إنعقد في مدينة طرابلس خلال الأونة الأخيرة مؤتمران تحت عنوانين كبيرين يحملان أهمية كبيرة ودلالات بالغة التأثير على حاضر ليبيا ومستقبلها، الأول "مؤتمر الميثاق الوطني" الذي إنعقد بمعهد شئون النفط يوم 29/11/2011 والذي فهمنا أنه يهدف إلى تشكيل لجنة تحضيرية تمهد لإنعقاد مؤتمر وطني جامع لوضع ميثاق وطني، ورغم ضبابية الفكرة إلا أن الشعور بضرورة وأهمية المشاركة في مثل هذه الملتقيات التي تهدف إلى تقريب وجهات النظر وخلق رأي عام وطني يلتقي على أرضية القواسم المشتركة التي توحد الليبيين تحت مظلة ثورة 17 فبراير المجيدة قد دفعتني وغيري من الوطنييين إلى المشاركة في هذا المؤتمر.
أما المؤتمر الثاني فقد دعا إليه المجلس الوطني الإنتقالي ونظمته مجموعة الإستشارات الوطنية وإنعقد بطرابلس في قاعة المؤتمرات بفندق ريكسوس يوم السبت 10/12/2011 تحت عنوان "المؤتمر الأول للحوار الوطني – الإنصاف والمصالحة" وحضره إلى جانب السادة رئيس المجلس الوطني الإنتقالي ورئيس وزراء الحكومة الإنتقالية ومفتي الديار الليبية العلامة الشيخ يوسف القرضاوي والزعيم السياسي الإسلامي راشد الغنوش ووزير الخارجية القطري، الذين تحدثوا جميعهم في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر وأدلوا بدلاهم فيما يتعلق بموضوع المصالحة الوطنية.
ولا يملك من حضر هذين المؤتمرين إلا أن يخرج ببعض الملاحظات خلاصتها ما يلي:
- أن هذين المؤتمرين بعيدين كل البعد عن مفهوم الحوار الوطني فلم يحددا من هم المتحاورون ولم يتضمن برنامجهما أي فسحة أو مكنة للحوار.
- أن برنامج المؤتمرين يتكون من كلمات إفتتاح تتضمن توجيهات إرشادية من شخصيات سياسية تمثل السلطة الحاكمة في ليبيا ورموز سياسية/دينية محلية وخارجية ذات إنتماء سياسي/ديني واحد، يليها سلسلة من المحاضرات المعدة بأسلوب أكاديمي يتم إلقائها على الحاضرين في إطار حملة توعوية، تثقيفية، ذات توجه سياسي وعقائدي واحد.
- حاول المؤتمران إستثمار الحضور من المدعوين لإصدار بيانات ختامية أو توصيات معدة سلفاً "باسم المؤتمر" دون إتاحة الفرصة للحاضرين للمشاركة في النقاش أو صياغة البيان أو التوصيات.
مؤتمرات مثل هذه تنسج على منوال المؤتمرات والندوات التي كان ينظمها النظام المنهار ويسخر لها إمكانيات وأجهزة الدولة لغرض فرض أفكار وسياسات وتوجهات محددة على الليبيين فكان نتيجتها عزوف الليبيين الوطنيين الشرفاء عن حضورها والمشاركة فيها وإقتصر الحضور على المهرجين والنفعيين وتحولت بذلك إلى موالد للإسترزاق وإن أخذت طابعاً أكاديمياً أحياناً أو شعبياً في أحيان أخرى، وأدت إلى عزلة النظام والتعجيل بالثورة عليه.
فهل يريد منظمو مثل هذه المؤتمرات أن يكرروا نفس التجربة الفاشلة من خلال الإصرار على تغييب لغة الحوار والشفافية والمصداقية في طرح الأهداف والمستهدفات ومحاولة فرض أفكار وتوجهات سياسية محددة تحت عناوين براقة كالميثاق الوطني والحوار الوطني. إن خطورة مثل هذا التوجه تكمن أولاً في تسفيه المعاني والأهداف النبيلة والدلالات السامية التي تحملها عبارات "الحوار الوطني" و "الميثاق الوطني" وثانياً في محاولة مصادرة لغة الحوار بين أطياف ومكونات المجتمع الليبي وتياراته السياسية والفكرية وفرض توجه سياسي عقائدي واحد من خلال تقديمه في إطار أكاديمي مدعوم بخطاب ديني يوظف رموز سياسية ودينية محلية وعربية بما فيها مؤسسة دار الإفتاء التي يجب أن تبقى بعيداً عن السياسة حفاظاً على هيبتها وضماناً لقبولها من جميع الليبيين.
من لا يدرك أن أساس الديمقراطية أو الشورى هو الحوار لمحاولة الوصول إلى قواسم وثوابت مشتركة مع إحترام الإختلاف في الرأي، فإنه يؤسس إلى ديكتاتورية بديلة عن ديكتاتورية الطاغية الذي لم ننته من دفن نظامه بعد. ومن لا يدرك أن الليبيين ثاروا على النظام ذو اللون الواحد، عليه أن يمعن النظر في علم الاستقلال بألوانه المتعددة الزاهية التي ترفرف الآن في مدننا وقرانا.
عبد الدائم الغرابلي المحامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق