الأربعاء، نوفمبر 24، 2010

بنائية القرآن المجيد دعامة من دعامات الختم

[.... ولم يهتد العقل البشري إلى المنهجية في المجال الكوني إلا بعد أن اكتشف أن الظواهر الكونية موحدة عضويا، انطلاقا من إدراك بنائية الكون ووحدته العضوية. وقد تمت تعدية هذا المفهوم إلى المجالات الاجتماعية والإنسانية من لدن مجموعة من المدارس.
وفي مقابل بنائية الكون، التي أطلق اكتشافُها إمكانَ البحث المنهاجي وفجر كلَّ هذه العطاءات المعرفية والمادية التي نشهدها اليوم، فقد منّ الله سبحانه بأن أقر بين ظهرانينا القرآن ترتيلاً، والترتيل لغة من ~الرتل وهو حسن تناسق الشيء. وثغر رتَل ورتِل: حسن التنضيد مستوي النبات، ورتّل الكلامَ: أحسن تأليفه. والرتيلاء: جنس من الهوام} وهي العنكبوت التي تنضد بيتها بشكل شبكي بديع تتفاضى كل مكوناته. غير أننا نجد كثيرا من المفسرين -رغم اتفاق أقوال أئمة اللغة على أن الترتيل مأخوذ من النضد ومن الاتساق ومن التنسيق ومن الانتظام على استقامة- قد قصروه على الجانب الصوتي منه؛ فقالوا هو: ~إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة}. ولما كان الأمر في القرآن ينصرف بالأصل إلى تدبر المعاني وتفهمها، إذ هو كتاب هداية، فإن قَصْر المعنى على الجانب الصوتي من القرآن رغم الحشد الحاشد من الآثار، كآثار ابن عباس ومجاهد وقتادة، ومن كلام أئمة اللغة، كابن الأعرابي والجوهري وابن منظور وابن عباد وغيرهم مما ينص جميعه على حسن تفهم المعاني وتفهيمها، أقول: رغم كل تلك الآثار والأقوال فقد تم إهمال البعد البنائي/النَّضْدي الاتساقي الذي تتضمنه هذه الكلمة: الأمر الذي يعد تحكما بغير برهان، خصوصا إذا وجدنا في تعريفات بعض القراء كأبي البقاء الكفوي للترتيل، النصَّ الصريح على أنه للتدبر والاستنباط أيضا وذلك في قوله: ~وأما الترتيل، فإنه للتدبر والتفكر والاستنباط}.
إن الوحدة العضوية في القرآن المجيد، والتي تشكل أحد أهم وجوه الإعجاز فيه، تفتح المجال أمام القراءة المنهاجية للآيات/البصائر صُعُداً نحو مآلات معرفية لا حصر لها.
ولطالما دندن علماؤنا كالإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ)، والإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، والإمام أبي بكر بن العربي (ت 543هـ)، والإمام أبي إسحاق الشاطبي (ت 790هـ) وغيرهم حول بنائية القرآن تحت عناوين مختلفة؛ فتارة سموها النظم، وتارة سموها الترتيب، وأخرى سموها الاتساق أو المعمارية أو البنائية مباشرة.
ومن أعظم وأجلى ما كتب حول بنائية القرآن تلك الورقات الوضيئة التي كتبها الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه القيم ~النبأ العظيم}، وسوف نجتزئ منها بثلاث فقرات نرى فيها تعبيراً واضحا عن إدراكه العميق لهذه البنائية، محيلين على باقيها ليراجع في موضعه.
يقول رحمه الله: ~فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنـزيلها... فرأيتها وقد أُعِدّ لكل نجم منها ساعة نزوله سياجٌ خاص يأوي إليه سابقا أو لاحقا، وحُدد له مكان معين داخل السياج متقدما أو متأخرا، إذن لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري أن هناك خطة تفصيلية شاملة قد رُسمت فيها مواقعُ النجوم كلها من قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم.. فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها، وما من نجم جعل في مكان ما من السورة آخراً ثم وجد عنه أبد الدهر مصرفا ومحولا...}.
ويقول رحمه الله:~أقبل بنفسك على تدبر هذا النظم لتعرف بأي يد وضع بنيانه، وعلى أي عين صنع نظامه... ولسوف تحسب أن السبع الطوال من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها قد نزلت نجوما، أو لتقولن إنها إن كانت بعد تنـزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنـزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائما على قواعده، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدّرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضا، فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة}.
ثم قال رحمه الله: *ولماذا نقول إن هذه المعاني تنتسق كما تنتسق الحجرات في البنيان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضوعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل، ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج تحيط بها عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب... كما يأخذ الجسم قواما واحدا ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية}.]  ـ أ.د. أحمد عبادي ـ الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء – المغرب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق