مع بدايات عام 1980 أستغول معمر وأزلامه واستمر في ملاحقة
الشرفاء من أبناء الوطن وتصفيتهم.. وكانت نقطة الانطلاق من الداخل. يوم الأحد
الموافق 24فبراير 1980 القي القبض على عامر الطاهر الدغيس لينتهي ذلك بمقتله غدراً
في السجن بطرابلس يوم الأربعاء 27 من فبراير.. ويتواصل بعدها مسلسل التصفيات
المريعة في الداخل والخارج وعبر عمليات دنيئة من الغدر والانحطاط.. وفي مقدمة
هؤلاء: محمد حمي، ومحمد مصطفى رمضان ، ومحمود نافع، وعبد الجليل عارف، وجبريل
الدينالي، وعمرو النامي... وغيرهم من الرجال..الرجال.
ولد عامر الدغيس في طرابلس في مطلع الثلاثينات الماضية ودرس
بحقوق القاهرة ونشط في نادى ليبيا الثقافي هناك وكان عضوا في تحرير مجلة (صوت
ليبيا) التي أصدرها النادي عام 1954 مع زملائه: محمد بن يونس وعلى بوزقيه وسالم
بوقعيقيص ومفتاح السيد الشريف. وفى القاهرة أيضا جمعته الدراسة مع: عبد المولى
دغمان واحمد يوسف بورحيل واحمد يونس نجم وعبد الحميد البابور ومصطفى بن شعبان
ومفتاح الكاديكى وعبد الله الضريريط ومفتاح مبارك الشريف ومصطفى الشيبانى وعبد
الحميد النيهوم وعبد الحميد البكوش وعطية الجاضره ومنصور رشيد الكيخيا وعز الدين
الغدامسي وعلي عميش وعلي وريث وكامل المقهور.. وغيرهم ممن شكلوا جيل الثلاثينات
الليبي..المثقف والواعي الذي يرنو إلى الانطلاق والتغيير بمسؤولية وحب
للبلاد..لليبيا.. جيل يحب الحوار والنقاش والفكر واحترام الآراء دون تعصب.. أو قطع
للطريق أمام الآخرين.
انضم عامر إلى حزب البعث خلال دراسته وعقب عودته اشتعل محررا
للعقود بطرابلس وارتبط بعلاقات طيبة مع كل الأطياف والاتجاهات في أنحاء ليبيا
واعتقل عام 1961 وحكم عليه في قضية تشكيل الحزب مع الكثير من زملائه ثم أطلق سراحه
ومنع كما منع آخرون من الترشح في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1964.
نشر عامر مقالة في العدد السادس من مجلة النور الصادرة في
بنغازي (نوفمبر 1957) أكد فيها.. (إن القوى الشعبية هنا تفتقر للقيادة الوطنية..
القيادة الوطنية الجديدة التي تقود الشعب دون أن تنفعل.. والتي تخطط للشعب دون أن
ترتجل).. ولعل هذا الكلام ما يزال ساري المفعول إلى حين إشعار أخر!!
تلك ومضات وقبسات سريعة من سيرة عامر الطيبة..الرجل الذي كان
يحمل وطنه في قلبه ويشتاق إلى تقدمه وتطوره والى امة يعيش أبناؤها في كرامة وحرية
.. لكن الحلم عند عامر وجيله انطفأ للأسف وسط ظلام العسف والصوت الواحد والأحذية
الثقيلة التي منهجها الدوس على الكرامة وركل الحريات ونصب المشانق. تصنف الآخرين..
تغلق في وجوههم الأبواب.. تعقرهم بالفخاخ والمصائب.. تسد نوافذ النور.. تحارب
الكلمة والرأي.. وتصادر الشعر..وتجرم الأغنية.. وتكره اللحن.. وتولغ في الدماء..
وترتاح لنباح كلابها ومرتزقتها.
كان دأب معمر على الدوام.. القضاء على الشرفاء وقد فعل ذلك بكل
شراسة وخسة مع الكثيرين منهم. كان عامر قد ترك نشاطه الحزبي قبل الانقلاب بفترة
طويلة وعندما عرض عليه مع بداية ذلك الانقلاب الأسود - الذي قلب ليبيا رأسا على
ذيل - المشاركة في عضوية أول حكومة رفض ذلك (الموقف نفسه اتخذه احمد بورحيل) وبهذا
ظل القذافى يتابع الرجال بكل حقد ولؤم..غير أن تاريخهم النظيف ظل يبرق في سماء
ليبيا باتصال.. ليبيا التي ترمى بالعفن وراء ركام التاريخ.
اذكر أن اغتيال عامر وقع في آخر يوم من أيام مأتم الأستاذ محمد
بشير الهوني مؤسس جريدة الحقيقة الذي توفي في روما ودفن في بنغازي وكان من بين
الحاضرين تلك الليلة في المأتم الأستاذ محمد حمي أحد رواد العمل الوطني والفكري
والاجتماعي ومن بناة الجامعة الليبية منذ تأسيسها عام 1955 الذي توجه إلى طرابلس
ليحضر جنازته ويؤبنه بكل شجاعة فيلقى القبض عليه وينال تعذيبا قاسيا - رغم كبر
سنه- من عتاة الثوريين"رسل الحضارة الجديدة " كما كانوا يتباهون بكل
صفاقة ويستشهد جراء ذلك بعد رحيل عامر.. وليمثل رحيلهما واستشهادهما موقفا رائعا
من مواقف رجال ليبيا ويذهب معمر- وهو غير عامر - غير مأسوف عليه لتظل مآسيه
وظلماته التي ارتكبها في حق الوطن ورجاله شاهدا مع الفارق على اثنين: عسفه
وطغيانه.. ومواقف الرجال التي ستحيا في الضمير والوجدان.
إن الوطن هو الباقي.. وإن أحسن الأمثلة هي التي تعيش..وإن دماء
الشهداء تثمر حقولاً من الفخر.. فسلام على عامر في يوم الغدر به وعلى كل أصحاب
المواقف النبيلة والمشرفة من أبناء ليبيا الغالية..وسلام على الجيل الذي سيصنعها
وطناً زاهراً بهذا التاريخ.. وبهذا المجد.
سالم الكبتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق