الخميس، ديسمبر 09، 2010

الفضيلة وأبوابها للداعية (5) الشيخ محمد متولى الشعراوى

استقبال قضاء الله
الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضر كما هو خالق النفع، والضر يلفت الإنسان إلى نعم الله تعالى في الدنيا فإذا ما رضي الإنسان وصبر فان الله يرفع عنه الضر، فالضر لا يستمر على إنسان إلا إذا كان غير راض بقدر الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يرفع قضاءه في خلقه إلا بعد أن يرضى به الخلق، فالذي لا يقبل بقضاء الله في المصائب مثلا تستمر معه المصائب، أما الذي يريد أن يرفع الله عنه القضاء فليقل: رضيت بقضاء الله تعالى، ويحمد الله على كل ما أصابه.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا نماذج على مثل هذا الأمر فها هو ذا الخليل إبراهيم عليه السلام يتلقى الأمر بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، وهذا الأمر قد يراه غير المؤمن بقضاء الله شديد القسوة، وليس هذا فقط، بل على إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه بنفسه.. وهذا ارتقاء في الابتلاء، ولم يلتمس إبراهيم عذرا ليهرب من ابتلاء الله له، ولم يقل إنها مجرد رؤيا وليست وحيا فقد جاء الأمر في رؤية أراها الله لإبراهيم عليه السلام.
ولنتأمل عظمة الرضا في استقبال أوامر الله فيلهمه الحق أن يشرك ابنه إسماعيل في نيل ثواب الرضا فيقول له كما قصّ القرآن الكريم:{ فلما بلغ معه السعي قال يابنيّ أنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} الصافات 102
لقد بلغ إسماعيل ذروة السعي في مطالب الحياة مع أبيه، وجاء الأمر في المنام لإبراهيم أن يذبح ابنه، وامتلأ قلب إسماعيل بالرضا بقضاء الله، ولم يقاوم، ولم يدخل في معركة جدلية بل قال:{ يا أبت افعل ما تؤمر} لقد أخذ إسماعيل عليه السلام أمر الله بقبول ورضا ولذلك يقول الحق سبحانه عنهما معا:{ فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، انّا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم}.
لقد اشترك الاثنان في قبول قضاء الله برضا، وأسلم كل منهما للأمر، أسلم إبراهيم كفاعل، وأسلم إسماعيل كمفعول به، ورأى الله تعالى صدق كل منهما في استقبال أمر الله، وهنا نادى الحق خليله إبراهيم عليه السلام لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى قضائي وحسبكما هذا الامتثال، ولذلك يجيء إليك والى ابنك التخفيف.
إذن، فنحن البشر لن نطيل على أنفسنا أمد القضاء بعدم قبولنا له، لكن لو سقط على إنسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله من مجريه عليه وهو ربه بمقام الرضا فن الحق سبحانه وتعالى سيرفع عنه القضاء، فإذا رأيت إنسانا طال عليه أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا.
***
الإنفاق ابتغاء مرضاة الله
يقول الله تعالى:{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنّة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فان لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير} البقرة 265.
إن ابتغاء مرضاة الله في الإنفاق يعني خروج الرياء من دائرة الإنفاق.
إن الإنفاق يكون أولا إنفاقا في سبيل الله، ويكون ذلك باعتقاد النفس الجازم أن الله سبحانه هو الذي وهب المؤمن ماله ودمه، ولذا كيف يهون شيء في سبيل مرضاته.
والجنة تطلق في اللغة: على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر يستر من يدخله، ومنها: " جنّ" أي ستر فمن يدخل الجنة يكون مستورا.
الحق سبحانه بريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وتثبيتا من أنفسهم ضد الأنفس الشهوانية، فيكون الفرد منهم كم دخل جنة كثيفة الزرع، هذه الجنة توجد في ربوة عالية محاطة بأمكنة منخفضة عنها فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على هذه الربوة؟
الله سبحانه أخبرنا بما سيحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث، ويكشف أسرار المياه الجوفية وفائدتها للزراعة، وهو أن الجنة التي في ربوة عالية لا يوجد بها مياه جوفية، لأن المياه الجوفية إن وجدت فإنها تذهب إلى جذر النباتات الشعرية فتفسدها بالعطن، فلا تستطيع هذه الجذور أن تمتص الغذاء اللازم للنبات فيشحب النبات بالاصفرار ويموت بعد ذلك.
أما الجنة التي بربوة عالية، فالمياه التي تنزل عليها من المطر لها مصارف من جميع الجهات المنخفضة التي حولها، وكأنها ترتوي بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الري، إنها تأخذ المياه من أعلى أي من مطر، فتنزل المياه على الأوراق بما يجعلها تؤدي دورها فيما نسميه نحن بالتمثيل الكلورفولي، وبعد ذلك تنساب المياه إلى الجذور لتذيب العناصر اللازمة في التربة لغذاء النبات، وتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء، وينزل الماء الزائد من ذلك إلى المصارف المنخفضة، وهذا أحدث اكتشاف لري الأرض الزراعية، فالمحصول يتضاعف إنتاجه عندما يروى بقدر.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم هم مثل هذه الجنة التي تروى بأسلوب رباني، فإذا نزل عليها المطر الغزير أخذت منه حاجتها وينصرف باقي المطر عنها، وان لم يصبها مطر غزير فطل، والطل، وهو الرذاذ القليل يكفيها، لتؤتي ضعفين من إنتاجها، وإذا كان الضعف هو ما يساوي الشيء مرتين، فالضعفان يساويان الشيء أربع مرات، ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا إن الذي ينفق ماله ابتغاء وجه الله، هو غير الذي ينفق ماله رئاء الناس فيقول سبحانه:{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} البقرة 266.
الحق سبحانه وتعالى يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة، فهل يود أحكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، وفيها من كل الثمرات ؟ إن الجنة بهذه الصفة فيها خير كثير، لكن صاحبها يصيبه الكبر ولم تعد فيه صحة وفتوة الشباب.. انه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون إلى ذلك الخير، لأنه أصبح في الكبر وليس له طاقة يعمل بها.
وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة لا لنفسه فقط، ولكن لذريته الضعفاء.
هذه قمة التصوير للاحتياج إلى الخير لا للنفس فقط ولكن للأبناء الضعفاء، إننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف:
الظرف الأول: هو الجنة التي فيها من كل الخير.
الظرف الثاني: هو الكبر والضعف والعجز عن العمل.
الظرف الثالث: هو الذرية الضعفاء.
هذه الجنة هاجمها إعصار فيه نار فاحترقت فأي حسرة يكون فيها هذا الرجل؟ إنها حسرة شديدة، هكذا تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس.
والإعصار كما نعرف هو الريح الشديدة المصحوبة برعد وبرق وأحيانا يكون فيه نار وذلك حين تكون الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر. هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس، ابتداء مطمع وانتهاء يائس.
إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا الابتداء المثير للطمع وذلك الانتهاء المليء باليأس، إنها الفاجعة التي يصورها الشاعر بقوله:
          فأصبحت من ليلة الغداة كقابض*** على الماء خانته فروج الأصابع
           كلما أبرقت قوما عطاشا غمامة*** فلما رأوها اقشعت وتجلت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق