الأحد، ديسمبر 05، 2010

الرذيلة ومداخلها (1) للداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي

الحسد
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الواقع المعاصر أثبت أنه كلما يترقى العلم يمنحنا فكرة، عن أن الشيء كلما شف أقل فأصبح دقيقا. أي: يكون أكثر عفنا.
وعلى سبيل المثال: إنسان بنى بيتا في حقل متسع فمر عليه صديق له وقال: ألا تعرف أن هنا في الخلاء المتسع ذئبا؟ وأوصى الصديق صاحب البيت بأن يبني نوافذ من حديد ليمنع الذئاب من أن تدخل عليه.
ثم مرّ عليه ثان فقال له: إن حديد شبابيك المنزل متسع، والثعابين في هذا الخلاء كثيرة وأوصى صاحب البيت أن يضع ستارة من السلك.
لكن صديقا ثالثا قال لصاحب المنزل: إن الناموس الفتاك بالملاريا منتشر، وعليك أن تضع ستائر من السلك أكثر ضيقا من هذه.
إذن فالشيء كلما لطف عنف، أي كلما صغر الشيء في الحجم كان عنيفا أكثر، والعنف ليس مرتبطا بحجم المادة، إنما من عمق فاعلية المادة وتأثيرها، وعلوم الطب تكشف كل يوم عن الأمراض الخطيرة الفتاكة، وقد تكون بسبب أصغر الميكروبات حجما، كما أن هناك الآن أشعة الليزر التي يتم بها إجراء عمليات جراحية بدون مشرط أو نزول قطرة دم، هذه الأشعة تخترق أدق وأصلب الأشياء.
والحسد أمر مقطوع به برغم أنه ليس من الأمور المادية، فلماذا ننكر على الحاسد أن بصره قد تصدر عنه أشعة أشف وأخف من أشعة الليزر؟
قد يقول قائل: وما ذنب المفتوك به من الحسد؟
نقول أيضا: وما ذنب المقتول خطأ برصاصة؟
وقول الحق سبحانه:{ ومن شر حاسد إذا حسد} الفلق 5، أي: أن بعض الناس يحسد، ولذلك عندما يرى الإنسان نعمة الله على إنسان آخر فعليه أن يقرأ سورة الفلق، وليقل ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا يحقد على صاحب النعمة. حينئذ تعلق في قلبه نوافذ الإشعاع الحاسد، لأن هذه الإشعاعات النافذة لا تخرج إلا في حالات الحقد والغضب.
إذن فالإنسان حين يقول: ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فانه يقي نفسه من أن يكون حاسدا، ويمنع غيره بقوة الحق سبحانه وتعالى من أن يكون حاسدا له.
إن الحسد والسحر هما من الشرور غير المرئية التي تتساوى معه الشرور المرئية، وان كانت أدواتهما غاية في اللطف والعنف في آن واحد.
والإنسان الذي يحقد هو إنسان يعاني من تضارب الملكات، حتى انه يبدو وكأنه يأكل بعضه بعضا، فالحقد جريمة نفسية لم تتعد الحسد، ويقال عن الحقد أنه الجريمة التي تسبقها عقوبتها، وهي عكس أي جريمة أخرى نجد أن عقوبتها تتأخر عنها إلا الحقد، وذلك أن عقوبة الحقد تنال صاحبها من قبل أن يحقد.
الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير، ولذلك جاء في الأثر: ~حسبك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك}.
***
الإسراف
الله سبحانه وتعالى حين يحرّم سيئا فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة إلى ما أحله سبحانه، فالمحرّم قليل، وبقية ما لم يحرمه الله هو الكثير واقرأ قول الله تعالى:{ قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكّرون} الأنعام 151، 152.
إن الحق سبحانه يورد المحرمات وهي أشياء محددة محدودة، أما النعم فهي جليلة عظيمة اكثر من أن تحصى وتعد، ومن هذا الأمر نعرف سعة رحمانية الحق بالخلق، لقد خلق سبحانه الكثير من النعم ولم يحرم إلا القليل، وسبحانه حين حرّم؛ حرّم لتبقى كل نعمة في مجالها فإذا ما جاء إنسان وقال: إن الله قد حرّم هذا الشيء لأنه ضار، نقول له: إن ما تقوله أمر جائز ولكن هذا الضرر سبب الحكم بكل المحرمات فقد يحرّم الله سبحانه أمرا لتأديب قوم ما، فلو نظرنا نحن إلى واقعنا مقلا نجد أبا مسؤولا عن تربية أولاده قد يحرّم على ولد فيهم لونا من الطعام أو جزءا من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك العقوبة.
وكذلك نرى أن بني إسرائيل استحقوا عقوبة التحريم لأنه جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرّم الله، فكأن الله سبحانه يقول لهم: لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه، لذا فأنا أحرم عليكم ما أحللته لكم من قبل ذلك، لماذا؟
حتى لا يفهم إنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئا من وراء الله.. لا، إن أحدا لا يمكنه أن يغلب الله سبحانه، فالله سبحانه لم يحرم عليك شيئا كان حلالا، ولهذا فالتحريم إما أن يكون تحريم طبع أو تحريم فطرة.
فنحن نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر مثلا ثم بعد أن أخذت بجسده ذهب إلى الطبيب فقال له إن شربتها ثانية سينتهي كبدك، ثم يمنعه عن أصناف كثيرة من الطعام والشراب فهذا ظلم من الإنسان لنفسه نتج عنه تحريم أشياء عليه، إن مثل هذا الإنسان قد استحل ما حرم الله فحرم الله عليه بالطبع والتكوين والسنة الكونية أمورا كانت حلالا له.
ورجل آخر أسرف على نفسه في تناول صنف معيّن من الطعام كالسكّر مثلا فوق ما تدعو إليه الحاجة فكأن سنة الله الكونية تقول له: لقد أخذت من السكر أكثر من حاجتك وبسبب ذلك صرت مريضا فإياك أن تتناول السكريات مرة أخرى، ويضل المريض بالسكر يشتهي الحلوى، ويملك القدرة على شرائها ولكنها ممنوعة عليه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له: بظلم منك لنفسك حرمت على نفسك ما أحللته لك.
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة ويقوم له الآخرون بطحن الغلال، ويأمر بأن يصنع له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من الردة ويصنعون الخبز الأبيض ويأكل منه، بينما الأتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة فكأن سنة الله الكونية تقول له: أنت ستأكل الخبز المصنوع من الدقيق الفاخر، وليأكل عمالك ورعاياك الخبز المصنوع من أفخر أنواع الدقيق، وكأن الله تعالى يقول له: فبظلم منك حرمنا ما أحل لك.
إذن، فالإنسان منا عندما يرى إنسانا آخر حرم من نعم الله التي هي حلال فليعلم أن ذلك الإنسان سبق وأن أحل ما حرم الله عليه، أو ظلم نفسه بالإسراف في شيء كانت الفطرة والطبع تقتضيان الاعتدال فيه، إن أحدا منا لا يفلت من رقابة الله، والتحريم يكون بالتشريع إذا كانت العقوبة من المشرّع، وقد يكون تحريما بالطبع، وهذا إن كان في الأمر إسراف من النفس، ولنقرأ دائما قول الله تعالى:{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيرا} النساء 160.
وكذلك الذي يأخذ مالا بالربا، انه يأخذه ليزيد ماله، هنا نقول له: لماذا تريد المال؟ أتريده لذات المال أم لهدف آخر؟ المال رزق، ولكنه رزق غير مباشر، لأنه يشترى الأشياء التي ينتفع بها الإنسان وهي الرزق المباشر، نقول: هب أن إنسانا في صحراء ومعه جبل من الذهب لكن الطعام انقطع عنه، إن جبل الذهب في مثل هذه الحالة لا يساوي شيئا بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء أغلى من الذهب.
إذن، فالمال رزق لكنه غير مباشر يأتي بالرزق المباشر. والذي يزيد ماله بالربا، هل يريد تلك الزيادة من أجل المتعة؟ فليعلم أن الله سبحانه يمحق ذلك ويزيل المال في الكوارث.
إن الإنسان إذا أراد أن يبقى له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يستبيح أي شيء حرمه الله، وبذلك يظل مستمتعا بنعم الله عليه.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق