نذكر بأنه ومنذ ما يقارب السنة، وفي 27 يونيو 2011، وبعد فتح
التحقيق في3 مارس 2011، أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة
الجنائية الدولية ثلاثة أوامر بالقبض على معمر القذافي، سيف
الإسلام القذافي وعبد الله السنوسي بتهمة ارتكاب جرائم
ضد الإنسانية (القتل والإضطهاد في الفترة من 15 حتى
28 فبراير 2011، على الأقل).
وتم ذلك عملا بقرار لمجلس الأمن صدر بالإجماع في 26 فبراير
2011 تحت رقم 1970(2011)، وقضى بإحالة الوضع في ليبيا منذ 15 فبراير
2011 "تاريخ اندلاع ثورة 17 فبراير" إلى المدعي العام للمحكمة
الجنائية الدولية.
على أنه في 22 نوفمبر2011، أنهت الدائرة التمهيدية رسميا
القضية ضد المتهم الأول بسبب وفاته بتاريخ 20 أكتوبر 2011. و في
19 نوفمبر 2011 تم إعتقال المتهم الثاني في ليبيا التي أعلنت تمسكها بإختصاص
قضائها في التحقيق معه و مقاضاته. و في17 مارس 2011، اعتقلت موريتانيا آخر
المتهمين وطالبت بتسليمه المحكمة الجنائية الدولية وكذلك فعلت ليبيا و هي
دولة الجنسية ومحل وقوع الجريمة. و قدم نفس الطلب من فرنسا عن جرائم أخرى، حيث
أصدر قضائها منذ سبتمبر 1999 حكما غيابيا بسجنه مدى الحياة بعد إدانته بالضلوع في
تفجير طائرة تابعة لشركة "يو تي آي" قبل ذلك بعشر سنوات فوق صحراء
النيجر.
2.
قرار مجلس الأمن وممارسة الولاية القضائية الوطنية:
جاء في قرار مجلس الأمن رقم 1970(2011) تأكيد المجلس على
"إلتزامه القوي بسيادة ليبيا"، ولا شك أن إقامة العدل هي من أبرز مظاهر
ممارسة هذه السيادة. ومن المتفق عليه كقاعدة عامة أن القاضي الوطني هو القاضي
الطبيعي لوجود المتهم والوقائع والأدلة في إقليم دولته، وأن الأولوية للدول التي
يحمل المتهم جنسيتها والتي يقع الفعل المُجَرَّم فوق إقليمها.
وأعربت السلطات الليبية عن تمسكها بممارسة سيادتها وولايتها
القضائية وعدم التخلي عنها والمضي في التحقيق ومقاضاة كل من سيف الإسلام وعبد الله
السنوسي، ولهذا الموقف أسانيده القانونية في وثائق دولية عديدة أخرى منها نظام
روما لسنة 2002 الذي أنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية. و تعد المحكمة
الجنائية الدولية، طبقا لأحكام هذا النظام، محكمة المآل الأخير، فهي تكمل الأجهزة
القضائية الوطنية، وليس لها القيام بدورها القضائي ما لم تبد هذه الأجهزة عدم
رغبتها أو لم تكن قادرة على تناول تلك القضايا. و ذكرت ديباجة النظام المذكور بأن
من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسؤولين عن
ارتكاب جرائم دولية، وأكدت على أن المحكمة ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية
الوطنية. وقضت المادة (1) صراحة بأن "تكون المحكمة مكملة للولايات القضائية
الجنائية الوطنية". و قضت المادة 80 من نفس النظام تحت عنوان عدم المساس
بالتطبيق الوطني للعقوبات والقوانين الوطنية بأنه: "ليس في هذا
النظام الأساسي ما يمنع الدول من توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها
الوطنية أو يحول دون تطبيق قوانين الدول التي لا تنص على العقوبات المحددة في هذا
الباب".
هذا ما جاء في قرار مجلس الأمن وفي نظام روما، ويزيد من تعزيز
اختصاص ليبيا بمقاضاة سيف الإسلام، المعتقل في أراضيها، كونها ليست طرفا في النظام
المذكور. وليس في اعتقال عبد الله السنوسي في موريتانيا ما ينال من اختصاصها فهو
الآخر يحمل جنسيتها وهي محل وقوع الجرائم المتهم بارتكابها، وتلكم من بين أبرز
معايير تحديد الإختصاص القضائي المعمول بها دوليا. و طلبت ليبيا رسميا، و كذلك
المحكمة الجنائية الدولية بالإضافة إلى فرنسا كما سلف القول، تسليم السنوسي، ومن
أسانيد الطلب الليبي أحكام اتفاقية الرياض الموقعة سنة 1983، التي تلزم أطرافها، ومن
بينهم موريتانيا، بتسليم المطلوبين في القضايا الجنائية.
3.
قرار مجلس الأمن والالتزام بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية:
لا تعني ولاية القضاء الوطني إستبعاد التعاون مع المحكمة
الجنائية الدولية، و ذلك ما رحبت به ليبيا وسعت إليه خلال عدة لقاءات مع مكتب
المدعي العام. ولا يستند هذا التعاون على نظام روما، إذ ليست ليبيا، كموريتانيا،
كما سلف القول، طرفا فيه وليست ملزمة طبقا لأحكامه بالتعاون مع المحكمة مالم تقرر
ذلك بمحض إرادتها. إن هذا التعاون يستند على أحكام قرار مجلس الأمن التي قضت
بتعاون الدول وبأن "تتعاون السلطات الليبية تعاونا كاملا مع المحكمة و مع
المدعي العام". ومن البديهي أن التعاون، كعملية تهدف إلى تحقيق منفعة
متبادلة، لا ينطوي على التزام بتسليم المتهمين للمحكمة أو المساس بالولاية
القضائية الوطنية.
4. ضرورات تعزيز قدرات القضاء الوطني بما يراعي الأبعاد الدولية
للجرائم والإجراءات المتعلقة بها:
إن الأمر يتعلق بجرائم دولية، وذلك ما برر صدور أوامر القبض من
المحكمة الجنائية الدولية، وما يتوجب مراعاته عند تطبيق ولاية القضاء الوطني. فهي
تندرج ضمن الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وكان
إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كأول هيئة قضائية عالمية، وكما جاء في ديباجة نظام
روما، بهدف الحيلولة دون أن تمر هذه الجرائم دون مساءلة ووضع حد لإفلات مرتكبيها
من العقاب وضمان مقاضاتهم على نحو فعال.
وهكذا لايكفي ثبوت الولاية القضائية الوطنية، بل يتعين أن يقترن
ذلك بإقناع المجتمع الدولي، ولاسيما المحكمة ومجلس الأمن برغبة وقدرة ليبية على إجراء التحقيق والمقاضاة بما يتماشى مع الأصول المقررة
في القانون الدولي بشأن مثل هذه الجرائم. ويزيد من أهمية هذا الإقناع تعلق الأمر
بإجراءات تتم في ظل رقابة دولية مستمرة، رسمتها الإجراءات ذات العلاقة التي اتخذها
مجلس الأمن و المحكمة الجنائية الدولية. فما زال الوضع في ليبيا مدرجا في جدول
أعمال المجلس وما زال هذا المجلس يتابع ما يتخذ من إجراءات من خلال التقارير النصف
سنوية التي يقدمها المدعي العام للمحكمة المذكورة عملا بالقرار رقم 1970(2011)، وآخرها
التقرير المقرر تقديمه في الأسابيع القليلة القادمة.
إن الإجراءات الليبية يجب أن تتسم بالفعالية وتحقق الغاية الأساسية
لقرار مجلس الأمن رقم 1970/2011، أي "ضرورة محاسبة المسؤولين عن الهجمات
الموجهة ضد المدنيين". ولايكفي أن تكون لليبيا ولاية التحقيق والمقاضاة في
الدعوى، بل يجب أن تكون حقاً راغبة في الإضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة و قادرة على ذلك، و هذا ما جاء صراحة في أحكام نظام روما.
إثبات الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة : ويكون ذلك من خلال:
- إثبات الإضطلاع بالإجراءات المتعلقة بالمسؤولية الجنائية عن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
- الإبتعاد عن تأخير الإجراءات أو تأخير تقديم الشخص المعني للعدالة دون مبرر.
- الحرص على مباشرة الإجراءات بشكل مستقل أو نزيه يتفق مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
إثبات القدرة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة : ويكون ذلك من خلال:
- إ ثبات الوجود الفاعل لمؤسسات القضاء الوطني وعدم انهيارها بشكل كلي أو جوهري.
- إثبات قدرة المؤسسات المذكورة على إحضار المتهم والحصول على الأدلة والشهادات الضرورية والإضطلاع بإجراءاتها " تراجع المادة 17 من نظام روما: المسائل المتعلقة بالمقبولية".
وختاما ومع وضوح الرغبة في قيام السلطات الليبية بالتحقيق و المقاضاة كمطلب تدعمه أسانيد
قانونية مناسبة ويحظى بإجماع وطني شامل، ما زالت الجهود الرسمية رهينة
تداعيات وضع أمني غير طبيعي لايمكن معه الإقناع بالقدرة الليبية على هذا التحقيق والمقاضاة، وقد مضي ما يزيد عن أربعة شهور
على اعتقال سيف الإسلام، ثاني المتهمين. هذا ما تناوله مؤخرا بمرارة رئيس
المجلس الوطني الإنتقالي، وما تردد قبل ذلك في دوائر المحكمة الجنائية الدولية وما
خلصت إليه زياراتها وتقاريرها المتعلقة بهذا المتهم، وما دفعها إلى تصعيد المطالبة
بتسليمه، وتحديد آجال لإعلام المحكمة بالموقف الليبي بالخصوص، وهي آجال لم تجد
السلطات الليبية حتى اليوم، للأسف، من سبيل لمواجهتها سوى تكرار المطالبة بتمديدها
في انتظار تحسن الوضع الأمني!
د. عبد الرازق المرتضي
بعثة ليبيا لدى الأمم المتحدة - نيويورك
عضو لجنة القانون الدولى - جنيف
19 مارس 2012
www.aelmurtadi.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق