التقيتها
ذات مرة بساحة الحرية (بنغازي).. كان ذلك في الذكرى الأولى لثورة 17 فبراير، امرأة
في منتصف العمر بوجه يملؤه الأسى والحزن، تحمل صورة في يدها، وتتطلع في الوجوه
والجدران كمن يبحث عن شيء استحال عليه إيجاده، فاستوقفتها وبادرتها بالتحية،
وسألتها عن هوية صاحب الصورة، فأجابتني برفقة دمعة محتجزة في عينيها بأنه ابنها،
وهو شهيد من شهداء الكتيبة، وأنها فخورة به، فاستمعتُ إلى كامل قصتها من لحظة
خروجه إلى لحظة استشهاده.
ومرة أخرى
سألتها عن سر هذا الحزن، فقد كانت تروي لي كل التفاصيل بلهجة لا تخلو من الفرح
والاعتزاز بقدرة الثوار على تحقيق النصر ونجاح الثورة، وفجأة أطالت النظر ثم قالت:
(اسمعي الشعب الليبي ـ الأموات منه شهداء أما الأحياء فهم ضحايا الطاغية)، وما
يؤلمني يا أختي هو الصراع الدائر الآن على المناصب، في حين أن أولادنا عند خروجهم
لم يفكروا إلا في رفع الظلم، والمطالبة بالحرية، ثم ودعتها محاولة طمأنتها بكلمات
متفائلة : إن ليبيا بخير وإن الأم التي أنجبت مثل هؤلاء الأبطال لا يمكن أن تقف
عند هؤلاء المتسلقين وإن بليبيا رجالاً شرفاء سوف يقدمون أرواحهم لأجل ما اؤتمنوا
عليه (ليبيا).
ولكن لا
أخفي عليكم مشاركتي إياها خوفها وقلقها على الثورة وضياع دم الشهداء من قِبل عديمي
المسؤولية والضمير المحسوبين على الثورة والثوار.
كنا خلال
أشهر الثورة نصل إلي درجة التقديس لكل أبناء ليبيا من (الثوار) الذين ثاروا على
العبودية وكان مطلبهم الحرية فقط، فالشارع الليبي كله لم يُخفِ فرحه بالثورة...
الشاعر نطق بأجمل ما في مخيلته من أبيات عن الثورة والثوار، والمغني تغنى بها،
والرسام أبدع في وصفها، وكذلك الكاتب وغيرهم من شرائح الشعب المقهور، وعندما دخل الثوار
طرابلس كان بانتظارهم كل إخوانهم و أخواتهم فاستقبلوهم استقبال يعجز أيٍ كان أن
يصفه مهما أوتي من ملكات و قدرات على التعبير، حتى إن بعض النساء حكين أنهن وجدن
أنفسهن في وسط الطريق يستقبلن موكب الثوار ويصرخن بعبارات الترحيب ويبكين فرحاً،
وكأن من أتوا إليهم هم أطياف من الملائكة وليسوا بشراً من شدة طهرهم ونقائهم!.
أين هم
الآن؟ هل تبخروا أم انصهروا وتركوا ليبيا للمارقين والخارجين عن الدين والقانون؟..
أم عادوا إلى حياتهم تعففاً وزهداً؟
نقول لهم
إن زهدهم وتعففهم لم يحن وقته بعد، فليبيا اليوم تبحث عنهم بل وتستجديهم للعودة من
جديد ليكملوا ما بدؤوه، وإلا فإننا سنفقد كل شيء، ولن نجد لنا حتى وطنا نضحي من
أجله.
إننا وفي
وقت قياسي نكاد نقدم ليبيا قرباناً لمن ينتظر منا تجهيزها دون عناء، بصراعاتنا
السياسية وتكالبنا على المناصب، و استعراضنا لكل المفاهيم السياسية في بلد عدد
سكانه لا يتجاوز (6) ملايين نسمة، فانجازاتنا ميدانيا..لا تتعدى تشكيل حكومة لم
تُمنح أي وقت لبناء الدولة، فبعد أن تلاشت ملامح الثوار الحقيقيين أصبح الاقتتال
بين كتيبة وكتيبة أمرا مألوفا، واستيلاء إحدى الكتائب على موقع انتزعته من أيدي
كتائب الطاغية أمراً مشروعاً، وكأن هذا هو ثمن دماء شهدائهم، وانتشار المخدرات
وازدهار تجارتها حتى داخل الحرم الجامعي أمرا عاديا من قبل الفارين من العدالة،
وغياب الأمن بانتشار السلاح أمرا واقعا، وحتى أهداف المعتصمين الحقيقية حادت عن
مصداقيتها، فبدلا من المطالبة بتوفير الأمن والأمان للمواطنين أو مناداتهم بتفعيل
القضاء وقيام دولة المؤسسات وتحقيق العدالة الانتقالية، رأينا الحشود تتظاهر
للحصول على أي مكسب مادي مهما كان تافها أو صغيرا، وأصبح الجميع يمنّ على بلاده
ويطلب الثمن بما قدم ولو كان ما قدمه اليسير اليسير.
عوضاً عن
هذا... لماذا لا نرد الجميل للأم التي أعطتنا بسخاء والتي لم يراعِ بعضنا حقها
لعقود؟.. ماذا لو ارتسمت أمام أعيننا صور الشهداء؟.. لو لمحنا دمعة أمهاتهم وسمعنا
أنين الثكالى والأرامل والمغتصبات؟.
.. ماذا
لو ابتعدنا عن الأنانية وحب الذات ونزعة الانتقام؟. وماذا لو توقفنا عند الكثير من
أدوات التمني، قبل أن يصبح عدد الضحايا أكثر من عدد الشهداء؟:
بالتأكيد
سيكون حالنا أفضل مما هو عليه الآن.. وسندرك حينها أن أرض ليبيا قد تحصّنت بدماء
شهدائها، وأرواحهم ستظل محلقة في سمائها كشاهد على وطن أودِع في أيدي الأمناء....
فلا تجعلوها غنيمة بانشغالكم في جمع الغنائم والأصوات.. ولا تدعوها تصرخ من الجناة
بعد صراخها من الطغاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق