السبت، ديسمبر 25، 2010

قراءة فى كتاب "أمريكا والإبادات الثقافية"

الاثنين, 14 يونيو 2010
كتبها سيف دعنا*

"أمريكا والإبادات الثقافية.. لعنة كنعان الإنجليزية" الصادر عن دار رياض الريس هو الكتاب الثالث في سلسلة تتميز بكثافة التوثيق والدقة المنهجية المتناهية، يسرد لنا فيها المفكر العربي منير العكش الارتباط العضوي بين فكرة إسرائيل وأبشع وأعنف قصة إبادة شاملة عرفها التاريخ الإنساني، ليحذرنا من المصير الرهيب الممكن لكنعان الحقيقي علي يد إسرائيل الصهيونية بروايته لقصة الإبادة بحق كنعان المجازي علي يد متقمصي فكرة إسرائيل.

لولا التوثيق المكثف والخبرة البحثية الطويلة وعلمية المنهج التي تميز سرد هذا الكتاب لأكثر الروايات إسكاتا لاستحق أن يكون واحداً من أعظم قصص الرعب التي رويت علي الإطلاق.
هذا أحد الكتب القليلة التي ستهز بشدة وعي القارئ لدرجة إعادة النظر في رؤيته للتاريخ، وتشكك وبقوة بالكثير من المفاهيم والمسلمات التي يحملها الكثيرون عن التاريخ، الحضارة، الثقافة, الفلسفة، العلوم، الغرب،أمريكا، الحداثة، والاستعمار.

 

هذا الكتاب يروي قصة الإبادة الثقافية التي تعرّض لها السكان الأصليون في أمريكا الشمالية، وهي حلقة من مسلسل الإبادة الشامل.. الذي عرض الكاتب قسمها الأول وفكك فلسفتها في كتابين سابقين هما "حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية" و" تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا." الأهم أن هذا الكتاب يتضمّن تقديم نموذج لتفسير علاقة أمريكا بإسرائيل يتجاوز قصور التفسير الاقتصادي-السياسي البحت الذي يري فقط دور إسرائيل السياسي والاقتصادي في النظام الرأسمالي العالمي كدولة نصف محيطية،أو كقاعدة متقدمة للإمبريالية العالمية، ويتجاهل دور العامل الثقافي المشترك، والبنية، التاريخ، والنموذج الكولونيالي المتماثل الذي يغطيه هذا الكتاب.

لذلك، فان قيمة هذا الكتاب تتجاوز كثيرا الرواية التاريخية الموثقة ببراعة أكاديمية وبحثية نادرة، والتي يسردها لنا العكش. من يقرأ هذا الكتاب بتكامله مع أعمال منير العكش الأولي يُدرك بلا أدني شك أنه أمام مشروع فكري عربي وإنساني من طراز خاص. هذا الكتاب، والكتب السابقة، تتضمن نقاشاً جدياً وجديداً،ومساهمة فكرية متميزة للرواية، التاريخ، الحداثة، الكولونيالية، الثقافة، الصهيونية ،وسأضيف بدون تردد مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
بسبب أهمية هذا الكتاب للحاضر والمستقبل العربي، ولمستقبل الفلسطينيين تحديدا، وبسبب صعوبة الإحاطة بكل ما جاء في هذا الكتاب كونه يحوي الكثير من التفاصيل التي تُروي للمرة الأولي بشكل متكامل، لن أقدم مراجعة تقليدية أو عرضاً تقليدياً للكتاب، بل سأقدم قراءة في الكتاب كجزء من قراءة في مشروع فكري أعتقد بضرورته الملحة لفهم الحالة العربية وقضيتها المركزية في فلسطين، التي يترتب عليها، وبنتيجة الرواية والمشروع الفكري اللذين يقدمهما العكش، إعادة النظر في الكثير من الأفكار والقناعات.

 

في العام 1291 سقطت عكا، آخر معاقل الصليبيين في الشرق العربي، وفشلت المحاولة الأوروبية الأولي لنشر الهيمنة خارج القارة رغم كل العنف الذي مارسوه ضد العرب الذين ساهم في حمايتهم من المصير الرهيب الذي لحق بالشعوب الأخرى ثقافة، أديان محليه، تاريخ، جغرافيا، وبيولوجيا استعصت علي العنف الأوروبي. خرج الأوروبيون مهزومين وحملوا معهم الصابون الذي لم يعرفوه سابقاً، والبوصلة التي مكنتهم من الإبحار وللمرة الأولي في مياه الأطلسي الدافئة والواسعة، وبالتالي الوصول إلي العالم الجديد وافتتاح عصر طويل من التطهير العرقي والثقافي لا يزالان مستمرين حتى اليوم.

 

شعوب الاراواك التي قطنت مناطق الانديز الغربي حيث حطت سفن كريستوفر كولومبس كانوا أول الشعوب التي أبادها الأوربيون عن بكرة أبيها. وقبل التسلح بأدوات الملاحة، وبالتالي اضطرارهم للإبحار في المناطق الضيقة والباردة، من الأطلسي شمالاً باتجاه العالم الجديد، يروي المؤرخون أن النورس( ذوي أصول نرويجية جاءوا من أيسلندا إلي غرينلاند) الذين دخلوا شمال شرق كندا في القرن الحادي عشر قتلوا ثمانية من أول تسعة قابلوهم من السكان الأصليين_نجا التاسع لخفته وسرعته في الهرب.

 

أكثر قصص الإبادة حزناً ورعباً وتأثيراً في نفسي كنت قد قرأت عنها ولم أتخيل ما هو أفظع منها حتى قراءتي كتب منير العكش (وأرويها لطلبتي في تاريخ الامبريالية الأوروبية) هي المجزرة الأوروبية الرهيبة في جزر الكناري. ازعم انه ربما لم يعرف التاريخ شعباً مسالماً مثل الغوانشي، سكان الكناري الأصليين، الذين لم يطوروا أي معرفة بفنون الحرب والقتال، أو تصنيع السلاح علي الإطلاق. وحين تعلموا بعضا منها من الأوروبيين لاحقاً، كان ذلك متأخرا جداً لإنقاذهم ولنجاح مقاومتهم. أبادهم الأوروبيون إلي أخر واحد فيهم بعدما أطلقوا عليهم تسمية "الكفار العزل" دلالة علي جهلهم بعلوم الحرب وعدم تصنيعهم للأسلحة ،وعلي "دونية معتقداتهم" من وجهة نظر الرجل الأبيض. ثم جاء دور الازتيك والانكا وقائمة طويلة ضمت المئات من الشعوب والقبائل آخرها العراق العربي. رغم ذلك، استمر الرجل الأبيض في ادعاء التفوق الأخلاقي علي كل شعوب الأرض، وفرض روايته للتاريخ التي حولت الإبادات والمجازر الرهيبة لمهمة حضارية أوكل الله إليه مهمة القيام بها، وحمله همها التاريخ وحده دون غيره، واسكت كل رواية بديلة تؤنسن الضحية أو تشكك بالصورة التي بناها الرجل الأبيض لنفسه وللآخر.وهكذا تجاوزت الإبادة التدمير الجسدي لتشمل اقتلاع السكان الأصليين من الذاكرة وتزوير الوعي التاريخي للضحية ولكل شعوب الأرض.

 

الانتحار علي طريقة الأزيتيك
حتى البطولة التي أظهرها السكان الأصليون في مقاومة الإرهاب والعنف الأوروبييْن تم إسكاتها أيضاً كما تم إسكات روايتهم لتكتمل المجزرة بمحو أعظم الملاحم في التاريخ من الذاكرة الإنسانية. حتماً كان هوميروس سوف يخجل بإلياذته الأوروبية التي ترجمت لكل لغات الأرض لو علم ببطولات الانكا في مدينة كوزكو في البيرو أو بعظمة مقاومة الازتيك في مدينة المكسيك التي تجعل من حرب طروادة حدثا تاريخيا غير ذي أهمية،وربما كانت ستغير دلالة كلمة "ملحمة" ذاتها. تقول رواية الضحية مثلا: اعتلي المقاومون الازتيك صخور جبال مدينة كوزكو العالية، حاملين السيوف الاسبانية، وقاتلوا ببطولة نادرة في معركة غير متكافئة علي الإطلاق. قاوموا الأسبان المسلحين بالبارود، وقتلوا كل من سولت له نفسه من مقاتليهم بالاستسلام. وفي النهاية حين أدركوا لا جدوى مقاومتهم، واللاتكافؤ الرهيب في القوة، والعنف، والقدرة والاستعداد المرعب للتدمير،رموا أسلحتهم، ثم ملأ كل واحد منهم فمه بالتراب، وقفزوا جميعاً من فوق الصخور العالية منتحرين، إعلانا منهم بتفضيلهم الموت علي الاستسلام للأسبان. ويؤكد لنا التاريخ أنهم ربما لم يكونوا علي خطأ في اختيارهم الموت علي الاستسلام، فاستسلام الغوانشي في الكناري بعد مقاومتهم الطويلة لم يمنع إهانتهم الشديدة والمتواصلة والمتكررة (أجبروا علي تكرار نص الاستسلام وإعلان الولاء لملكة اسبانيا مرارا، تماما كما اجبر الفلسطينيون في عام 1988 علي إدانة الإرهاب والاعتراف بإسرائيل ثلاث مرات متتالية)، ولم يمنع استسلامهم لاحقا من استعبادهم وفي النهاية إبادتهم جميعا. ملكهم الأخير، بنتور، الذي قاد المقاومة، تمتع بالكرامة التي عادة ما يفتقدها قادة المقاومة بعد الهزيمة أو الاستسلام. قادته كرامته وشعوره القوي بالمهانة الشديدة التي لحقت بشعبه إلي الانتحار علي طريقة الازتيك بإلقاء نفسه من فوق احد الجبال البركانية العالية في مملكته السابقة.

كنعان ومجازاة
اختفت كل البطولات الحقيقية وأُسكتت لأنها نماذج تتحدي الهيمنة والإبادة الأوروبية يحظر معرفتها وانتشارها وتقليدها، فلا يجوز للضحية، بعرف المستعمر الأبيض، حتى مقاومة ذبحها، والإبادة حق الهي أعطي للرجل الأبيض كما تقول فكرة إسرائيل الانجليزية والصهيونية التي أبدع في تفكيكها منير العكش. بدل ذلك، انتشرت أساطير البطولات الأوروبية التي تدرس علي أنها تجارب إنسانية حقيقية وعالمية لا مجرد قصائد لا يعرف مؤلفوها الحقيقيون (يعتقد أن بعضها لشعراء بلاط، أشهرهم وأكثرهم وصفا للبطولة وتفاصيلها "هوميروس"كان اعمي منذ الولادة). لم يسمع الكثيرون ببطولات الازتيك في كوزكو، التي حدثت بالأمس القريب، بينما يزور ويسيَّس التاريخ في الكتب المدرسية وفي قراءة نصوص الاركيولوجيا ليغدو قطاع الطرق من أمثال بار كوخبا ثوارا، وتغدو ماسادا، التي يؤكد المؤرخون أنها لم تكن أكثر من حملة تأديبية عادية وغير مهمة أو مميزة لمجموعة من اللصوص، أحدي أعظم الثورات في التاريخ. هكذا فقط يمكن للمستعمر من خلال التزوير وصناعة الأسطورة العمل علي تثبيت حق من لا حق له في فلسطين.

فكرة إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني النقي
فلسطين ومأساة شعبها حاضرتان بقوة في كل كتب العكش، ولولا معرفتي الجيدة به وبالتزامه الفكري،الأخلاقي، والنضالي القوي جداً بقضية السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وإصراره العنيد علي رواية قصتهم بصوتهم هم، لا كما يرويها الرجل الأبيض، لقلت إن هذا الكتاب هو عن فلسطين ومأساة شعبها، لا عنهم. أكثر من ذلك، لا يخضع حضور فلسطين في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا لهونتولوجي جاكدريدا (الحضور الغياب).علي العكس، فالقصة هي ذات القصة، والفكرة هي ذاتها، وحتى الأسماء هي نفسها.فالفكرة التي قادت اكبر عملية تطهير عرقي وإبادة ثقافية في التاريخ واستهدفت السكان الأصليين في أمريكا الشمالية هي فكرة إسرائيل، وهي ذات الفكرة التي تقود الإبادة الثقافية والعرقية في فلسطين. والإبادة الرهيبة التي تعرض لها السكان الأصليون ارتكبها بيض انجلوساكسون بروتستنت تقمصوا دور الإسرائيليين وأبطالهم الأسطوريين، وفي ذات الوقت كنعنوا (من كنعان) ضحاياهم كتشريع لإبادتهم إمعانا منهم في تقمصهم للأسطورة الإسرائيلية.

نحن أمام حالة تماثل كامل بين الضحية ) كنعان العربي في فلسطين) والضحية (سكان أمريكا الأصليين: كنعان المجاز)، والجلاد (إسرائيل) والجلاد (أمريكا: إسرائيل المجاز). ربما لم تستخدم الثقافة والأساطير الدينية علي طول التاريخ الإنساني كسلاح إبادة ودمار بالفعالية، الفتك، والبشاعة التي استخدمها الانجليز في أمريكا والصهاينة في فلسطين.

في الفقرة الأولي من مقدمة الكتاب يصدم منير العكش قراءة العارفين بتاريخ التوسع الامبريالي والملمين جيدا بتفاصيل العنف الأوروبي في العالم بتمييزه العنف والحملات الانجليزية عن غيرها، لتبدو كل الإبادات الرهيبة التي ارتكبها المستعمرون الأسبان، البرتغال، الفرنسيون، والهولنديون برغم بشاعتها وعنفها اقل شانا ورعبا مقارنة بما يرويه لنا هذا الكتاب. "وحدهم الانجليز (البيض الانجلوساكسون البروتستانت)" يقول العكش، "كانوا الأكثر عنجهية وعدوانية وإصرارا علي تدمير الحياة الهندية واقتلاعها من الذاكرة الإنسانية.وحدهم جاءوا بفكرة مسبقة عن أمريكا، نسجوها من لحم فكرة إسرائيل التاريخية، فكرة احتلال ارض الغير،واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ." هذا التوصيف الذي يقدمه منير العكش لفكرة إسرائيل التي تبناها المستوطنون الانجليز، ونراها كل يوم في فلسطين الحقيقية، هي مساهمة جدية ومهمة لأدبيات الكولونيالية.

 

تميز أدبيات الكولونيالية، أو علم الاستعمار المقارن، وهو علم حديث بالمناسبة، عادة، بين نوعين من الاستعمار. الأول، هو الاستعمار المتروبولي، أو المرتبط بالمركز الامبريالي، الذي لا يتضمن انتقال عدد كبير من السكان للإقامة الدائمة في المستعمرة ويتميز بالسيطرة من الأعلى عبر سلطة كولونيالية ويشكل احد دينميات الامبريالية، أو إقامة الإمبراطورية، كما كانت حال الاستعمار الانجليزي في الهند. النموذج الثاني،الاستعمار الاستيطاني، ويتميز، علي العكس، بانتقال المستعمرين بإعداد كبيرة للسكن الدائم في المستعمرة وتأسيس وطن علي طراز الوطن الأوروبي الأم. هذا النوع ينقسم بدوره إلي ثلاثة أنواع هي: المستوطنة المختلطة، المستوطنة الزراعية، والمستوطنة النقية. ما يميز النوعين الأولين هو استيطان الأرض فقط،واستغلال اليد العاملة المحلية (في حالة المستوطنة المختلطة) آو استيراد اليد العاملة (في حالة المستوطنة الزراعية). وحدها المستوطنة النقية، كما هي إسرائيل، تستوطن الأرض والعمل معا، وبالتالي فان بنيتها تتضمن رفضا مطلقاً وإلغاء كليا ً لوجود السكان الأصليين بطردهم من الحياة الاقتصادية، حتى كأيد عاملة يمكن استغلالها. لذلك، وبرغم بعض التشابه بين الحالة الفلسطينية وابارتهايد جنوب إفريقيا، فان كل منهما ينتمي لنموذج استعماري مختلف. ولكن، ولأسباب أخلاقية، ولأن كل استعمار بغيض، سأمتنع عن التمييز بينهما علي أساس من هو النموذج الأكثر بغضا.

 

الإبادة الجماعية كخاصية أصيلة
المستوطنة الاستعمارية النقية، كما هي البنية التي ميزت المشروع الصهيوني منذ موجة الهجرة الصهيونية الثانية التي بدأت عام 1904، التي استعمرت الأرض وتبنت سياسة عبرنة العمل والمنتوج، وبالتالي استعمرت العمل، رغم التكاليف الاقتصادية الهائلة لهذه السياسات، وكما هي أمريكا التي كانت مثل إسرائيل تماما باستعمارها للأرض وطردها للسكان الأصليين كلياً من الاقتصاد، شكلت أنموذجاً استعمارياً فريداً من نوعه في التاريخ.

 

أدبيات الكولونيالية تؤكد أن هذا النوع من الاستعمار (الاستعمار الاستيطاني النقي) ليس عنصرياً فقط، بل يتميز بما يسميه ديفيد فيلدهاوس "انقي أنواع الدوافع العنصرية"، وبكون "الإبادة الجماعية خاصية أصلية" فيها لا ظاهرة عارضة آو مؤقتة كما يشير وورد تشرشل. هنا بالضبط تكمن مساهمة العكش الجدية، ليس للرواية التاريخية بلسان الضحية هذه المرة فقط، بل ولأدبيات الاستعمار المقارن كذلك.

 

إصرار العكش علي توصيف فكرة إسرائيل باستمرار علي أنها " فكرة احتلال ارض الغير، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ" هو مساهمة تري في الحالة الاستعمارية الفريدة التي يتعامل معها في حالة الاستعمار الانجليزي لأمريكا (وكذلك استراليا ونيوزلندا أيضا) والصهيوني لفلسطين منظومة متكاملة من الاقتصاد، السياسة، الثقافة، والاجتماع، الرواية، الفلسفة، علم اللسانيات، التربية، صناعة الأسطورة، وحتى الجنس. ولهذا فان قراءة "أمريكا والإبادات الثقافية" ستضيف لكل قراءة في الفلسفة، الاقتصاد، التاريخ، علم الاجتماع والإنسان، واللغات. رواية العكش لتاريخ طويل من الإبادات الجسدية والثقافية هي محاكمة شاملة"للحضارة الغربية" التي قال عنها غاندي، استهزاء، إنها ستكون فكرة جيدة.

اختراع كنعان
ولأن فكرة إسرائيل والإسرائيليين لا تكتمل إلا بنقيضها، وجد المستعمرون الإنجليز المتقمصون لدور الإسرائيليين في الأساطير العبرية نموذجاً مثالياً للعدو الآخر الشيطان، وذلك لتبرير العنف والإرهاب بحقه باسم الله، الدين، والحضارة. نموذج كنعان الفلسطيني الذي استباح وجوده جسداً وثقافة عبرانيٌّ يدّعي ويؤمن بعقيدة الاختيار الإلهي، شكل مصدر إلهام للإمبراطورية الأمريكية علي مدي أكثر من أربعمائة عام بدءا بالسكان الأصليين في أمريكا الشمالية، ومرورا بمذابح ماي لاي الفيتنامية وملجأ العامرية في بغداد، وصولاً إلي المجازر اليومية في أفغانستان والعراق. كل الضحايا كٌنعنت، وكان للهوس الانجليزي الشديد بهذا النموذج العبراني للعدو الهمجي، والذي ترافَقَ مع قناعة غريبة مفادها أن تفوق آلة القتل لم يكن إلا دلالة علي التفوق الأخلاقي والاختيار الإلهي، أثار تدميرية علي مستوي كوني.

أيديولوجيا الكنعنة التي أسست لفكرة الاختيار الإلهي العبراني والدين المدني الأمريكي (الإيمان بالمصير الأمريكي كحامل وناشر للحضارة بتكليف من الرب عند المؤمنين،آو بتكليف من التاريخ لدي العلمانيين)حولت كل قتل لأي كنعان، الذي لم يعد عدوا محددا بل أصبح "دال عائم"، لو استخدمنا مصطلحات ما بعد البنيوية، آو حربائياً كما يقول العكش، يمكن إلصاقه بأي ضحية وفي أي مكان آو زمان، لمهمة إلهية وتاريخية.ليس غريباً إذن أن يدهش الأمريكي من دفاع أي كنعان عن نفسه، آو من عدم امتنان الضحية بتحريرها من همجيتها عبر إبادتها جسديا وثقافيا.
والكنعنة أيضا ثقافية، ولا تقتصر علي الإبادة الجسدية كما يشير العكش. كلام الكنعاني غير ذي معني، وثقافته لا قيمة لها. هكذا فوض الرجل الأبيض نفسه ناطقا باسم كنعان وأوكل لنفسه حق تقرير مصير كل شعوب الأرض. هذه الايدولوجيا حولت القتل الجماعي والإلغاء الثقافي إلي عمل خيري نبيل. ويبقي الأكثر خطورة من العنجهية الفظة للرجل الأبيض وتمجيده وعبادته لذاته، وإيمانه بتفوقه علي كل شعوب الأرض، قبول كنعان ذاته برؤيا متقمص إسرائيل لذاته وللآخر. فقط حين يقبل كنعان برواية المستعمر تكتمل الإبادة.

 

التطهير الثقافي
العنف الأوروبي غير المسبوق منذ مجازر الصليبيين في القدس وعكا في فلسطين، وصولاً إلي فضيحة سجن ابوغريب في العراق، ومرورا بإبادات الاراواك في غرب الانديز، الغوانشي في جزر الكناري، والمئات من الشعوب والقبائل في الأمريكيتين ليست قضية عسكرية بحتة آو نتاج حروب واستعمار من اجل النهب فقط. فبرغم التفوق العسكري الهائل للرجل الأبيض الذي كان من الممكن أن يضمن نجاح الاستعمار والنهب،إلا أن الأسلحة المستخدمة لم تقتصر علي الجيوش والبارود. هنا بالضبط تكمن برأيي أهم مساهمة لكتاب العكش الجديد باستعراضه للاستعمار الانجليزي لأمريكا حيث شكلت الثقافة سلاحاً فتاكاً للإبادة تجاوز بفعاليته البارود في تبرير العنف وتطبيعه ضد السكان الأصليين من جهة، كما شكل أداة هيمنة بشعة لعبت دورا محوريا في إعادة تشكيل وعي وتطويع القلة التي نجت من الإبادة لدرجة الشعور بالخجل من أصولهم. قصة الطالبة "سنغ سوك" التي تخجل من أصولها "الهندية" التي يرويها العكش هي نموذج للجراحة الدماغية، كما يسميها، التي اخضع لها ما تبقي من السكان الأصليين، لا ليشمئزوا من هويتهم فقط، بل وحتى ليشعروا بالامتنان للرجل الأبيض الذي حررهم من كنعانيتهم "المقززة" بالعرف الأبيض. ليست هذه بحالة استعمار ونهب كلاسيكية، وازعم أن فرانز فانون الذي رصد حالات نجاح إعادة تشكيل وعي المستعمَر في إفريقيا في كتابه الرائع "بشرة سوداء، قناع ابيض" كان سيدهش بالمنهجية، الاستمرارية، والمدى الذي استخدمت به الثقافة كسلاح هيمنة في أمريكا علي يد الانجليز الذين تقمصوا دور الإسرائيليين وآمنوا بفكرة إسرائيل.وازعم أن ميشيل فوكو الذي رأي في الجنس أداة هيمنة في المجتمعات الحديثة ربما كان سيدهش بإمكانية اغتصاب أجيال كاملة ومتلاحقة من أطفال السكان الأصليين 100٪) من طلبة المدارس-المعسكرات كما يخبرنا العكش) بشكل منهجي، منظم، وطويل الأمد كما حصل في أمريكا (ألا يفسر هذا بعض ما حدث في سجن أبو غريب؟). وازعم أيضا أن فرديناند دي سوسور ربما لم يكن قد تصور كيف يمكن للغة أن تتحول لسلاح إخضاع وأداة تشكيل للوعي واللاوعي (كما عند جاك لاكان) عبر تغيير وفرض الاسم، ليس علي شخص واحد كما أخبرنا الكاتب الأسود اليكس هيلي عن جده، بل لشعوب وقبائل كاملة كما حصل لقبائل اللاكوتا. ليست هناك هيمنة أكثر من النجاح في محو الأسماء وفرض أسماء جديدة تتناسب مع مشروع النهب،فللأسماء مركزية في تعريف وتشكيل الذات. لقد أدهشتني دوما الوقاحة التي تم بها تصحيح خطأ كولومبس،الرجل الأبيض، الذي اعتقد انه ذاهب إلي الهند، بفرض تسمية الهنود علي السكان الأصليين. لكن هذه التسمية، وتسميات أخري ذات دلالات عنصرية فاضحة لم تتم بمعزل عن السياق الاستيطاني الأوروبي وممارسة المستوطنين البيض كل أنواع الإبادات الجسدية والثقافية ضد السكان الأصليين كما يشير العكش.كذلك كان دور اللغة الجديدة التي فرضت علي السكان الأصليين وحرمان أطفالهم من تعلم لغة أجدادهم،واستعراض العكش لدور المدارس- المعسكرات في فرض هوية جديدة باستخدام أدوات عديدة كانت اللغة في طليعتها. ومركزية اللغة في تشكيل الوعي والهوية والذاكرة قضية أساسية في مواجهة الاستعمار، فتبني لغة والتحدث بها يتضمن القبول بالثقافة والوعي الجماعي لأصحاب هذه اللغة، كما يشير فانون، وتتضمن قبول المستعمَر بالصورة التي تؤسس لها لغة وثقافة المستعمِر عنهما.

 

يجدر إدراك دور المعرفة والثقافة كأدوات هيمنة وسيطرة في داخل المجتمعات وبينها، برؤيتها في سياقها التاريخي، والارتباط البنيوي بين إنتاج الثقافة والمعرفة والتوسع والنهب الامبريالي. لهذا جادلت في البداية أن.. قراءة العكش والفهم العميق لما حدث في أمريكا الشمالية من إبادة جسدية وثقافية ستضيف لكل قراءة للفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية. أكثر من ذلك، ربما سيشكل الوعي العميق للقصة التي يرويها العكش امتحاناً جدياً لمدي وعي وفهم طبيعة هذه الفلسفة وهذه العلوم في سياقها التاريخي وبارتباطها البنيوي بالتوسع الامبريالي الأوروبي، لا مجرد النظر لها كنصوص خارج السياق الاقتصادي-السياسي والثقافي وخارج التاريخ. حين جادل جونا راسكين في " ميثولوجيا الامبريالية" قبل أربعين عاما أن الامبريالية "واقع كلي" وبالتالي تؤثر في، وتساهم في تشكيل كل الصيغ الثقافية والمعرفية، لم يكن مخطئا ًفيما يخص الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية. بهذا المعني يمكن القول إننا أمام حالة أكثر خطورة من الاستشراق الكلاسيكي.فإذا اخبرنا ادوارد سعيد سابقا عن جدلية الثقافة والامبريالية في الغرب، فان منير العكش يحذرنا من خطورة وآثار قبول غير الأوروبيين بالمركزية الأوروبية للعالم، وبالأسطورة الغربية علي أنها حقيقة وتاريخ،والصور الثقافية للأوروبي عن نفسه وعن غيره. تحذير الفيلسوف الإيراني احمد فرديد مما سماه "مرض الغربنة" أو "التسمم الغربي" هي وعي بخطورة ضياع الهوية كمقدمة للهيمنة. هذه هي المدرسة الفكرية التي يتوجب قراءة المشروع الفكري العربي لمنير العكش من خلالها.

 

أولاد مكولاي
"علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم، طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم انكليزيو الذوق، والأفكار، والتوجه، والأخلاق، والعقل." هذه إستراتيجية خلق جيل من السماسرة المحليين التي وضع.. أسسها "توماس مكولاي" رسول الإدارة الاستعمارية البريطانية، أو شركة الهند الشرقية، كما يسميه العكش، إلي شبه الجزيرة الهندية، ووافق عليها المؤتمر الإمبراطوري في عام 1913 كأساس للتعليم والتربية. المبادئ الأساسية لهذه الإستراتيجية كما لخصها العكش هي:
أولاً، إعادة كتابة استعمارية لتاريخ وثقافة المستعمَر علي يد نخبة منهم تتميز بكونها انجليزية الهوى، العقل،الذوق، والتوجه.
ثانياً، تسويق المكتبة الانجليزية كمرجع أعلي للمعرفة.
في كل حالة استعمارية تلعب قوي داخلية دورا مهماً في استدخال الهزيمة والقبول بالموقع الدوني، بل وتعمل علي نشر الشعور بالامتنان للاستعمار لنشره الحضارة وتحرير السكان الأصليين من "همجيتهم". هؤلاء الطواويس كما يسميهم العكش، المفتونون بالرجل الأبيض لدرجة تقليده في كل شيء وتبني رؤيته للعالم ولنفسه ولغيره، هم الذين "تطوعوا للتشنيع علي الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني وإحباط نضالها." سياسة التعليم الاستعمارية واستعمار العقل، والدور الذي لعبه الطواويس المحليون أغني بريطانيا عن الجيوش والأساطيل.

 

كل حالة استعمارية اعتمدت علي مؤسسة "الاستعمار الداخلي." مجموعة من الطواويس الذين لا يرتبطون بالاستعمار عبر بنية مصلحية فقط، بل وثقافياً. فهم يرون العالم، والرجل الأبيض، وأنفسهم من خلال الرواية الاستعمارية والأدب الاستعماري والثقافة الاستعمارية. هذه هي إستراتيجية مكولاي الذي آمن أن الاستعمار الانجليزي للهند لن يستطيع قهر هذا البلد ما لم يكسر "عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي." وهذه الشريحة هي ذاتها التي حذر الزعيم الأسود مالكولم اكس شعبه المضطهد إلي يومنا هذا منهم. فلينتبه العرب من طواويسهم، فلدينا منهم الكثير وهم يلبسون كالمستعمر، ويفكرون مثله، وينظرون إلينا كما ينظر إلينا المستعمر.

كتاب العكش يؤكد لنا أن محاربة هويتنا العربية عبر محاولة استبدالها بالهويات الطائفية والمذهبية المصطنعة هي جزء من إستراتيجية الهيمنة والاستعمار. ربما هزم العرب عسكريا، اقتصاديا، وسياسيا، ولكن تاريخنا سلّحنا بهوية تستعصي حتى اللحظة علي الهزيمة والكسر وتشكل المانع الأخير، ولكن حتما الأقوى، أمام المصير الذي لحق بسكان أمريكا الأصليين. هذه ليست رواية لأعظم المآسي التي عرفها التاريخ الإنساني فقط،إنه تحذير من المفكر العربي منير العكش: إن فقدنا هويتنا كعرب ولم ندافع عنها وبشراسة في وجه هويات الفتنة، سيلحق بنا نفس المصير ونصبح "كشجرة تساقطت أوراقها فكنستها الريح إلي الأبد.
-------------
* سيف دعنا أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن- پارك سايد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق