الجمعة، ديسمبر 24، 2010

الإسلام وحقوق الإنسان، ضرورات... لا حقوق

ضرورة المعارضة

إن مجتمعات غير إسلامية قد ذهبت على درب “حقوق الإنسان” إلى حيث أعطت هذا الإنسان “الحق” في الاختلاف مع “الدولة” و “السلطة” و “الولاة” .. وأعطته الحق في أن يسلك سبيل “التنظيم” لدعم رؤيته المتميزة في شؤون المجتمع عن رؤى الآخرين .. فأقرت حق “المعارضة الفردية”، وحق “المعارضة الجماعية المنظمة”، فسادت فيها “التعددية” بدلاً من “الفردية والاستبداد”..

والمثال الذي نريد أن نضربه لتجاوز فكر الإسلام، في هذه القضية، إطار “النظر” إلى ميدان “التطبيق”، خاص بهذا الأمر .. أمر “المعارضة”، فردية كانت هذه “المعارضة” أم منظمة .. أي “التعددية” في الرأي الفردي .. أو التعددية في “التنظيم” ... وهو مثال نختار أن يكون من عصر صدر الإسلام، لا لأنه هو العصر الذي تفرد بتطبيق فلسفة الإسلام في “الضرورات الواجبة” لتحقيق احتياجات الإنسان، وإنما لأنه العصر الذي ينظر إليه الجميع على أنه “السابقة الدستورية” التي يجب القياس على “روحها ونهجها” في تطبيق النظريات والأفكار ..

إننا نعلم أنه إذا كان الاتفاق في الأصول وفي الغايات والمقاصد وارداً .. فإن الاتفاق في الفروع وفي المناهج والسبل يكاد يكون مستحيلاً .. فأين كان موقف التطبيق الإسلامي، على عصر صدر الإسلام، من “المعارضة” كحق مشروع، بل كضرورة من الضرورات الطبيعية للإنسان؟! ..

واضح لمن يستقرئ تاريخنا أن المسلمين لم يختلفوا في “الدين”، ولم تنشأ فرقة من الفرق الإسلامية الرئيسية بسبب الخلاف حول عقيدة من عقائد الدين ولا أصل من أصوله وإنما كانت السياسة وفلسفة نظام الحكم، ومنصب الخلافة، واختلاف المناهج في سياسة الأمة هي أسباب الخلاف، الذي أقام الفرق، وأنشأ الأحزاب، وأشعل الحروب والصراعات، على امتداد التاريخ الإسلامي واختلاف أقاليم المسلمين! ..

1 ـ فعقب وفاة الرسول “ص” اجتمع الأنصار، من الأوس والخزرج، في سقيفة بني ساعدة، لاختيار من يخلف الرسول في سياسة الناس ورئاسة الدولة، واتجهت أنظارهم إلى سعد بن عبادة “14هـ / 635م” زعيم الخزرج، والمتحدث باسم الأنصار، وأحد النقباء الاثنى عشر الذين بايعوا الرسول على تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى، في بيعة العقبة، قبيل هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، والمقاتل الذي حضر المشاهد والغزوات جميعها مع رسول الله “ص”، تأسيساً للدولة وحماية لحرية الدعوة للدين الجديد.. ويقيناً من الأنصار بأحقيتهم لهذا المنصب، لأن المدينة دارهم، وسيوفهم هي التي نهضت بالنصيب الأكبر في تأسيس الدولة وحماية الإسلام، بايعوا سعد بن عبادة ليخلف الرسول، عليه الصلاة والسلام، في قيادة الدولة وسياسة الناس.

لكن الخبر بلغ عمر بن الخطاب، فاستدعى أبا بكر الصديق، وصحبه على عجل إلى السقيفة، ولقيهما أبو عبيدة بن الجراح، فذهب معهما .. وهم قرشيون، ذوو مكانة قيادية في قريش، وسابقون إلى الإسلام، هاجروا إلى المدينة في سبيل الدين، وكانوا أعضاء في جامعة “المهاجرين الأولين”، التي كانت أشبه ما تكون بحكومة المدينة على عهد الرسول! .. وفي السقيفة، واجه أبو بكر الأنصار، وعرض الرأي القائل: إن “المهاجرين الأولين” هم الأحق والأجدر بمنصب الخلافة، فهم أسبق إلى الإسلام، وأقرب إلى نبيه، وهم قرشيون، وأقدر ـ لمكان قريش ومكانتها في العرب ـ أن تجتمع عليهم وترضى برئاستهم قبائل العرب، فتستمر وحدة العرب في دولة الإسلام . !

ولقد مالت الأوس ـ من الأنصار ـ إلى رأي المهاجرين الأولين، وتبعت عمر بن الخطاب في البيعة لأبي بكر الصديق خليفة على المسلمين.. وجرف التيار الخزرج، فبايعوا، إلا سعد بن عبادة، فإنه رفض البيعة لأبي بكر طوال خلافة أبي بكر.. فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافة، بعد أبي بكر، ظل سعد بن عبادة على رفضه لعمر، حتى توفاه الله “14هـ /635م” .. ولم يحدث أن أكرهه أحد على البيعة، أو عاقبه على خلافه للأمة في هذا الأمر.. فدل ذلك على أن خلاف المسلمين واختلافهم في السياسة لا يقدح في عقائد الفرقاء المختلفين، ونهض هذا الموقف، منذ ذلك التاريخ المبكر، شاهداً على مشروعية المعارضة في فكر الإسلام السياسي والتجارب القائمة على أساسه .. بل إن التاريخ يحكي كيف كان سعد بن عبادة، عندما يشد رحاله حاجاً إلى بيت الله الحرام، ينفرد بأداء مناسكه، ولا يتبع الأمير المعين من قبل الخليفة في الإفاضة من عرفات! ... ولقد حدث ولقي سعد بن عبادة عمر بن الخطاب ـ وهو خليفة ـ بالمدينة.. وكان سعد راكباً فرساً، وعمر يركب بعيراً، فدار بينهما حوار عنيف بدأه عمر:

ـ هيهات يا سعد!..
ـ هيهات يا عمر!.. والله ما جاورني أحد هو أبغض علي من جوارك!..
ـ إن مَن كره جوار رجل انتقل عنه! ..
ـ إني لأرجو أن أخليها لك عاجلاً إلى جوار مَن هو أحب إلى جواراً منك ومن أصحابك؟!..

فلم يغضب منه الخليفة عمر بن الخطاب، ولم يكره على البيعة له.. وتركه ورأيه حتى انتقل إلى جوار ربه!..

وهنا.. يثب إلى الذهن ما يحدث في المجتمعات الحرة المعاصرة، عندما يتنافس المتنافسون على منصب رئاسة الدولة، وتتم عملية الاقتراع والانتخاب فيفوز مَن يجوز ثقة الأغلبية .. لكن تظل الأقلية في موقع المعارضة له، فهي لم تبايعه، بل تواصل معارضتها له حتى يحين حين الترشيح والانتخاب الجديد.. والذين يموتون من المعارضين لرئيس الدولة الإسلامية يموتون وليس في أعناقهم بيعة للرئيس أو الأمير أو الإمام!.. هنا يلح التساؤل على عقل المسلم وضميره الديني: ما حكم الإسلام في صلاح أمر هؤلاء المعارضين؟... لقد عاش الذين عاشوا منهم، ومات مَن مات دون أن تكون في أعناقهم بيعة للإمام.. وفي المأثورات النبوية الشريفة أحاديث يرددها ويذيعها كثير من “أمراء” الجماعات الإسلامية الجديدة، تحكم بالجاهلية على مَن فارق الجماعة، وعلى مَن مات وليس في عنقه بيعة للإمام.. وهم بترديدهم هذه الأحاديث يوجبون الطاعة “للأمراء” على الكافة، ويحرمون “المعارضة”، ويجعلونها إثماً دينياً وخطيئة ترتد بصاحبها إلى الجاهلية بعد الإسلام؟!..

فأين يقف الإسلام الحق في هذه القضية؟! .. وما هو قوله الفصل في هذا الإشكال؟!.. إنه صحيح، وحق، وصدق أن رسول الله “ص” قد قال ـ فيما رواه عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما: “مَن خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومَن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”.

لكن الأمر الذي يغفله ـ أو يتغافل عنه ـ هؤلاء “الأمراء” أن هذه “البيعة”، التي يتحدث عنها الحديث النبوي الشريف كانت بيعة الذين آمنوا للرسول “ص”، الذي دعاهم إلى الإيمان.. فهي البيعة له بالنبوة، وموضوعها: التوحيد والإسلام.. إنها البيعة التي خرجوا بها من الجاهلية إلى الإسلام، ومن ثم فإن خلعها والخروج من طاعتها، هي ـ بالقطع ـ عودة إلى الجاهلية مرة أخرى.. فهي لم تكن بيعة من “الرعية السياسية” لمحمد (ص) برئاسة الدولة لأن هذه الرئاسة قد جاءت تبعاً، كضرورة اقتضتها “الدولة” التي تأسست لسياسة الرعية وحماية الدين، وإنما كانت بيعة من “المؤمنين” للنبي الرسول، عليه الصلاة والسلام.. فبيعة الرسول، هذه وحدها، دون أية بيعة أخرى لأي خليفة أو حاكم أو أمير، هي التي توصف بأنها هي “الإسلام”، وهي التدين بالدين الإسلامي.. إنها، في الحقيقة: بيعة الله سبحانه وتعالى، التي قال عنها لنبيه: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”.. كما قال أيضاً: “مَن يطع الرسول فقد أطاع الله ومَن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً”.. وليست كذلك بيعة أمراء السياسة والولاة والخلفاء والرؤساء في دولة الإسلام.. فمعارضة هؤلاء الأمراء، ورفض البيعة لهم، لاختلاف منهجهم السياسي وسبيلهم في سياسة المجتمع وحكم الأمة عن منهج المعارضين لهم، لا يعني الانتقال بالمعارضين من معسكر الإسلام والإيمان إلى معسكر الجاهلية بأي حال من الأحوال.

إن الذين يرددون هذه المأثورات النبوية الشريفة، موظفين لها في غير موضعها وإطارها، إنما يرتكبون خطأ سياسياً فاحشاً، عندما يجتهدون لإسلاس قياد الأمة ـ كل الأمة ـ للأمراء، كل الأمراء.. ويرتكبون خطيئة دينية، عندما يذهبون فيُسَخِرون المأثورات الدينية والأحاديث النبوية الشريفة في غير السياق الذي قيلت ورويت فيه.. وذلك باب واسع لشر مستطير شاع ويشيع في كتابات العديد من “الإسلاميين”!..

وإذا كان الصحابة، قد حرصوا الحرص كله على التمييز بين “موضوع البيعة السياسية” و “موضوع البيعة الدينية”، اللتين اجتمعتا للرسول “ص” وحده، فكانوا يسألونه “ص” في المواقف والمواطن الخاصة بالقرارات، ذلك السؤال الذي شاع في السيرة النبوية: يا رسول الله! أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟ وذلك ليسلموا الوجه لله، طاعة وانقياداً، إذا كان الأمر وحياً وديناً، لأن في أعناقهم هنا بيعة الإيمان والدين.. أما إذا كان الأمر خاصاً بالسياسة وشؤون الحكم وأمور الدنيا، فإنهم يشيرون ويعترضون ويعارضون ـ دون أن يقدح ذلك في البيعة السياسية التي ارتضوا بها النبي “ص” حاكماً للمجتمع والدولة.. إذا كان ذلك هو شأن الصحابة مع الرسول.. فكم هو شاذ ذلك خلط الذي توظف به، اليوم، هذه المأثورات النبوية، لتحرم الأمة من القيام “بضرورة المعارضة” عندما تقتضيها مصلحة الإسلام وحقوق المسلمين..

2 ـ ولم يكن سعد بن عبادة وحده هو الذي تخلف عن البيعة لأبي بكر الصديق.. فلقد تلكأ وأبطأ نفر من بني أمية التفوا حول عثمان بن عفان.. ونفر من بني زهرة التفوا حول سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف.. لكنهم بادروا إلى البيعة ـ بعد حين ـ عندما دعاهم إليها عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ..

لكن رهطاً من بني هاشم امتنعوا عن البيعة لأبي بكر، والتفوا حول علي بن أبي طالب، يريدونه الخليفة على المسلمين.. واستمر امتناعهم هذا زمناً غير يسير.. ستة أشهر في رأي البعض، وأربعة في رأي البعض الآخر!.. وفي تلك الأثناء لم يكره أبو بكر علياً على مبايعته.. وعندما اشتد عمر بن الخطاب على علي كي يبايع، وقال له، في حضرة أبي بكر: “إنك لست متروكاً حتى تبايع!” .. تدخل أبو بكر، ووجه الحديث إلى علي بن أبي طالب، فقال له: “إن لم تبايع لا أُكرهك”! ولقد استمر علي بن أبي طالب على رفضه البيعة لأبي بكر حتى توفيت زوجته فاطمة الزهراء رضي الله عنها.. وحتى تهدد خطر القبائل المرتدة عن وحدة الدولة المدينة ذاتها، فنهض بدوره في تحصين المدينة وحراستها وحمايتها، ثم ذهب فبايع أبا بكر بالخلافة والإمارة للمسلمين..

وهكذا ثبت، مرة أخرى، أن الخلاف في الرأي، والمعارضة في السياسة، ورفض البيعة للخليفة والامتناع عن انتخاب الأمير واختياره، لا تقدح في العقيدة الدينية، ولا تقلل من ولاء الفرقاء ـ المختلفين ـ للوطن الجامع لهم جميعاً!.. وكان ذلك شاهداً على مشروعي المعارضة السياسية في النهج السياسي للإسلام والمسلمين..

وإذا كان هذا هو حال الإسلام مع النظم العادلة، كما تمثلت في خلافة الصديق أبي بكر والفاروق عمر.. فإن موقفه تجاه النظم الجائرة يتعدى “مشروعية” معارضتها إلى “وجوب” المعارضة لها، و “الثورة” عليها.. انطلاقاً من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر المسلمين.. ومأثورات الإسلام في هذا المقام أكثر من أن تحصى في هذا المقام!.. “مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذل أضعف الإيمان”!.. ويحذرنا “ص”، إذا نحن لم نجبر الحاكم الظالم وندخله في الحق قسراً، كما يقسر الإطار الصورة على عدم الانحراف فيقول: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم”!.. كما يعلمنا “ص” أن “أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر”..

هو الفكر الذي وضعه المسلمون ـ “بالمعارضة” ـ في الممارسة والتطبيق..

دكتور محمد عمارة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق