الأربعاء، نوفمبر 10، 2010

الحسبة والاحتساب*.... حتى لا تُخرق السفينة -2


احتساب الأنبياء عليهم السلام
نظرات في أساليب الأنبياء في أداء هذه الشعيرة

لما خلق الله ـ تعالى ـ البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2]، وقال ـ تعالى ـ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30]، وقال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.
وفريق الجنة هم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون. وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفساد. ولذا كان أكثر الناس صلاحاً وإصلاحاً الرسل ـ عليهم السلام ـ؛ لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد، وقد قال الله ـ تعالى ـ عن الصالحين من آل إبراهيم ـ عليه السلام ـ:  {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ وهو يحتسب على قومه: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهم؛ قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسدات؛ وذلك حين ذكرهم الله ـ تعالى ـ مبيناً فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم (ذيَّل) ـ سبحانه ـ ذلك بقوله ـ عز وجل ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
إنكار الرسل للمنكرات
من قرأ القرآن بتدبُّر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيه؛ علم أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردّهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.
والموضوعات التي احتسب فيها الرسل ـ عليهم السلام ـ على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله ـ تعالى ـ ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم. لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة.
لقد احتسب الرسل على أقوامهم في مسألة التوحيد، وهي أعظم مسألة وأجلّها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
وكان احتسابهم شاملاً لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهم؛ لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم ـ عليه السلام ـ على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وإنكار موسى ـ عليه السلام ـ على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله تعالى.
وتحمَّل هذان النبيان الكريمان ـ عليهما السلام ـ في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحمَّلا من الأذى في سبيل الله ـ تعالى ـ مما قصه الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز.
وأنكر موسى ـ عليه السلام ـ على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم: {أَتَقُولُونَ لِلْـحَقِّ لَـمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، وفي الآية الأخرى: {قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61].
فكان موسى ـ عليه السلام ـ قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويضلون الناس؛ لإرضاء البشر من دون الله تعالى.
كما كان ـ عليه السلام ـ قدوة صالحة لمن يفضحون الكُتَّاب والإعلاميين ومن يسمون بالمفكرين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!
وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!
وكم يفتـرى على المصلحين المحتسبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل!
وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا ـ عليهم السلام ـ ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم.
ومثال ذلك من سيرة نوح ـ عليه السلام ـ وهو يخاطب ابنه وقد بدت بوادر العذاب؛ لينقذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
واحتسب إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه فخصَّه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم: 41 46-].
واحتسب إسماعيل ـ عليه السلام ـ على أهل بـيته كما ذكر الله ـ تعالى ـ عنه ذلك بقوله ـ سبحانه ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[مريم: 54 - 55].
واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصي: فنوح ـ عليه السلام ـ أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ أنكر على قومه اعتقادهم في النجـوم وفي أصـنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبيَّـن ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58]، ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِـمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء 67:].
وهود ـ عليه السلام ـ احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
فبين لهم ـ عليه السلام ـ أن الله ـ تعالى ـ أقوى منهم، وحـذرهـم من مغبَّة عبثهم، وقال صلى الله عليه وسلم منكراً عليهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ *  وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. [ الشعراء: 128 131-].
واحتسب صالح ـ عليه السلام ـ على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْـجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [الشعراء: 149  150–].
كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْـمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151 - 152].
وأما قوم لوط ـ عليه السلام ـ فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالى؛ فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54 - 55].
وكان قوم لوط ـ عليه السلام ـ يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله ـ عليه السلام ـ: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْـمُنكَرَ}[العنكبوت: 28 - 29].
وأما شعيب ـ عليه السلام ـ فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181-183]
كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال ـ عليه السلام ـ لهم: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36]، وفي الآية الأخرى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86].
ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.[الأعراف: 142]
غضب الأنبياء من المنكرات
ما أشد غضب الرسل ـ عليهم السلام ـ حين تنتهك حرمات الله تعالى، ويقع أقوامهم في المنكرات، يغضبون غـيرةً على ديـن الله ـ تعالى ـ ولا يغضبون لأنفسهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا! فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله تعالى، واشتد غضبهم له سبحانه.
ومن ذلك: أن الله ـ تعالى ـ لما أوحى إلى نوح ـ عليه السلام ـ أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك؛ غيرةً لله تعالى، وانتصاراً لدينه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
ولم يكن دعاؤه عليهم بالهلاك انتصاراً لنفسه، أو انتقاماً منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علَّل دعاءه عليهم بقوله ـ عليه السلام ـ: {إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
ولما عاد موسى ـ عليه السلام ـ من ميقات ربه، وتكليمه إياه، وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالى؛ غضباً لله ـ تعالى ـ أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه: {وَلَـمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ} [الأعراف: 150].
هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس! فالله المستعان.
أمر الرسل بالمعروف
كما احتسب الرسل ـ عليهم السلام ـ على أقوامهم فنهوهم عن المنكرات والموبقات؛ فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله تعالى، ويوصل إلى جنته: فأمروهم بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده لا  شريك له، وما من نبي منهم إلا قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، قال الله ـ تعالى ـ مخبراً عنهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
كما أمر الرسل أقوامهم بشكر الله ـ تعالى ـ على نعـمه، والإقـرار بفـضله، وإخـلاص الديـن له، فـهذا هود ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْـخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وقال صالح ـ عليه السلام ـ: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْـجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
وموسى ـ عليه السلام ـ فعل ذلك أيضاً فذكَّر بني إسرائيل نِعَم الله ـ تعالى ـ المتتابعة عليهم؛ من اصطفائهم على غيرهم، وإهلاك عدوهم، وأمرهم ـ عليه السلام ـ بشكر هذه النعم العظيمة، قال الله ـ تعالى ـ مخبراً عنه: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 20].
وفي آية أخرى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6].
وأمر الرسل أقوامهم بالتوبة والاستغفار؛ فنوح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، وهود عليه السلام ـ قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وصالح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }  [هود: 90].
أعمار الأنبياء كلها احتساب
قضى الرسل ـ عليهم السلام ـ أعمارهم كلها ـ منذ أن بعثهم الله تعالى، وأوحى إليهم إلى أن لقوه سبحانه ـ في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح ـ عليه السلام ـ محتسباً على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولما أهلك الله ـ تعالى ـ المكذبين مكث محتسباً على المؤمنين ما شاء الله تعالى.
فليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كفَّ عن ذلك أن الرسل ـ عليهم السلام ـ ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.
ولقي الرسل ـ عليهم السلام ـ في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح ـ عليه السلام ـ سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ أُلقي في النار، ورُمـي هود ـ عليه السلام ـ بالجنون، واتهم موسى ـ عليه السلام ـ بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب ـ عليه السلام ـ أن يُرجم لولا منعة رهطه، وقُتل زكريا ويحيى ـ عليهما السلام ـ، وطُورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله ـ تعالى ـ في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.
ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسـل ـ عليـهم السلام ـ ليقـبلوا المسـاومة فـي دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم. وكان سليمان ابن داود ـ عليهما السلام ـ قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36 - 37].
رفض الحسبة هو مسلك المشركين
الرسل ـ عليهم السلام ـ جاؤوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]، وأخبر الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم قدَّموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104].
ومع ذلك؛ فإن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السالفة أنهم ما رفضوا تنسُّك الأنبياء وتعبُّدهم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية كان موجوداً عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.
إن الرسل ـ عليهم السلام ـ ما نزلوا من السماء، ولا جاؤوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم؛ ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله ـ تعالى ـ إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشـرك بالله ـ تعالى ـ شيئاً فقد عصمهم الله ـ تعالى ـ من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قُدِّر وقوعُ الشرك منهم لاحتجَّ به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبـدون معـنا؟ ولما احتـاج المشـركـون إلى إحـالتهم على ما كان يعبد الآباء.
إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك.
بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك: قول قوم صالح ـ عليه السلام ـ: {يَا صَالِـحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].
فهذه تزكية منهم لصالح ـ عليه السلام ـ، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.
ونبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحكي سيرته الخـالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله ـ تعالى ـ في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ محلَّ إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقَّبوه بالأمين.
وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ، ومنهم من تنصَّر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.
كل هـذا يدل على أن أكـثر المشركـين كانوا يتحـلَّون بما يسـمى في هـذا العصـر بالحـرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية، وما نقموا على من يوحد الله ـ تعالى ـ أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم.
كما يدل على أن الذي نقمه أكثر المشركين من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله ـ عليهم السلام ـ أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب ـ عليه السلام ـ له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].
فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله ـ تعالى ـ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
ولذا؛ فإن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ هو دين الله ـ تعالى ـ الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل. وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو متشبهون بهم، أرادوا ذلك أو لم يريدوه.
المحتسبون هم أنصح الناس للناس
أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس غير.
قال نوح ـ عليه السلام ـ وهو يدعو قومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62]، وقال هود ـ عليه السلام ـ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68].، وقال صالح ـ عليه السلام ـ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}  [الأعراف 93:].
وأغشُّ الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويحبون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء. وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم السلام ـ إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.
والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فـيما لا يعـني، فما أضعف عقولهم! وما أشد ضلالهم وانحرافهم! إذ كيف تكون الحسبة تدخلاً فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!
والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.
وتلك الحجة السمجة التافهة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل ـ عليهم السلام ـ يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له: {يَا شُعَيْبُ أَصَـلاتُـكَ تَـأْمُرُكَ أَن نَّتْــرُكَ مَا يَعْـبُـدُ آبَـاؤُنَـا أَوْ أَن نَّفْعَـلَ فِي أَمْـوَالِـنَـا مَا نَشَاءُ}  [هود: 87]. أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟
والمفسدون في هذا العصر يكـررون تلك المقولة (بهذه الصورة) أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشـاؤون دون قـيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!
إنها الحجة نفسها التي احتج بها الأقدمون فكانت سبباً في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.
إن من نظر في سير الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاصٍ متنوعة، وإن كان الشرك موجوداً في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.
وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعاً للعـذاب، وإصلاحاً للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذن بجميعها؟!
ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله ـ تعالى ـ منكراً له، ومحتسباً على قومه فيه: فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام ـ على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفراداً أو دولاً.
ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح ـ عليهما السلام ـ مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.
ومَثَّلَ احتساب لوط ـ عليه السلام ـ مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.
ومَثَّلَ احتساب شعيب ـ عليه السلام ـ مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.
كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب ـ عليهما السلام ـ مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.
فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم، وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل؛ فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً.
ومن اختار مجالاً من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك؛ فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.
ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيراً كثيراً، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.
وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجـني، والافـتراء والتشفي من أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!
ومن روج الشائعات على أهل الحسبة فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يعصمنا من الضلال والهوى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق