فتح
انتصار ثورة 17 فبراير باب التفكير في ملامح المرحلة المقبلة من حياتنا، وينصب
الحديث والكتابات الليبية اليوم على أهم ركائز بناء الدولة؛ الدستور، اللبنة
الأولى في هذا البناء.
ودون رغبة
في استفزاز العقول إلى الناحية الفارغة من الكأس، يُظهر النقاش الدائر اليوم
الحاجة إلى توافق وطني شامل حول جوانب هامة ذات علاقة بإعداد الدستور. فإعداد هذه
الوثيقة، أو العقد الاجتماعي، يقتضي البداية بالاتفاق على خيارات سياسية محددة
تقنن في وثيقة توافقية حاكمة تبين المقومات الأساسية لهذا العقد و ملامحه
الرئيسية، لتُدرج لاحقاً في مقدمة الدستور على غرار ما سار عليه العمل في عدة
دساتير.
لاشك أن
الإعلان الدستوري، وهو إعلان تنظيمي، قد حدد أسلوب عمل الدستور، وقضى بإنشاء مؤتمر
وطني عام مؤلف من مائتي عضو منتخب يختار بدوره "هيئة تأسيسية لصياغة
الدستور". ويتبع هذه الصياغة اعتماد مشروع الدستور من قبل المؤتمر ثم عرضه
على الشعب في استفتاء عام "الاستفتاء الدستوري"، ولا يصبح الدستور
نافذاً إلا بعد موافقة الشعب عليه.
وبهذا
تبنى الإعلان أسلوب "الجمعية التأسيسية المنتخبة المقرونة بالاستفتاء"،
وبذلك يكون الشعب قد شارك في وضع الدستور على مرحلتين، حيث ينتخب أعضاء المؤتمر
الذي يباشر مهمة وضع الدستور، وبذلك يضع الشعب الدستور بطريق غير مباشر، ثم يوافق
على ذلك الدستور من خلال الاستفتاء.
ومن
البديهي أن هذه المبادئ لا تؤمن الانتهاء من صياغة دستور دائم، وتحتاج إلى إجراءات
تنفيذية. وتتواصل الكتابات وتتتشعب المناقشات حول هذه الإجراءات، والشيطان كما جاء
في رواية "دان براون"، يكمن في التفاصيل:
فما زالت
تثار مشاغل حول طريقة انتخاب أعضاء المؤتمر، وتحديد الدوائر الانتخابية، ومدى
اعتمادها على التوزيع العددي أو الجغرافي للسكان، ونظام الانتخاب: النظام الفردي
أو نظام القوائم. وكيف سيختار المؤتمر "الهيئة التأسيسية لصياغة
الدستور"؟ وما هو هيكلها؟ وما هي المعايير الواجب توفرها في أعضائها؟ وكيف
ستعمل وتتخذ قراراتها؟ إن اختيار أعضاء الهيئات التأسيسية يقتضي توفر مؤهلات
سياسية وقانونية تمثل كافة ألوان الطيف الليبي. وكيف يصنع القرار أو ما هي
الأغلبية المطلوبة لإصدار قرارات المؤتمر والهيئة المتعلقة بإعداد الدستور؟
وبعيداً عن الأغلبية البسيطة، تشترط ممارسات الدول أغلبية خاصة لا تقل عن الثلثين
نظراً لتعلق الأمر بإعداد دستور.
وماذا عن
عرض مشروع الدستور للاستفتاء عليه؟ إن هذا العرض قد يكون مجرد إجراءٍ شكلي، وذلك
ما عليه الحال في كثير من الدول النامية حيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة لمن يضع
مشروع الدستور. وتتجه بعض ممارسات الدول إلى تناول الاستفتاء بقانون خاص يفرض
انقضاء فترة زمنية معقولة بين إعداد مشروع الدستور والاستفتاء عليه، ويحدد طبيعة
هذا الاستفتاء وكيفية عرض مشروع الدستور على الشعب. ويظهر تناول هذه الأسئلة و
الكتابات بشأنها تبايناً في المقاربة، يملي التذكير بما يلي:
أولاً: إن
الأمر يتعلق بإعداد دستور دائم، بقانون أساسي، تبنى عليه كل مؤسسات الدولة وكامل
نظامها القانوني، وهو العقد الاجتماعي الذي يحكم التزامات السلطة في مواجهة
المواطن. ومن سماته الرئيسية:
- أنه يجب أن يكون حصيلة قيم الثورة التي أجمع عليها الليبيين وقدموا أغلى التضحيات من أجلها. ومن هذه القيم المساواة دون تمييز أو تهميش، وتحقيق تنمية شاملة ومتوازنة من خلال دولة مدنية يحكمها دستور ينطلق من قيم الإسلام، ويرسخ العدل و التكافل.
- وهو يجب أن يجسد وحدةً و توافقاً وطنياً بفضل حلول يرضى عنها الكافة، بما في ذلك الأقليات. فالدستور لا يصاغ من قبل أومن أجل أغلبية اليوم، السياسية أو الاجتماعية أو الجغرافية، لينتهي بتبني نظام سياسي يعطي هذه الأغلبية الظرفية القول الفصل في شؤون البلاد لسنوات طويلة قادمة. ويبدأ تحقيق هذا الوفاق من أداة صياغة الدستور، والتي يجب أن تشكل من كافة أنحاء البلاد، ويشارك فيها جميع الليبيين بمختلف مكوناتهم الاجتماعية و الجغرافية.
- وهو يوضع ليبقى لأطول مدة ممكنة. فمن سماته الثبات النسبي لأحكامه وطول سريانها بما يحول دون جعلها أدوات على المقاس مصاغة استجابةً لرغبة مكون اجتماعي أو جغرافي بعينه، مراعاةً لوضع قائم عرضةٍ للتغيير. فالأمر يتعلق بتنظيم وتسيير مؤسسات دائمة وضبط الوفاق بين حرية الجميع والسلطة، وهي مسائل أهم من أن تكون عرضةً لتعديلات متعاقبة على ضوء ظروف الساعة وأغلبياتها. وكم كشفت ترسانة التعديلات الدستورية في منطقتنا عما خفى، وكيف وظف "السلاح الدستوري" لخدمة أهداف خاصة دون صلة بمصالح واستقرار الوطن والمواطن.
- ولهيئات إعداد هذه الوثيقة الهامة وضعها الخاص. فالمؤتمر الوطني العام كمؤتمر دستوري أو"هيئة تأسيسية" مواصفات مختلفة عن مواصفات "الهيئة التشريعية" التقليدية، والصلاحية لإحداهما لا تجعله صالحاً للأخرى. وتسمو مهام "الهيئة التأسيسية" على مهام "الهيئة التشريعية" وتحكمها، وتقتضي في الأعضاء حكمة ومسؤولية وطنية وسياسية بعيدة عن حسابات الدوائر الانتخابية المألوفة في الهيئة التشريعية. وعليه لا يمكن الخلط بين طريقة اختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام "كهيئة تأسيسية" وطريقة اختيار "الهيئة التشريعية". وإذا كان للأغلبية أن تفرض رؤيتها أو برنامجها على الأقلية في "هيئة تشريعية"، فليس لها ذلك في وضع دستور يجب أن يقوم على التوافق بين كافة مكونات وأطياف الشعب، بما في ذلك الأقليات ومن خسروا أو لم يشاركوا في الانتخابات. ورغم تعدد اختصاصاتها التشريعية والمالية والرقابية فإن "الهيئة التشريعية" لم تعتبر على مدار التاريخ، ملائمة لإعداد دستور أو إصداره، وليس في شروط اختيار أعضائها ما يتطلب القدرة على وضع دستور دائم.
ويميز
الفقه الدستوري بوضوح بين الهيئتين ويسمي هيئة وضع الدستور بالسلطة التأسيسية Pouvoir
Constiuant تمييزاً لها عن السلطات التي تنشئها أحكام
الدستور والتي تعتبر هيئات مؤسَّسَة (بفتح السين). وساد هذا التمييز ممارسات الدول
بما في ذلك الممارسات الليبية المتعلقة بإعداد دستور 1951. فبعد صدور هذا الدستور
في 7 أكتوبر 1951 بتوافق ساد أعمال الهيئة التأسيسية "الجمعية التأسيسية
الوطنية"، صدر في 6 نوفمبر 1951 قانون الانتخاب متضمناً المبادئ والقواعد
التقليدية المنظمة لاختيار أعضاء الهيئة التشريعية "البرلمان".
ثانياً:
إن مبدأ التوافق يحكم، إعداد الدستور، وذلك ما تشير إليه ممارسات الدول وما تشتد
المطالبة به هذه الأيام في دول الجوار. ويمتد ذلك إلى الهيئة التأسيسية المكلفة
بوضع الدستور، تشكيلها بدايةً ثم منهج عملها و قواعد إجراءاتها التي تضعها هذه
الهيئة نفسها. و مما يمليه إعمال هذا المبدأ، الإيمان المسبق بوجود الآخر واكتشافه
والتعرف على ما يريد "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا". بذلك يحل التواصل والتقارب وتحقيق المصلحة الوطنية المشتركة
محل التنافر ونزعة الانكفاء والإقصاء.
ما أحوجنا
إلى الابتعاد عن تجييش مصطلحات وأوصاف تمس النسيج الوطني وتشوش دون مبرر على
الحراك الصادق.
إن التوسع
في التوزيع الحقيقي للسلطة والثروة و تقريب القرار من مكان تنفيذه وإنتاجه من
القاعدة وليس من القمة، يُعدّ من أهم أسس الدول المعاصرة. ذلك ما تعتبره دول اليوم
وسيلةً هامة للحفاظ على الوحدة وسيادة الدولة وتقليص بيروقراطيتها وتذويب
التجاذبات ومحاربة الإقصاء خدمةً لتنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة ومستدامة. وما
زال يستقطب هذا التوجه اهتماماً متزايداً في مختلف الدول، بل تبنته دساتيرها
وتشريعاتها الوطنية.
ثالثاً:
لقد عادت بعض مناقشات اليوم لدستور1951؛ للتراث الدستوري الليبي، عودةً يفرضها علم
التاريخ ومقتضيات تمكين الأحفاد من الحصول على معرفة من الأسلاف. ومن البديهي أن
هذه العودة تتعلق بأفكارٍ وقيم قبل نصوصٍ وأشكال كانت نتاج وقتها ومناسبةً في
حينها وقد لا تكون كذلك اليوم.
لقد درس
هذا التراث شاهدٌ من أهله، حضر وساهم بفعالية وحكمة في ولادة الدولة الليبية
الدستورية الأولى، وهو الهولندي، السيد أدريان بيلت/ مندوب الأمم المتحدة في
ليبيا، في كتاب نشر سنة 1970 واشتمل على (1016) صفحة موزعة على (9) فصول، وحمل
عنوان:
استقلال
ليبيا و الأمم المتحدة: حالة تصفية استعمار مخططة
Libyan
Independence and the United Nations: A case of planned Decolonization
وأُرفِق بالكتاب
"114" وثيقة تناولت جوانب عديدة ذات أهمية للجهود الليبية الراهنة
المتعلقة بإعداد الدستور اليوم. ولا يتوفر هذا الكتاب في المكتبات التجارية وإن
توفر في بعض المكتبات الجامعية. ويتضمن الكتاب عدة وقائع وشهادات تاريخية هامة حول
ولادة الدولة الليبية الدستورية الأولى منذ 21 نوفمبر 1949 عندما أصدرت الجمعية
العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 289 (IV) القاضي باستقلال ليبيا، كأول دولة
تحصل على استقلالها من خلال الأمم المتحدة. و نص القرار على ألا يتأخر هذا
الاستقلال عن أوّل يناير 1952 – واضِعاً الآباء المؤسسين أمام تحدٍ زمني كبير. وتنفيذاً
لهذا القرار تم التنظيم الإداري لمهام بناء الدولة وإعداد الدستور، فقد عينت
الجمعية في 10 ديسمبر من نفس السنة السيد أدريان بلت مندوباً للأمم المتحدة في
ليبيا، وتم تشكيل مجلس يقدم له المشورة سمي بمجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا؛
"مجلس العشر".
وقد ضم
المجلس ممثلين عن ست دول وثلاثة ممثلين عن المناطق الرئيسية وممثّل عن الأقليّات،
عينهم المندوب بعد استشارة السلطات الإداريّة والشخصيّات القياديّة وممثّلي
الأحزاب السياسيّة والمنظّمات.
تبع ذلك
تشكيل أجهزة أو لجان إعداد الدستور، وبدأ ذلك باللجنة التحضيرية "لجنة الواحد
والعشرين"، فالجمعية الوطنية التأسيسية "لجنة الستين" التي شكلت
لجنتين: "لجنة الدستور"، وشكلت من داخل هذه اللجنة "لجنة
العمل" وهي التي قامت بوضع الدستور مسترشدةً بأحكام دساتير دول عديدة و بآراء
خبرات قانونية عربية ودولية رفيعة حتى أنهت أعمالها. وفي 7 أكتوبر 1951 صدر الدستور
من قبل الجمعية التأسيسية الوطنية، وبعد ذلك بحوالي شهر، وفي 6 نوفمبر 1951 صدر
قانون الانتخاب وتم تنفيذه وشُكِّل البرلمان واجتمع لأول مرة في 25 مارس 1952، أي
بعد شهرين فقط من إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر1951.
وساد
تشكيل مجمل هذه الأجهزة المساواة بين المناطق بعد هجر معيار عدد السكان نظراً
لاختلاف هذا العدد من منطقة إلى أخرى. وفيما يخص طريقة اختيار الأعضاء لُوحِظ
صعوبة الانتخاب في الظروف القائمة، وتم الاتفاق على اللجوء للتعيين، وذلك بآلية
شملت اختيارهم من قبل قيادات سياسية واجتماعية ودينية محددة.
وتظهر
تفاصيل مداولات هذه الأجهزة و طرق أدائها لمهامها، كما تناولتها وثائق الأمم
المتحدة وسردها كتاب السيد أدريان بيلت، إصرار الآباء المؤسسين على بناء دولة دستورية
حديثة رغم محدودية الزمن المتاح وضخامة التحديات. لقد قِيل بأن تاريخ الشعوب
يُقرَأ من خلال دساتيرها، وسجلت انجازات الآباء صفحات مشرقة من تاريخنا حافلةٍ
بالقيم الوطنية الراقية وبسعة الأفق والاستعداد للحوار وقبول الحلول التوفيقية.
وتُوِّجت جهودهم بالتوصل في زمن قياسي لدستور توافقي يدرجه الفقه الدستوري ضمن
أكثر الوثائق الدستورية تكاملاً وتقدماً، وهو الذي تبنى منذ ما يزيد عن نصف قرن،
ولأول مرة في الدول المستقلة، أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويبقى
للأحفاد دراسة التاريخ والنظر في استخلاص الدروس والعبر من أعمال وتجارب قدّمت
درساً متميزاً في التسوية السياسية، لاسيما وقد تشابهت الظروف التي حكمت هذه
الأعمال مع ظروف اليوم:
- فالحياة السياسية الليبية ما زالت على حالها إلى حد كبير. لقد كشف السيد أدريان بيلت في الفصل السابع من كتابه عند تناول ما يسميه بصناعة الدستور "دستور 1951" كيف أنه لم يُسمَح قط للشعب الليبي حتى ذلك الوقت باكتساب أي تجربة عملية في حكم نفسه بنفسه. من الواضح أن فرص هذا الاكتساب قد نسفت بالكامل بعد وصول القذافي للسلطة، وهو الذي صادر الرأي السياسي الآخر بل أدرجه ضمن أشد الجرائم خطورةً؛ "من تحزب خان".
- وخريطة التركيبة الاجتماعية الليبية لم تتغير، إن لم تتعمق، نتيجة سياسات التهميش التي اعتمدها نظام القذافي، ومازالت أساسيات تقديرات نسب توزيع السكان ساريةً كما أعدتها اللجنة الفنية للأمم المتحدة خلال إعداد دستور 1951.
- وما زال تحدي الزمن الذي واجهه الآباء قائماً. لقد أحدثت ثورة 17 فبراير تغيراً سياسياً هاماً يقتضي سرعة التقنين. وإن كان صحيحاً أنه لا مصلحة في سيطرة ملابسات الساعة على صناعة الدستور، إلاَّ أن إطالة مدة الفترة الانتقالية الراهنة تتضمن مخاطر النيل من الأهداف السياسية الكبرى للثورة ومقتضيات تحقيق استقرار البلاد في أقرب وقت.
- وما زالت فرص الاستفادة من الأمم المتحدة متاحةً، وكما استفاد الآباء من المنظمة في إطار جمعيتها العامة، فإنه بإمكان صناع الدستور الجديد تحقيق الكثير بفضل وجود بعثة للأمم المتحدة في ليبيا تعمل في إطار مجلس الأمن.
- وما زالت تُعلَن ذات المرتكزات الأساسية للدولة و دستورها. ويذكر ما يُقال اليوم بمنهجيةٍ تبنتها الجمعية الوطنية التأسيسية لدستور 1951، ألا وهي كتابة دستور نموذجي يتفق مع ما هو سائد في العالم المتحضر، وينطلق من قيم ومبادئ الإسلام.
د. عبد
الرازق المرتضي
بعثة ليبيا لدى الأمم
المتحدة/ نيويورك
عضو لجنة القانون الدولي/
جنيف
www.aelmurtadi.com
عرض متميز للدكتور المرتضي الذي وجدت في مقالته اسلوبه الموضوعي ومنهجيته المعتادة ووطنيته النقية البعيدة عن المزايدات والاهداف الخاصة
ردحذف