الثلاثاء، ديسمبر 07، 2010

الفضيلة وأبوابها للداعية (3) الشيخ محمد متولى الشعراوى

كظم الغيظ
يقول الحق سبحانه وتعالى في وصف المتقين{ والذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} آل عمران 134.
إن من صفات المتقين كظم الغيظ، فعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم خبر مقته عمه حمزة وقالوا له: إن هندا قد انتزعت كبده وأكلته، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم هل مَضَغتْها؟.
قالوا: لا، لفظتها.
لقد جعلها الله عصية عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان الله ليعذب بعض حمزة في النار كأنها هي ستذهب إلى النار لو أكلتها لتمثلت خلايا كبده وعندما تذهب هند إلى النار فمعنى ذلك أن بعض حمزة قد دخل النار، لذلك فكان لا بد أن تكون كبد حمزة عصية عليها وتلفظها، ولما كان مقتل حمزة رضي الله عنه من المواقف التي سببت ألما شديدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: لأن أظفرني الله بهم لأقتلن منهم سبعين، وهناء جاء القول الحق:{ والكاظمين الغيظ}.
إن الحق سبحانه وتعالى يأخذ ذروة الحدث وقمته في رسول الله من أكثر شيء اغتاظ منه، فيرشده سبحانه ويعلمه وينزل عليه القرآن الكريم وفيه:{ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. النحل 126.
ذلك حتى نعرف أن الله لا ينفعل لأحد، لأن الانفعال من صفات الأغيار، لذلك أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم{ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} فكان كظم الغيظ، وكانت التوجيهات الإلهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحداث أحد ثم بعد ذلك يشيعها الحق قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب، ولتكون أيضا معلما ومرشدا للناس للارتقاء في مراتب اليقين.
إن الأمور المعنوية مأخوذة من الحسيات، فأصل الكظم أن تملأ القربة، والقربة هي وعاء نقل الماء عند العرب مصنوعة من جلد مقلوب، فإذا ملئت بالماء شدّ على رأسها، أي ربطت ربطا محكما عند فوهتها بحيث لا يخرج منها ما فيها، وهذا يسمى كظم القربة، أي ملؤها وربطها بشكل جيد.
والقربة بطبيعتها لينة، فلو وضعت على ظهر الدابة أو حملها رجل دون كظمها حينئذ يندفع الماء خارجا منها، ولكن كظم القربة يجعل الماء لا يخرج منها.
كذلك كظم الغيظ يصنع في النفس البشرية هياجا، ولا يمنع الله الهياج في النفس، لأنه انفعال طبيعي، وهذه الانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنسانى، ولكن الحق يريدها لأشياء، مثال ذلك الغريزة الجنسية فيريدها الله لبقاء النوع ولكنه يهذبها.
وكذلك الغيظ فهو طبيعة بشرية، والإسلام لا يريد من المؤمن أن تكون عواطفه في قالب من حديد، ولكن الإسلام يطلب من المؤمن أن ينفعل للأحداث الانفعال المناسب للحدث، الانفعال المثمر، لا الانفعال المدمر.
وقول الحق سبحانه وتعالى:{ والعافين عن الناس} آل عمران 134، يبين أن هناك فرقا بين الانفعال في ذاته الذي يبقى في النفس وتكظمه، وبين العفو، فالعفو هو: أن تخرج الغيظ من قلبك، وأن تمحو كل أثر لما جرى، وكأن الأمر لم يحدث، وهذه مرتبة ثانية. أما المرتبة الثالثة: فهي أن تنفعل انفعالا مقابلا فعندما تريد أن تعاقب فأنت تستبدل ذلك بالإحسان إليه.
إذن ففي الآيات ثلاث مراحل:
الأولى: كظم الغيظ.
الثانية: العفو.
الثالثة: أن يجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسيء إليه، وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين.
ولكن ما معنى الارتقاء في مراتب اليقين؟
أنه عندما لا تكظم غيظك وتنفعل، فالمقابل لك أيضا أنك لا تستطيع أن تضبط انفعالك بحيث يساوي انفعاله، ويكون المقابل لك ممتلئا بالحدة والغضب، بل قد يظل الغيظ آنذاك ناميا، لكن إذا ما كظمت الغيظ، انخفض في المقابل لك الغضب وبذلك ستنتهي المشكلة.
***
المعاملة بإحسان
الحق سبحانه وتعالى أمرنا بمعاملة الوالدين بالإحسان، لأنهما السبب المباشر في وجودنا، وكما ربى الله عباده على النعم، فالوالدان مكلفان من الحق أن يربيا الابن صغيرا.
والإحسان للوالدين هو الأمر الذي يجب أن تزيد فيه الرعاية عن المطلوب، فليست رعاية الوالدين مجرد نفقة مادية يؤديها الإنسان على كره منه، إنما هى القيام برعايتهما بما يرتفع ويزيد من حدود الرعاية التقليدية، وإذا كان الله تعالى فرض على كل مؤمن أن يعامل إخوانه بالحسنى إلا انه سبحانه خص وأكد على ثلاث طوائف هي:
الطائفة الأولى: الوالدان
إن رعاية الوالدين أمر لا يستحب فيه القيام بالواجب في أقل الحدود، وإنما يجب أن يكون أعلى بأكثر من المطلوب، وحتى نفهم معنى الإحسان فلنا أن نعرف أن الذي يصلي الفروض الخمسة هو إنسان أدى ما عليه، ولكن إذا جاء في الليل وصلى عشر ركعات أو عشرين ركعة طلبا في زيادة في المثوبة والأجر من الله تعالى، فذلك ارتقاء من مرتبة الأداء إلى مقام الإحسان، وهو الذي يفتح للإنسان المؤمن الود مع الرحمن سبحانه وتعالى. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى يقول عن أصحاب مقام الإحسان:{ إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما أتاهم ربهم، انهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} الذاريات 15ـ19.
الله تبارك وتعالى يوضح مرتبة الاحسان فيصف سبحانه أهلها بأنهم لا يقومون فقط بما فرض عليهم من فرائض، بل يزيدون عليها فيدخلون بأنفسهم مقام الايمان، ثم يترقون بكثرة الطاعات وعمل الخيرات ومراقبة الله تعالى في كل أمر فيدخلون إلى مقام الاحسان.
انهم لا يقومون إلا الصلاة في ميقاتها فقط، ولكن يزيدون عليها بالنوافل، ولا يقومون بالفرائض فقط، ولكن يزيدون عليها بالاستغفار والذكر والتضرع إلى الله تعالى في السحر، ولا يؤدون الزكاة فقط، ولكنهم يعتبرون أن أي مال لهم هم مستخلفون فيه، ويعتبرون أن للسائل والمحروم حقا فيه، وهكذا يكون الاحسان.
إن الله أمر بالإحسان للوالدين وهو أن يقوم الابن بما يتجاوز ما هو مفروض لهم خشية لوم الناس، بل هو الارتفاع بمعاملة الأب والأم إلى مقام الاحسان ومرضاة الله تعالى، ووفاء حقهم عليه.
الطائفة الثانية: ذوو القربة
إن الحق سبحانه وتعالى يحرض على السعي في طلب الرزق ويرغب فيه، ليعود بالنفع على المجتمع كله، فعندما يعمل الإنسان عليه أن يجدّ في عمله ليعود ثمرة عمله عليه ويفيض منه ما ينفق على والديه وأقاربه، وليس هنا فحسب فكل ضعاف المسلمين، وأبناء السبيل يجب أن يكونوا في باله حينما يسعى للرزق وعندما يعمل كل إنسان بهذا الفكر فلا بدّ للمجتمع كله أن يرتقي، ولسوف نجد دوائر الأقارب ترقى في مستوى إنسانى لا يسمح بفوارق شاسعة في مستويات الحياة، وعندما تترقى دوائر القربى وتزدهر العلاقات الإنسانية فانه ينقي النفوس من جشع الثراء ولو على حساب الأقربين، أو جشع تدمير الآخرين، ومثال على ذلك تلك السلسلة من العمارات السكنية التي تنهار من وقت لآخر أقامها الطمع الجاهل، واستبد بأصحابها الجشع القاتل فأصاب المجتمع بكوارث، إن تمّ علاجها ماديا فسوف تأخذ وقتا لعلاج آثارها النفسية، وذلك لغيبة الايمان في قلب من أقامها، وضاع الضمير في سبيل الحرص على سرعة الثراء مما أودى بحياة ساكني هذه المباني إلى الهلاك.
إن الاحسان في معاملة ذوي القربى يجعل من المجتمع الإنسانى مجتمعا متكافلا متآزرا فلن نجد فقيرا يعني من العوز، ولن نجد مسكينا إلا في أقل القليل، ولذلك علينا أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى لم يشرع نظام الزواج وعلانيته إلا ليضمن سعادة الأفراد والمحافظة على الأنساب وضرورة التكافل الاجتماعي، فيجعل من الإنسان مسؤولية إيمانية هي رعاية والديه وأقاربه، فلن نجد في دائرة القربى لرجل أعطاه الله المال الكثير وهو حسن الايمان من يشكو العوز، لأن الارتفاع إلى مقام الاحسان يتطلب من الغني أن يرعى حق الله في ذوي قرباه.
الطائفة الثالثة: اليتامى
الإنسان اليتيم هو الذي فقد الأب المسؤول عن الرعاية ماديا ومعنويا بينما نجد في الحيوان اليتيم هو من فقد الأم، ذلك أن الابن عند الحيوان يعتمد في نموه وطعامه وتدريبه على الأم، كما أن نسب الأبناء في الإنسان يكون لآبائهم، أما في الحيوانات فيصعب أن نجد هذا النسب، ذلك لأن الحيوانات لا تعرف نظام الزواج الذي كرّم الله به الإنسان.
والأم في المجتمع الإنسانى ترعى وتعطي حنانا وقيما، والأب يعطي قدوة في السعي والحصول على الرزق الحلال، ونحن نرى في هذا العصر الكثير من النساء متخليات عن الأبناء، ونرى الكثير من الآباء مشغولين عن أبنائهم، كل ذلك جريا وراء نهج الحضارة الغربية التي يأخذون منها بأسباب العلم الذي يمكن أن يرتفع بمجتمعاتنا إلى مستوى المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا.
إن مهمة الأم في الحياة شاقة فهي: حمل ورضاعة ورعاية لمدة ثلاثين شهرا، لقد حملته كرها ووضعته ألما ثم تعهدته في مهده بالعناية والرعاية واحتضنته حتى يبلغ سن النضج التي يصبح فيها قادرا على الأخذ عن أبيه، وهي في ذلك كله تعطي بحنان وحب ورقة مشاعر.
كذلك مهمة الأب في الحياة شاقة انه قدوة سلوكية للابن، ورعاية كاملة عاطفيا وعقليا لذلك، فالرحمة واجب إيمانى من الابن لأبويه.
***
معاني الحكمة
إن كلمة الحكمة تطلق في الأصل على قطعة الحديد التي توضع في الحصان لتلجمه حتى يتحكم فيه الفارس، ذلك أن الحصان حيوان مدلل يحتاج إلى ترويض فقطعة الحديد التي توضع في فمه تجعله محكوما من صاحبه.
والحكمة ضد السفه، والسفه كما نعرف هو أن نصنع الشيء دون دراية، وهكذا تكون الحكمة هي أن يوضع مجال لكل حركة لتنسجم مع غيرها.
فالكون محكوم بالحق سبحانه وتعالى، وهو الحكيم العليم الذي يضع لكل كائن إطاره وحدوده والحكمة في عموم حركة الحياة:
فالحكمة في النحو أن تضع الكلمة في مكانها وبإعرابها.
والحكمة في الفقه أن نستنبط الحكم الصحيح.
والحكمة في الشعر أن نزن الكلمات على التفاعيل.
والحكمة في الطب أن نعرف تشخيص المرض والدواء المناسب له.
والحكمة في الهندسة هي أن تصمم المستشفى وفق احتياج المريض والطبيب إلى أجهزة العلاج وأماكن لإجراء الجراحة، وكذلك تصميم أسلوب الإضاءة وبقية المرافق، وتحديد أماكن المصاعد ومخازن الأدوية وأماكن إعداد الطعام، وأماكن النقاهة، ثم أماكن العلاج الخارجي.
وهذا التصميم للمستشفى يختلف بحكمته عن تصميم منزل سكني، وتنظيم عمارة للسكنى يستوجب توزيع الشقق لراحة السكان جميعا، وحكمة بناء منزل تختلف عن حكمة بناء قصر أو مكان عمل.
فالحكمة إذن هي التوفيق، فإعداد مكان ليصلح لعمل معين أو وظيفة محددة يختلف عن أخذ مكان للسكن أو ليكون ديوانا حكوميا.
إذن فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، نشهد ذلك في أي آلة من الآلات، فالآلة على سبيل المثال قد تكون مكوّنة من خمسين قطعة وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك، وما دامت كل قطعة في مكانها فان الآلة تسير سيرا حسنا، أما إذا توقفت الآلة لخروج قطعة عن موضعها أو كسرها فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها فتعود الآلة للعمل باستقامة، ومثال ذلك ما يكون في الوجود مبنيا على حكمة فلا ينشأ فيه فساد، فان حدث الفساد فانه ينشأ من حركات تحدث بدون أن تكون حكيمة.
قديما على سبيل المثال كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها ماس كهربائي، وكلما نجد خطأ فإننا نعدّل من صنيعنا للشيء وهذه حكمة.
وقديما كنا نجد جميع الأسلاك التي في السيارة ذات شكل واحد فكان يحدث ارتباك هند الإصلاح، لكن عندما جعل كل سلك بلون معين فهذا يسهل عملية الإصلاح عند أي ارتباك وهذا حكمة.
إن الحكمة كما قلنا إذن هي وضع الشيء في موضعه، وما دام الأمر كذلك فان كل صانع يصلح لصنعته ويقدم لها دليل الصيانة الكامل، ولما كنا نحن البشر خلقا من خلق الله نتعالى فهو سبحانه أعلم بمواطن الضعف والخلل فينا، وكيفية معالجتها، وسبحانه لم يخلقنا هملا ولا عبثا بل أرسل سبحانه الرسل وأنزل الكتب لتعالج داءات المجتمع وأمراضه، فأعرضنا عنها وشرعنا ولأنفسنا ما يوسوس حياتنا فاختلفت الموازين وانقلبت القيم وضاعت الأعراف بين الناس، ودائما ما نقول إذا رأينا خللا في أي مجتمع فلنعلن أن هناك شيئا قد ناقض حكمة الله تعالى، وعندما نبحث عن العطب سوف نجده تماما مثل أي عطب في أي آلة، فتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها، وإذا ما حدث فساد في المجتمع فإننا يجب أن نرده إلى خالق الخلق سبحانه، من خلال كتاب ربنا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق