سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلاّ
بالله. هذا كل ما أستطيع قوله لبعض إخواننا الذين يظنون أنهم يعرفون الفرق بين
اللامركزية والفدرالية والحكم المحلي. وأغلبهم في الحقيقة لا يعرفون الفرق بين هذه
المصطلحات لالشيء إلاّ لأنهم لايقرأون أو يقرأون قليلا؛ ويعتمدون على مايسمعونه من
الغير. وهذا يقود الى خلل في التفسير، والاستنتاج، والتدبير. وأنا هنا أحاول على قدر
معرفتي النظرية، ومشاهداتي التطبيقية، ومتابعتي لما يحدث في بلدان العالم الثالث
من تحايل على إرادة الحكم الذاتي للمواطنين باستخدام أنماط من الشعارات،
والقوانين، والممارسات التي تتحدث عن الحكم المحلي، ووزارة الحكم المحلي، ومجالس
البلديات، وغيرها من مصطلحات الشرق الشيوعي السابق الذي بقدر ماكان يسحق الناس كان
يتغنى بالسلطة الشعبية، والمجالس الذاتية، وسلطة الجماهير كما فعل الطاغية
المردوم؛ أحاول أن اشرح الموضوع ليجفد فيه من لايملك معرفة وافية العون على فهم
الموضوع.
مفهوم
اللامركزية الحقيقي
تعني اللامركزية هو أن يتولى سكان إقليم
أو منطقة معينة إدارة شؤونهم الداخلية بصورة كاملة مستقلة عن الحكومة المركزية.
ويشمل ذلك جميع جوانب حياتهم اليومية (التعليم العام وأحيانا حتى التعليم العالي،
الصحة، القضاء، الإسكان، الزراعة، الأمن، بناء الطرق المحلية، المالية). ويكون لكل
إقليم حكومة محلية منتخبة ومجلس تشريعي منتخب طبعا. كما يتمتع كل إقليم بتقرير
سياسته المالية، ومرتبات موظفيه، وتقرير ضرائبه المحلية، وحرية التصرف في نصيبه من
الدخل السنوي الوطني العام الناتج عن الثروات المعدنية كالنفط والغاز وغيره؛ والذي
تقوم الحكومة المركزية بتحصيله وتوزيعه على حكومات الأقاليم حسب عدد السكان
بالتساوي. (طبعا تحتفظ الحكومة المركزية بجزء من الدخل الوطني العام الناتج عن
الثروات الطبيعية حسب أحكام دستور البلاد لتنفق منه على المؤسسات المركزية
والمشاريع الوطنية العامة).
وهذا يعني أن الحكومة المركزية تتولى
مسئولية إدارة وتمويل الدفاع، والأمن الوطني (الشرطة المركزية)، الشؤون الخارجية،
إدارة وتسيير المنافذ جميعها، شؤون الجمارك، مرافق الاتصالات السلكية واللاسلكية
والطرق العابرة للأقاليم، وأمور التقاعد، والتعليم العالي والبحث العلمي، القضاء
المركزي، وإدارة شؤون الجوازات والإقامة، وتمويل المؤسسات التشريعية كالبرلمان
مثلا.
وهكذا تتضح الخطوط بما لايدع مجالا للشك
والتأويل بشأن اختصاصات الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم. وتكون هذه
الاختصاصات مكتوبة في الدستور وغير قابلة للتصرف.
وميزة هذا التنظيم السياسي والإداري
للمجتمع هي أنه يطلق قدرات الإبداع لدى مواطني كل إقليم للسعي والنمو. كما أنه
يتيح الشفافية كاملة لمتابعة وتقويم عمل حكومة الإقليم لقربها من المواطنين. كذلك
فإنه يستثير الحماسة والغبطة بين الأقاليم في تنافس شريف بينهم من أجل تقديم أفضل
الخدمات للمواطنين. إنه بحق يحقق مقولة "أهل مكة أدرى بشعابها".
كما أن هذا التنظيم اللامركزي الحقيقي
يريح الحكومة المركزية من الانشغال بالقضايا الخدمية على مستوى البلد ككل، ويجعلها
تركز همها على الاهتمام بشؤون المواطنين في ما يتصل بالشؤون الخارجية، والدفاع،
والتطوير العلمي، والمشاريع الاستراتيجية
إذن، اللامركزية
لاتعني الانفصال عن الوطن الكبير. كما أن هوية المواطنين تقوم على أساس الوحدة
الوطنية والهوية الوطنية. الإقليم مكان للعيش والعمل واستلام الخدمات اليومية
بإدارة ذاتية. والحكومة المركزية والوطن الكبير هو لحمة الانتماء ووحدة المصير.
مفهوم
الفدرالية
مفهوم الفدرالية هو نفسه التنظيم
السياسي والاداري للدولة من حيث وجود حكومة مركزية، وحكومات أقاليم أو ولايات،
تقوم على نفس الأسس والمبادئ التي تقوم عليها السلطة اللامركزية الحقيقية. كما
تقوم الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم بنفس الاختصاصات التي تتمتع بها في مفهوم
السلطة اللامركزية. وربما الفارق الوحيد بين المفهومين هو أن نظام الادارة
الذاتية الفدرالية قد يعطى (قد وليس بالضرورة) للإقليم حق الآنفصال لو أراد
مواطنوه ذلك. ويمكن معالجة هذا الإحتمال بأن يتم النص في الدستور صراحة على أن حق
الإدارة الذاتية في الدولة الفدرالية لايعطي الإقليم حق الإنفصال عن جسم الدولة.
وبهذا لايشكل النظام الإداري الفدرالي ولا نظام الحكم اللامركزي الحقيقي أي خطر
على الوحدة الوطنية. الدستور ياسادة يكتبه أهل البلد وهو العقد الاجتماعي الذي
يتفقون عليه وبإمكانهم أن يضعوا فيه شروطهم (والعقد كما يقولون شريعة المتعاقدين).
وهكذا يتضح أنه لافرق مطلقا بين اللامركزية الحقيقية والنظام الفدرالي.
مفهوم
الحكم المحلي ووزارة الحكم المحلي
يشير هذا المفهوم الى
أن الحكومة المركزية تقسّم البلد الى بلديات او مجالس إدارية لاتملك من قرارات
المشاركة في السلطة شيئا.
بل تتخذ الحكومة المركزية من هذه التنظيمات المحلية وسيلة للسيطرة على
المواطنين والتحكم في مصيرهم عن طريق أبناء مناطقهم وتسخيرهم لطاعة أوامر الحكومة
المركزية بدون أن تظهر الحكومة المركزية في ثوب المستبد. فالحكومة المحلية
لاتتمتع بأي اختصاصات حقيقية. هي فقط تنفذ ما تأمرها به الحكومة المركزية.
ونحن كلنا نعرف عيوب الحكم المركزي. فالمال، والسلطة، والقرار، والقانون، والأمن
كله بيد الحكومة المركزية. وهذه هي ماء الحياة للمجتمع. كما أن جميع المسئولين
في المناطق المحلية تعينهم الحكومة المركزية وهم عمالها في الأقاليم تملك مرتباتهم
وتتحكم في مصائرهم دون أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. وهذا يعني أن كلمات السلطة
المحلية والحكم المحلي هراء في هراء؛ أي أنه كالقابض على الماء يراه ولا يكاد يبلغ
فمه. إنه خدعة كبرى في الضحك على الناس بكلام معسول يشبه السراب. وحتى توهم
الحكومة التي تطبق هذا النظام المواطنين بأن هناك حكم محلي تخلق وزارة تسميها
(وزارة الحكم المحلي) وهي جسم بلا روح لأن كل اختصاصاتها لاتزيد عن إبلاغ
المواطنين في البلديات أو المحافظات أو المجالس أوامر الحكومة الوحيدة المهيمنة
على كل شيء وهي الحكومة المركزية. هكذا فعل عبد الناصر، وحافظ الأسد، وصدام حسين،
والمردوم، وغيرهم من المستبدين الذين يؤمنون بأنهم وحدهم الذين يجب أن يتحكموا في
(المال والقرار الحقيقي) وأن الشعب في مناطق الحكم المحلي ووزارة الحكم المحلي
يبقون في موشح (الطير يغني وجناحه يرد عليه).
ومن نافلة القول أيضا
أن ما هو موجود من اقتراح في ليبيا الآن من خلق خمسين مجلسا محليا لتولي السلطة
المحلية في إطار الحكم المحلي لا يخرج عن خلق كيانات وهمية عاجزة عن فعل أي شيء
لأنها لاتملك تقريرأي شيء. وستكون الطامة الكبرى إذا ماتم تسليم هذه المجالس أموالا
للإنفاق منها على المحليات بدون مجالس تشريعية منتخبة لمراقبتها في عملها حيث
ستكون المشاحنات، والكولسة، والصراعات التي لاتبقي ولا تذر من أجل المال والسيطرة
على هبات الحكومة المركزية للمحليات.
الحل
للإشكالية
أنا أقول، حسب اعتقادي، هو أنه علينا أن
نختار بين نظام اللامركزية الحقيقي (أو ما يسميه البعض بالفدرالية غير الانفصالية
بشروط ملزمة واضحة في الدستور) وبين نظام الحكم المركزي المباشر حيث تكون الحكومة
المركزية مسئولة أمام البرلمان عن كل شيء. وتختار الحكومة المركزية عمالها
وموظفيها في جميع أنحاء البلاد ويحكمون باسم رئيس الدولة. أما نظام الحكم
المحلي اللامركزي الوهمي برعاية مايسمى (وزارة الحكم المحلي) فهو بلاء وأي بلاء،
وسيقود البلاد والعباد الى التشتت والضياع، وسينقسم الناس فيه الى سارق ومسروق،
وسادة وعبيد، ومقهور وقاهر في وضح النهار. وسنجني منه كما جنت شعوب مصر والعراق
وسوريا الخ.
أنا أتمنى على قادتنا السياسيين أن
يرحمونا. فقد تعبنا خمسين عاما من الوعود الزائفة، والأوهام السحرية، والقصور
الورقية في خيالات لاتحتملها وتصدقها إلا عقول الأطفال والمعاقين. ولا خاب من
استشار، ولا فشل من تعلم من تجارب غيره. ودعائي بأن يوفقنا الله لما فيه خير
البلاد والعباد.
د. عمرالطويبي زوبي
10 مارس 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق