاص كانوا إلى لحظة اندلاع الثورة من أقطاب نظام القذّافي البارزين!؟.
كان عبد الله امنينة قد أصيب بمرض السرطان قبل اندلاع ثورة 17 فبراير 2011م بسنتين أو أكثر بقليل ، فذهب للعلاج في تونس والأردن والولايات المتحدة الأمريكية، وحينما انطلقت شرارة الثورة من بنغازي التحم مع الثوار على الفور ونسى مرضه الذي كان قاسياً عليه. كان رحمه الله من أوائل المتجمعين في ساحة محكمة شمال بنغازي التي اتخذها الثوار مكاناً للتظاهر، وساحةً للصلاة، ومقراً لتبادل الأخبار والمعلومات، ومكاناً للالتقاء والتشاور وتنسيق الأدوار وتقسيم التكليفات إلى جانب جلب المعونات وإيصالها للمحتاجين والثوار في جبهات القتال.
وشارك عبد الله في العديد من الندوات واللقاءات والاجتماعات في فترة ثورة 17 فبراير وقبل سقوط العاصمة بيد الثوار، منها ما يخص الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا وتشكيل مكتبها رسميّاً داخل ليبَيا.. نقاشات حول قضايا الساعة وسير المعارك في جبهات القتال.. حفلات التكريم حيث حضر حفل التكريم الذي أقيم بمدينة بنغازي للمؤسسات والأفراد الذين دعموا قضية مذبحة سجن بوسليم وساهموا في كشف ملفها للرأي العام المحلي والعالمي، وقد استلم جائزة جبهة الإنقاذ بصفته ممثلاً لها.
وكان عبد الله امنينة في رحلة حياته مثالاً للأب الحنون، والصديق الوفي، والإنسان الذي تعلو إنسانيته على كل شيء، وقبل كل ذلك كان مثالاً للابن البار والأخ الذي حل مبكراً محل أبيه فقد غادر والده الحياة وهو طفل صغير فتحمل مسئوليات العائلة في سن مبكرة من حياته.
وكان عبد الله امنينة في رحلة حياته مثالاً للأب الحنون، والصديق الوفي، والإنسان الذي تعلو إنسانيته على كل شيء، وقبل كل ذلك كان مثالاً للابن البار والأخ الذي حل مبكراً محل أبيه فقد غادر والده الحياة وهو طفل صغير فتحمل مسئوليات العائلة في سن مبكرة من حياته.
وكان عبد الله امنينة في رحلة حبه للوطن مثالاً للمحب المخلص، والحبيب الوفي، والمناضل الصادق، والصابر المحتسب الذي يسكنه الإيمان.. وتحركه القيم.. ويدفعه الأمل والتفاؤل بالقادم المشرق من الأيام.
ومع منتصف أكتوبر/ تشرين الأوَّل، اشتد المرض على عبد الله امنينة فسافر مع أسرته إلى تونس طلباً للعلاج، وأُدْخِل إلى المصحة على الفور، وبعد ثلاث أسابيع تقريباً وافته المنية حيث فارقت روحه الحياة مساء يوم الأربعاء 13 ذو الحجة 1432 هجري الموافق 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011م، ونُقل جثمانه مساء يوم السبت 12 نوفمبر/ تشرين الثاني على متن طائرة من تونس العاصمة إلى مدينة بنغازي مسقط رأسه، ودُفن بعد صلاة الظهر يوم الأحد 17 ذو الحجة 1432 هجري الموافق 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011م بمقبرة الهواري في مدينة بنغازي.
هكذا كانت رحلة عبد الله عطاء بلا حدود، كان الهدف منها مرضاة الله سبحانه وتعالى وسعادة النّاس ورخاء الوطن، فلم تكن الشهرة غايته.. ولا المال هدفه.. ولا السّلطة مسعاه ومبتغاه.
أحب النّاس فأحبوه.. واحترمهم فاحترموه.. وصدق مع نفسه فصدَّقوه.
سَكَنَ الوطن بداخله فتحرك من أجل إنقاذه فأراد الطاغية قتله فأكرمه الله قبل رحيله برؤية مشهد نهاية الطاغية وإعلان تحرير ليبَيا من حكم الاستبداد.
تقبلك الله يا عبد الله، وجزأك خيراً بما قدمت للوطن، وجعل مستقرك ومثواك جنات العلي.
وسلام عليك يوم ولدت ويوم رحلت ويوم تبعث حيا.
بقلم شكري السنكي (الصادق شكري*)
* ملاحظة: مراعاة لظروف إقامتي في مصر أثناء حكم حسني مبارك، نشرت مقالاتي السابقة في الشبكة الالكترونية تحت اسم (الصّادق شكري)، وأحب اليوم نشرها تحت اسمي الحقيقي رغم عظيم ارتباطي بالاسم الذي عرفني القرًّاء به على مدار سنوات طوال.
رحــم الله المناضل عبد الله امنينه... إلتقيت به آخر مرة في منزل الصديق سعد الأوجلي...
ردحذفوبارك الله فيك أخانا العزيز على هذه الأسطر الرائعة.