الأربعاء، ديسمبر 08، 2010

الفضيلة وأبوابها للداعية (4) الشيخ محمد متولى الشعراوى

العدل
كل إنسان منا لو أدى ما في ذمته من حق للغير لما وجد التشاحن، ولما وجدت الخصومة، لذلك لا توجد في مثل تلك الحالة ضرورة للمحاكم ومجالس فض النزاعات، ولكن الحق الذي خلق الخلق، يعلم أن الإنسان من الأغيار. لذا فمنهم من يغفل عن هذه القضية، قضية أداء الحقوق فينشأ عنها الفساد في الأرض، لذلك قضى الحق سبحانه وتعالى بشيء آخر اسمه العدل فلو أن الإنسان قد أدى حقوق الغير كاملة لما احتجنا إلى المحاكم، لأنه لا يوجد خلاف أصلا.
لكن الحق سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن خلق، ومن علمه أن خلقه سيطغى بعضهم على بعض، لذلك أوجد العدل للقصاص ممن يبغي على غيره، وإعطاء كل ذي حق حقه قال تعالى:{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} النساء 58.
والحق لم يقل إذا ائتمنتم فأدوا.. ولكنه سبحانه وتعالى قال:{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} النساء 58.
فإذا حدثت الغفلة عن أداء الأمانة فالذي ينصر أداء الأمانة خلال الغفلة هو العدل؛ فما هو العدل؟
إننا نعرف الأمانة وهو أن تؤدي حقا أو متعلق حق في ذمتك للغير، ولكن العدل غير ذلك فهو تأدية للغير، وذلك يكون عن طريق الحكم، وهنا لا يكون هناك شيء متعلق للغير بذمتك ولكنه بشيء مكتوب أو مشهود عليه.
***
مطلوبات الأمانة.. ومطلوبات العدل
كما أن أداء الأمانة عامة فلا بدّ أن تكون آية العدل عامة أيضا فقوله سبحانه وتعالى:{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} لا تخص هذه الآية الحاكم وحده ولكنها تخص كل واحد من البشر المكلفين، فلو كنت محكما من طرف قوم، ورضي الناس بك حكما بينهم في خصومة ما فعليك أن تحكم بالعدل، وقد تكون لا ولاية لك على هؤلاء الناس، ولكن أصحاب المظلمة أو المشكلة حكموك فيها فعليك أن تحكم بين الناس بالعدل.
إذن فلا بد أن تتمثل بمنهج الله تعالى:{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وذلك يكون في أي أمر من الأمور حتى ولو كان الأمر يتعلق بحق من حقوق التكريم والموهبة، وليس من الضروري أن يكون الحكم بالعدل في الأمور المادية، فها هو ذا الإمام علي رضي الله عنه برى غلامين يحتكمان إلى ابنه الحسن ليحكم بينهما في أمر هو: أي الخطين أجمل من الآخر، خط الأول أم خط الثاني؟ وهذا أمر قد ينظر الناس إليه على أنه أمر لا قيمة له، فما الذي يستفيده واحد منهما بإعلان تفوقه على الآخر في كتابة الخط، لكن الإمام عليا رضي الله عنه رأى في المسألة أمرا مهما، لأنها شغلت الطفلين، وصار كل واحد منهما يطلب معرفة ما يميزه عن الآخر في كتابة الخط فقال الإمام علي لابنه الحسن رضي الله تعلى عنه: يا بني انظر كيف تقضي في هذا الحكم، والله تعالى سائلك عنه يوم القيامة.
وفي العصر الحديث نرى أنه قد وضعا قواعد محكمة للحكام الذين يقفون قضاة حتى ولو في المباريات الرياضية المختلفة سواء كرة القدم أو الملاكمة أو غيرها فلكل لعبة قوانين يترتب عليها قياس المهارات المختلفة بين البشر، وما دام الواحد منا قبل أن يكون قاضيا حتى ولو كان في اللعب فعليه أن يعرف كيف يحكم بالعدل، ولذلك نرى نحن غضب المتفرجين إذا تغاضى الحكم عن ضربة جزاء لصالح فرقة من الفرق، ونتعجب عندما نرى أن المجتمع يصمت عند حدوث خلل في الأمور الجادة في الحياة، ففي اللعب نتمسك بقوانين الجد، ولكن نحن تركنا الجد بعد أن جردناه من قانون خالقه جل وعلا، فلو اعتنينا بالجد كاعتنائنا باللعب لصارت أمورنا إلى خير عميم.
إذن فالعدل هو حق في ذمة الغير للغير، ونحن أمناء عليه وعلينا أن نتحرى الصواب قدر الاستطاعة لقول الله تعالى:{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمّا يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا} النساء 58.
وقوله تعالى:{ نعمّا} هي أنه لا يوجد أفضل من هذه العظة فهي نعمة تستقيم بها حركة الحياة، وهي نعمة أداء الأمانة والحكم بالعدل بين الناس، فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع، ولا خلاف، وإذا قاموا بالحكم وظهر أنه خلاف للعدل، فالعدل ينهيه، وإذا كان المجتمع عدل يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرؤ ظالم على الظلم.
فالدقة في العدل تورث ميزة الأمانة إن غفل الناس عنها، فالذي يغري الناس بالظلم هو أن بعض الأحكام الدنيوية لا تأتي بالعدل، فيقال: إن فلانا كان له سابقة وفعل مثلها ولم ينتبه أحد، وبذلك يتم الإغراء بالظلم، لكن لو أننا في كل صغيرة وكبيرة وجدنا الحكم يردع الظالم ويرد الحق لصاحبه لا تنشر العدل والأمانة، فذلك قول الحق سبحانه وتعالى:{ إن الله نعمّا يعظكم به} وقد سميت هذه المسألة عظة، والوعظ هو ترقيق القلب للميل إلى الحكم، لأن الله في أمره ونهيه لا حاجة له في أن يفعل الناس أو لا يفعلوا ولكنها مصلحة البشر مع البشر.
ومعلوم أن أحسن ألوان الأمر ما لا يعود على الأمر بفائدة، لأن في عودة الفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر، وقد يوجد إنسان يأمر ولا يكون لأمره منفعة لنفسه ولكنه لا يكون واسع العلم، ولا واسع الحكمة، لكن الحق سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، وهو سبحانه واسع العلم والحكمة، لذلك فالعظة منه هي العظة العظمى وهو سبحانه لا ينتفع بأمره.
إن قوله:{ إن الله نعمّا يعظكم به} أي: من نعم ما يعظكم به الله هو أن تؤدي الأمانات إلى أهلها وأن تحكموا بين الناس بالعدل. وهنا نجد ملحظا في الأداء البياني في القرآن الكريم فقول الحق:{ أن تؤدوا} هو أمر للجماعة، وهذا يعني أن كل واحد من الجماعة المسلمة مطالب بأن يؤدي هذا الحكم أولا، وليس الأمر متوقفا عند ذلك الحد ولكن المهمة تتعدى إلى الآخرين، فالمهمة لا تقتصر على حفظ حقوق الجماعة المؤمنة فقط ولكن الجماعة المؤمنة مكلفة بأن تصون الحقوق بين الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم فالحق سبحانه قال:{ وإذا حكمتم بين الناس} فهذا يقتضي حماية حتى لمن لا يؤمن بدين الإسلام، ولا توجد حماية لمن لا يؤمن بدين الإسلام أكثر من هذا، وأنه سبحانه يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى كل الناس سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين.
إن كلمة {الناس} في أمر الحق سبحانه وتعالى تدل على عدالة الأمر من الله تعالى وهو رب الناس، كل الناس مؤمنهم وكافرهم، فما دام الله هو الذي استدعى الإنسان إلى الدنيا ومنهم المؤمن والكافر فلا أحد يخرج عن نطاق الربوبية لله، انه سبحانه وتعالى تكفل برزق الجميع، ولذلك أمر الله الكون أن يعطي من أخذ بالأسباب أن يصل إلى الغابة بالمسببات سواء كان مؤمنا أم كان كافرا، انه عطاء الربوبية.
الله سبحانه وتعالى لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن والكافر، ولذلك طلب الحق منا أن نعدل بين المؤمن والكافر ولذلك تكون الأمانة فيه مطلوبة للمؤمن والكافر، وهي مطلوبة للبار والفاجر، كذلك صلة الرحم مطلوبة للبار والفاجر وذلك يدا على سعة رحمة الدين، ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى لعض الأقضية لتنشأ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتي أشياء لتبين لنا بالتطبيق بعض الأقضية لتنشأ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتي أشياء لتبين لنا بالتطبيق أن هناك فرقا بين أن يكون الأمر نظريا، ولكنه سبحانه يريد الأمر مطبقا عمليا.
والله سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا ويعرف عواطفهم، وأن هذه العواطف عند المؤمنين في بعض الأحيان قد تحابي المؤمن على حساب غيره، لذلك يشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم أشياء تحدث معه هو ثم ينزل الله التشريع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم أول المكلفين به ليدلنا على أن التشريع في المسألة الإنسانية العامة تشريع لا يخص المؤمنين فقط ولكن المؤمنين والكافرين ويكون ذلك إما دافعا لهم على الدخول في هذا الدين، وآما حسرة في نفوسهم لما يروا ما يتمتع به المسلمون من سمو إيمانى وعدالة وانتصار للحق، ولكن لو ظلم المسلمون، لقال الكافرون إن المسلمين ظلمونا ولو جدوا في ذلك مبررا للكفر.
وتروي كتب الحديث والتفسير قصة طعمة بن أبيريق الذي سرق درعا من زيد بن رفاعة عم قتادة بن النعمان وكلاهما مسلم والدرع كما نعرف هو اللباس الذي يحمي من طعنة العدو، ووضع طعمة الدرع المسروق في جوال كان به دقيق، وغفل طعمة عن وجود بعض آثار الدقيق بين أنسجة الجوال فلما حمل طعمة الدرع في الجوال تناثر الدقيق، وترك علامات في الطريق وهو يسير من بيت النعمان إلى بيته، وعندما وصل طعمة إلى بيته جاءه هاجس هو أن الناس قد تنتبه إلى وجود الدرع عنده فذهب بالدرع داخل الجوال إلى بيت يهودي هو زيد السمين فترك الدرع عنده، فلما فطن قتادة بن النعمان إلى ضياع الدرع خرج معلنا سرقة الدرع، وسار هو وبعض أصحابه ليتتبعوا الأثر فوجدوه يقودهم إلى بيت طعمة بن أبيرق فقال طعمة: أنا لم أسرق.
وتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند زيد السمين اليهودي، ولما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان طعمة بن أبيرق من قبيلة بني ظفر، وجاء أعوان القبيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا للرسول تفاصيلها وقالوا: لو أنصفنا زيد بن السمين فانه ستتم مؤاخذة طعمة بن ابيريق، وهذه سبة لنا وللمسلمين وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامهم وهو أحرص الناس على ألا توجد سبة للمسلمين، ولا أن يوجد بينهم لص، وسكت صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه الوحي من ربه في هذه القضية وإذا بالأمين جبريل ينزل بقوله تعالى:{ إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما} النساء 105ـ107.
إذن فالحق سبحانه أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن صاحب الحق أولى ولو كان غير مسلم، وقال له: استغفر الله إن كان جال بخاطرك أن ترفع رأس مسلم خان على يهودي لم يخن.
إن استحياء بني ظفر من فضيحة طعمة بن أبيريق بين الناس لا يجب أن يلهيهم عن الفضيحة الأكبر وهي الفضيحة عند الله تعالى فلا براءة لطعمة عند الله إذ يقول الحق سبحانه:{ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} النساء 109.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى:{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} النساء 58، هذا القول يقتضي أن يكون الحكم والأمانة أمرا شائعا بين كل الناس فلا يخص المؤمنين فقط ولكن يخص المؤمنين والكافرين طالما ارتضوا أن يعيشوا في دولة الإسلام.
ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين فلا ينظر لواحد دون الآخر أي: لا يكرم واحدا دون الآخر، وذلك حتى يشعر الطرفان بالمساواة أمام القاضي فلا ينظر القاضي إلى طرف بحنان وعطف، وينظر إلى الآخر بجفاء، إن النظرة يجب أن تكون متساوية، ولذا نجد الإمام عليا رضي الله تعالى عنه قد ردّ القاضي لأنه قال له: يا أبا الحسن! فقال علي رضي الله عنه:أنت لا تصلح لأن تقضي بيني وبين خصمي لأنك كنّيتني دون أن تكنّيه، فالتكنية دليل المودة والتعظيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول للقاضي:" سوّ بينهم في لحظك ولفظك" وذلك حتى يعرف القاضي أن فوقه إلها بصيرا بالعباد.
***
الأمانة
الأمانة هي ما يكون للغير عندك من حقوق وأنت أمين عليها فمن الناس من يقول: لقد أودعت عند فلان أمانة، وهذه الأمانة لو كانت بإيصال فهي ليست أمانة ذلك أن الإيصال دليل، ولو كانت هذه الوديعة أمام شهود فليست أمانة.
الأمانة إذن هي أن يودع إنسانا إنسانا آخر شيئا، وأمانته هي حين يطلبها صاحبها أن يؤديها أو ينكرها.
إذن فالأمانة في تحقيقها شيء يقبله الإنسان ممن يأتمنه ولا حجة على الإنسان إلا ذمة الإنسان فان شاء أقر، وان شاء أنكر.
ومن الأمانة أن الإنسان خلق مختارا فان شاء قال لا اله إلا الله، وان شاء ـ والعياذ بالله ـ لقال غير ذلك مثل الذين كفروا وقال:{ إن الله ثالث ثلاثة، وما من اله إلا اله واحد} المائدة 73.
وعلى ذلك فالأمانة التي أعطاها لنا الله هي أمانة الاختيار فقد قال سبحانه:{ وهديناه النجدين} البلد 10.
انه سبحانه قد يسر لنا السبيل للاختيار، لقد خلق الحق سبحانه وتعالى اللسان للإنسان وهو صالح لأن يقول: لا اله إلا الله، وصالح أن يقول مثل الكافر: الله ثالث ثلاثة ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ والحق خلق للإنسان اليد فان شاء ضرب بها إنسانا آخر، وان شاء أن يزيل بها حجرا عن الطريق أو يربت بها على كتف يتيم، والحق خلق للإنسان الساقين إن شاء ذهب بهما إلى المسجد، وان شاء ذهب بهما إلى أي مكان يعصي الله فيه. وهذه هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.
حين خلق الله الإنسان أخذ عليه العهد والميثاق بأنه ربه وخالقه وعليه أن يعبده وحده ولا يشرك به أحدا وأقرّ الإنسان بذلك، ثم أعطاه الله تعالى أمانة أن يحافظ على هذا العهد طواعية وحبا وان شاء نكص عنه، وأقرأ قول الحق سبحانه:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172 أودع عند الإنسان أمانة فان شاء الإنسان فعل هذا أو ذا} لذلك قال الحق سبحانه وتعالى:{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا} الأحزاب 72.
كل الكائنات قد رفضت أن تحمل الأمانة، لأن الكائنات لم تضمن لنفسها حسن الاختيار وطلبت الكائنات أن يخلقها الله مسخرة لا إرادة اختيار، ولذلك نجد الكونيات العليا كالماء والأرض والشمس ليس لها خيار في شيء فهي مسخرة، ولم ترض أن تكون مختارة.
وثمة فارق بين أن يقول كائن أتحمل الأمانة وبين أن يقول آخر أنا سأنفذ الأمانة كما سيريد الله، وما دام الكائن سينفذها فلماذا لا يفعل الإنسان ما أراده الله بمنهجه؟ الإنسان لم يأخذ الأمانة الاختيار إلا طمعا في أن يكون حرا في أن يفعل ذلك أو لا يفعل، ولو كان الإنسان كما يقول قد أخذ الاختيار لينفذه وفق مرادات الله، فلماذا لم يقل يا رب أنا لا أريد أن أكون مختارا واجعلني مقهورا، لذلك لا بدّ أن يكون للإنسان في الاختيار مأرب آخر، إن السماء والأرض والجبال وكل الكونيات لم تقبل تحمل الأمانة خشية عدم القيام بحقها.
ولننتبه جيدا إلى أن هناك فارقا بين الأمر ساعة أن يتحمله الإنسان، والأمر ساعة أن يؤديه، فعندما يقول لك قائل: أنا معي مائة جنيه واحفظها لي عندك حتى لا أبددها، فالإنسان المتلقي لهذه الأمانة لا يتهمه أحد بذمته وهو قبل المائة جنيه كأمانة فهو في نيته أن يحتفظ له بها ويؤديها في أي وقت يطلبها منه ، لقد ضبط الإنسان نفسه ساعة تحمل الأمانة، ولكن هل يضبط الإنسان نفسه عندما يطلب منه أن يؤدي الأمانة قد تكون الدنيا ضاقت عليه وغلبته الظروف فأضاع الأمانة في مستلزماته أو مستلزمات بيته.
إذن فهناك فرق بين أن يقدر الإنسان على نفسه وقت التحمل، ولكن لا يقدر على نفسه وقت الأداء لذلك فالكونيات كالجبال والسماء والشمس والقمر وغيرها قالوا نتحمل الأمانة ولكن قد لا نقدر على وقت الأداء لذا:{ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا}، ظلم نفسه لأنه أدخلها في متاهة التحمل، وجهل بما يكون عليه عند الأداء.
والأمانة كما قلنا هي حق في ذمة إنسان لإنسان آخر عليه أن يكون مستعدا لأداء الحق ساعة الطلب، وحين يعطي إنسان إنسانا شيئا يصير الآخذ مؤتمنا فان شاء أدّى، وان شاء لم يؤد. لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان إنما أعطاها رب الناس لكل الناس، من هذه الأمانة التي هي عطاء من الله، العلم الذي أعطاه الله للناس فهو أمانة فلا تقل إن ما تعلمه للآخرين هو دين عليهم إنما هو أمانة من الله عليك أن تؤديها لخلقه الذين لا يعلمون، كذلك الحلم أمانة، من الله عليك أن تؤديها لخلقه الذين لا يعلمون، كذلك الحلم أمانة، والشجاعة أمانة، وكل صفات الخير التي فيك أمانة وعليك أن تؤدي ضريبتها لخلق الله تعالى.
والأمانة في المال قد تكون واضحة، إما في بقية الأشياء فعلى الإنسان أن يعرف أنه مؤتمن عليها، لأن صاحبها هو الله وهو خالقها فيك، لقد أمّن الله الإنسان على المواهب المختلفة حتى يؤديها للغير، فينتفع المجتمع الإنسانى كله.
إذن فليس من الضروري أن تكون الأمانة أمرها واضح. فالألوهية حق لله وحده، فعليك أن توحّده ولا تشرك به أحدا وهذا أمانة عندك، والتزامك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمانة، وغيرتك على دينك ومجتمعك أمانة وفيما حباك الله به من المواهب أمانة، فكل إنسان أمين على موهبته فليؤدها إلى غيره، وليعط أثرها لمن لا توجد عنده هذه الموهبة، لقد أعطى الله لهذا قوة في العضل، وثان قوة في الفكر، ولهذا قوة في الحلم، ولرابع قوة في العلم وغير ذلك من المواهب، كل هذه أمانات أودعها الله في خلقه ليكون أداؤها محققا للتكامل بين الخلق بين الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لغيره من البشر يصبح كل إنسان موهب غيره من البشر.
وقمة الأمانة أن يعبد الإنسان خالقه ولا يشرك به أحدا، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها فيجب على كل إنسان إن يؤدي ما كلفه الله به، وليعلم الإنسان إن هذه التكاليف أمانة للغير عنده، فحين يكلفك الله بالا تسرق فهو سبحانه كلف الغير بالا يسرقوك.
إذن فكل أمانة عند الغير هي أمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده لك.
والأمانة إذا ضاعت كان ولا بدّ من العدل، لان الإنسان إذا ما عاش في مجتمع يؤدي كل واحد ما فيه للغير عنده لما احتجنا إلى التقاضي، لأن التقاضي إنما ينشأ من خصومة وخلافات، فالتقاضي سببه أن واحدا أنكر حق غيره، فيذهب الاثنان إلى المحكمة لتحكم بينهما بالعدل.
إذن، فإذا أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق للغير لما وجد تقاض، ولما وجدت خصومة؛ ولذلك لا توجد في مثل تلك الحالة ضرورة للذهاب إلى المحاكم للعدل بين الناس.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق