أرجو أن يتسع ~الناقد} لهذه الكلمات الناقدة أتوجه بها إلى الأستاذ الصادق النيهوم. ومن غير الناقد يفسح المجال للمحاورة والنقد ؟
أعجبني من الأخ الصادق النيهوم في مقاله (سر وراء الحجاب) تحكيمه القرآن فيما زعم العبرانيون أنه من التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، فيما يتعلق بعزل المرأة أيام طمثها من كل شهر واعتبارها شيئاً نجساً في كل تلك الأيام، لابد من تقديم قرابين إلى الكهان لترسيخ طهارتها فيما بعد!.
وقد عرف كل ذي زاد من الثقافة وذي دراية بتاريخ الأديان، أن هذا اللغو وأمثاله في توراتهم المزعومة متنوع وكثير، وهو ما أقحمه مع الزمن، دجاجلة رجال الدين، المتلاعبون بوحي الله وأحكامه. وهم الذين قال الله عنهم في كتابه الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.}
ولا حاجة لتأكيد ما ذكره الأستاذ النيهوم في هذا الصدد بأكثر من هذه الأسطر.. فإن المسألة من جذورها إلى فروعها خرافة معروفة مشهورة. وليس ثمة اليوم، في بادية الأرض أو حاضرتها، من قد يأخذ بهذه الخرافة أو يلزم نفسه بها، ويقيم المرأة من حياته التي يعيشها، داخل حجر صحي محكم كلما غشيها الطمث!..
ولكن الكاتب تجاوز هذه الحكاية، وعاد إلى الموضوع الذي افتتح مقاله به، وهو حجاب المرأة المسلمة فأكد أن شيئاً من هذا الحجاب الذي ترتديه المرأة المسلمة منذ فجر الإسلام ليس من الإسلام في شيء، وقال : ~وإذا كان الحجاب قد أصبح الآن فريضةً يدعو لها الواعظ علناً بإسم الإسلام، فإن هذه الدعوة ليس مصدرها النص القرآني، بل مصدرها أن الواعظ المسلم يتكلم لغة عبرانية من غير أن يدري} ثم يؤكد أيضاً أن إسلام المسلمين اليوم المتمثل في الفقه الإسلامي إنما بزغ من مدرسة التوراة. فقد قامت اليهودية بانقلاب على لغة القرآن. وأقيم سلطان التوراة حياً في واقع المسلمين بعلم منهم أوبدون علم!..
ويقرر الكاتب أن الفقهاء المسلمين ليسوا إلا جنوداً لترسيخ هذا الإنقلاب، وبسط سلطان اليهودية على الإسلام. فقد عمدوا إلى إبطال صلاة المرأة وصيامها أيام الحيض في فتوى لا تستند إلى نص من القرآن، بل تستند إلى قول التوراة (كل شيء مقدس لا تمس وإلى المقدس لا تحج)...~بل تصاعدت هذه الحرب السماوية ضد المرأة إلى حد جعل مجرد لمس المرأة نجاسة تنقض الوضوء ~ و} إن حجاب المرأة ليس من شريعة من أي نوع، بل منهجاً تربوياً مكتوباً بلغة السحرة } !!
فهل تسمح لي مجلة ~الناقد} وكاتبها الأخ الصادق النيهوم، أن أعلن بجد وصدق أنني لم أعثر على حكم شمولي خطابي، بعيد عنة التفصيل العلمي والضبط المنطقي مغرق في التأثر بالروح العصبية الغاضبة، كهذا الحكم الشمولي العام على الفقه الإسلامي والفقهاء المسلمين؟
R يقول النيهوم : ~ لقد قامت اليهودية بانقلاب على لغة القرآن }
إذن فنصوص القرآن الآمرة للمرأة المسلمة، صراحةً بالحجاب، من مثل قول الله عز وجل: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو أبائهن أو آباء بعولتهن...)
وقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن.....) هذه النصوص ليست إلا تزييفاً يهودياً وأثراً من آثار الإنقلاب اليهودي على لغة القرآن. ولا بد أن يكون بطل هذا التزييف والانقلاب هو محمد عليه الصلاة والسلام. إذ عنه تلقى الصحابة القرآن، وهو لا غيره الذي تلا عليهم هذه النصوص.
ولا ريب أن أبسط مقتضيات المنهج العلمي، يطرح - لتفهم هذا الكلام - أسئلةً كثيرةً :
أولها وأسبقها بداهةً : إذا كانت اليهودية قد قامت بانقلاب على لغة القرآن، فأي قرآن يستشهد به الكاتب في أول مقاله على لغو ما زعمه العبرانيون توراةً، مما تتضمن عزل المرأة أيام طمثها، وكيف يستشهد الكاتب إبطال مزاعم اليهود بقرآن هو – فيما يراه الكاتب _ من زيف اليهود وآثار انقلابهم على لغة القرآن.؟
ثانيها متى وكيف تم هذا الإنقلاب اليهودي على لغة القرآن – وليته قال : على مفاهيمه - وما دور محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تلقى عنه الصحابة مباشرة نصوص القرآن تلقي كتابةً ومشافهة، في هذا الزيف الانقلابي؟ أليس ثمة من مصدر، من مرجع، من أي مستند يستند إليه العقل أو الجنب.
R ويقول الأخ الكاتب: ~ منذ مطلع القرن الهجري الأول، والفقه الإسلامي يتلقى علومه بحماسة كبيرة في مدرسة التوراة } !!...
ألا يحق لنا، باسم البحث العلمي النزيه أن نتسأل : كيف؟.. ومن قال هذا؟..
وما الدليل على أن كلاً من الإمام أحمد، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وأتباعهم جميعاً، كانوا أقطاباً في مدرسة التوراة وطليعة المعلمين فيها؟.. ومن أين لنا أن نعلم ما قد علمه الأخ الكاتب من أن الفتاوي التي كان يصدرها هؤلاء الأئمة، لم تكن صادرةً من القرآن، وإنما من أقوال التوراة؟
لقد درسنا ودرسنا، ما يملؤ قلب كل عربي ومسلم فخراً واعتزازا ًبتاريخنا الحضاري الأغر، الذي مثله هؤلاء الأساطين من علماء الشريعة في القرن الهجري الأول والثاني، وما رأينا باحثاً حراً إلا وينغض الرأس إجلالاً لعلمهم ثم إكباراً لأمانتهم، فإذا كان الحق ما قد اكتشفه لنا هذا الباحث اليوم، من اليهودية الباطنية التي كان يخفيها أؤلئك الفقهاء خلف لثام الإسلام، بل خلف نصوص القرآن وصحاح السنة، أفليس من متطلبات الأمانة العلمية ومقتضيات الغيرة على هذه الأمة أن لا تضل ماضيةً في انخداعها بزيف هؤلاء اليهود المقنعين، وأن يضع لنا السيد النيهوم النقاط على الحروف في بيان تفصيلي لهذه الحقيقة التي ظلت إلى يومنا هذا مخبوءةً في تلافيف الجهل والظلام؟!
وهذا يقتضي أن يخبرنا الأخ الكاتب بآخر الحقائق المكتشفة عن قصة السنة وحقيقتها التي كانت المستند الثاني بعد القرآن لفهم هؤلاء الفقهاء.. إذ من يدري، فلعل الانقلاب اليهودي الذي قام على لغة القرآن، قام في الوقت ذاته على لغة السنة النبوية. بل ما أيسر على المكر اليهودي الذي أفرغ القرآن من مضمونه وصاغه كما يريد، أن يفرغ السنة من محتواها وأن يحكمها بلغة الكهانة والسحر، على حد تعبير الكاتب، وعندئد لا بد أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام هو المتخرج الأول في هذه المدرسة التوراتية، ومن ثم فهو المفتئت الأول على كل من القرآن والسنة اللذين هما مصدر التشريع.
وليثق الكاتب أنني، بحكم كوني واحداً من رواد البحث وطلاب الحقيقة ليس لي من قصد ولا مطمع من خلال هذه الأسئلة، سوى أن يتفضل الكاتب فيبسط لنا الملف العلمي لهذه القضية، ويبسط لنا – بالموازين العلمية طبعاً تفاصيل هذه الحقيقة التي تتلخص في أن كلاً من القرآن والسنة وما تفرع عنهما من تشريع، ليس إلا أوهاماً سحريةً تسربت إلى الإسلام من الفكر العبراني والنصوص التوراتية!..
R ويقول النيهوم: ~ بل تصاعدت هذه الحرب السماوية ضد المرأة إلى حد أن جعل مجرد لمس المرأة نجاسةً تنقض الوضوء } !..
هل لي أن أسأل الأخ الكاتب من أين استخرج اللزوم الذي تصوره ثم نسبه إلى الإسلام، بين نقض الوضوء من لمس المرأة الأجنبية ونجاسة تلك المرأة؟ إن المذهب القائل بوجوب الوضوء من لمس المرأة، يفرض الوضوء على كل من المرأة والرجل معاً، فلماذا لا يستنبط الباحث أن كلاً من الرجل والمرأة إذن نجس، وأن كلا منهما بهذا اللمس قد نجس الآخر؟
بل لقد فرض الإسلام ما هو أكثر، فقد فرض الإغتسال – لا مجرد الوضوء- من اللقاء الجنسي الذي يتم بينهما. وبمقتضى تصور الكاتب فإن هذا الإغتسال إنما اقتضاه الدنس الذي أصاب كلا منهما بمضاجعة الآخر. ولست الآن بصدد تصحيح هذا الوهم العجيب للأخ الكاتب، وإحالته إلى ما يقوله الطب حول الضرورات الداعية لهذا الإغتسال. كل ما في الأمر أنني أسأله اتهم الإسلام – في وضوء أو اغتسال يجب عللى كل من المرأة والرجل معاً- بالحكم على المرأة دون الرجل بالنجاسة؟ أقل ما في الأمر أن بوسع الكاتب أن يعلم أن هذا التشريع ساوى بين الرجل والمرأة في هذا الحكم، إن في الطهارة أو النجاسة.
ولست أرى من فائدة في تذكير الكاتب بأن القرآن هو الذي قال : (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً....) ذلك لأنه أدلى بحكمه المبرم في حق القرآن الذي بأيدينا الآن عندما قال بكل طمأنينة وصراحة: (إن اليهود قامت بانقلاب على لغة القرآن).
ولست أرى من فائدة في تذكير الكاتب بأن القرآن هو الذي قال : (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً....) ذلك لأنه أدلى بحكمه المبرم في حق القرآن الذي بأيدينا الآن عندما قال بكل طمأنينة وصراحة: (إن اليهود قامت بانقلاب على لغة القرآن).
R ويقول الكاتب: ~ تكتشف المرأة المحجبة أن الحياة وراء الحجاب مجرد نوع من الموت العلني في عالم خاو، فارغ عملياً من معنى الحياة.... }
وألتفت بذهني إلى تاريخ المرأة المسلمة وحيلتها منذ فجر الإسلام، بل خلال القرن الهجري الأول التي طغت فيه مدرسة التوراة على الفقه الإسلامي، لأتبين نوع هذا الموت العلني الذي درجها في أكفان الحجاب الذي أمرنا به القرآن، ولأستظهر بعدها عن الحياة العملية... فما رأيتها تختلف عن الرجل في أي نوع من أنواع العمل الفكري أو العلمي أو الجهادي، أو السياسي. لقد كانت المرأة المحجبة تشترك مع الرجل في ميادين القتال والجهاد، وتجلس معه في مجاس الشورى على مستوى كل من الحكم والقضاء، وتسابقه في سبل العلم والمعرفة وارتياد حلقات العلم، وتجلس مجالس التعلم والتعليم، دون أن تتعثر خلال ذلك كله بفضول ثوبها السلبغ الطويل، ودون أن يحجبها عن شيء من ثمار تلك الحياة خمارها المحيط بدائرة وجهها.
ترى من أين يستقي الكاتب خياله هذا، وأين يمكن أن يعثر باحث مثلي على صورة هذا الواقع المريرللمرأة المتحجبة في عصرالحضارة الإسلامية المثلى؟ بل ما هو وجه اللزوم المنطقي بين نوع الثياب الذي ترتديه المرأة ومسألة الموت والحياة والإشتراك أو عدم الإشتراك في شؤون الحياة ومسؤولياتها.
بل إنني لأتسأل بحق : ماوجه الصلة اللزومية بين تجمل المرأة في عريها ومن خلال إبراز مغرياتها، وبين أن تكون من جراء ذلك ذات نشاط علمي واجتماعي وأثر إيجابي في ميادين الحياة العلمية؟..إن في أطراف بلادنا العربية نساءً ما تألو الواحدة منهن أن تغمس جسمها غمساً في الزينة وأسبابها، وأن تتحرر من ضوابط الحجاب الإسلامي إلى أقصى الطرف الآخر، دون أن يكسبهن ذلك قيمةً ثقافيةً أو يدفعهن إلى أي نشاط علمي أو اجتماعي، بل إن ةإحداهن تتقلب في عزلة نفسية وعملية عن سائر الميادين الإجتماعية والحضارية التي فرضت المرأة المسلمة المتحجبة وجودها فيها إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، وفي عهدها الإسلامي المقبل. وفي جامعات دمشق فتيات يفتخرن بأزيائهن الإسلامية المتعففة، يتبوأن أعلى درجات النجاح العلمي، ويفرضن وجودهن في أدق المراكز العلمية والإجتماعية والتربوية والتقنية ، دون أن يضيق عليهن الحجاب الإسلامي أي سبيل إلى تلك المراكز؟!
فهل لي أن أعود وأسأل الأخ الكاتب مرةً أخرى عن أي مصداق تاريخي لهذا الموت الذي فرضه الحجاب الإسلامي على المرأة، ثم عن العلاقة اللزومية بين ثياب العفة والستر، والتخلف العلمي والاجتماعي.
وأخيراً فإنه لشيء يحيرني حقاً أن أسمع من يقول بأن اليهود هم الذين يروجون للحجاب الإسلامي، ويدعون الفتاة المسلمة إلى أن تخفي من مغرياتها وزينتها، وتستبدل بها ثياب العفة والصيانة والطهر، ولم يقف الأمر بهم – أي باليهود – عند هذا الحد، بل اقتحموا القرآن فأجروا انقلاباً في لغته وصياغته، وفرضوا سلطانهم السحري على علماء الإسلام وفقهائه، كل ذلك في سبيل أن تلتزم المرأة المسلمة بمزيد من الصيانة والستر!!
إذن فلماذا يمعن يهودي مثل ~ برنارد لويس } في تسخيف الحجاب الإسلامي والحكم عليه بأنه تخلف وجمود وأداة تعويق عن اللحاق بركب الحضارة..؟!..
من يدري فربما جاء الجواب : إن برنارد لويس مسلم يتخفى في مظهر يهودي كما أن أئمة العفة في القرن الأول الهجري كانوا يهوداً يتخفون بمظهر الإسلام !!. ولعل هذا إذن هو السر!!..
* لم تقم مجلة ~ الناقد} بنشر هذا الرد، إنما نُشر الرد فى كتاب ~هذه مشكلاتهم} للشيخ البوطى.
* نص مقال ~ سر وراء الحجاب} موجود فى كتاب الصادق النيهوم ~الإسلام فى الأسر} صفحات 111-117
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق