أتحف د. إبراهيم أحمد المهدوي عضو هيأة التدريس بقسم المكتبات في جامعة قاريونس، المكتبة التاريخية العربية و الليبية على وجه الخصوص بإصدار جديد البسه ثوبا عربيا بدلا من ثوبه الإيطالي، تمثل في ترجمته لكتاب الأب فرانشيسكو روفيري الذي صدر مرقونا على الآلة الكاتبة في بنغازي عام 1961.
وقد عَنوَنَ ترجمته بـ(عرض للوقائع التاريخية البرقاوية، التاريخ الكرونولوجي لبرقة 1551-1911) التي صدرت مؤخرا عن منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، ضمن سلسلة الدراسات المترجمة رقم 42، في طبعة أنيقة بلغ عدد صفحاتها 222 بحجم 24×17 سم، وللكتاب أهمية خاصة لأنه يعرض الوقائع التاريخية للجزء الشرقي من ليبيا (برقة) خلال العهد العثماني/ التركي، وتبرز أهميته بسبب قلة الدراسات و المعلومات التاريخية عن هذه الفترة المتمثلة في شذرات مبعثرة في بطون بعض الكتب الأجنبية، وقد استطاع روفيري أن يدون المعلومات التي جمعها عن تاريخ برقة من مصادر ووثائق غير متداولة أبرزها أرشيف القنصلية الفرنسية في بنغازي، ووثائق البعثة الفرنشيسكانية في برقة، وأرشيف المندوبية البابوبية في بنغازي المحتوي على مراسلات مندوبي القناصل الأجانب في بنغازي مع الحكومة العثمانية، ومن هنا جاء تميز هذا العمل باطلاعه على مصادر نادرة و غير مسبوقة عند كتابته لتلك الحوليات، وتلك المصادر قدمت معلومات دونت من قبل جهات محايدة إلى حد ما كانت شاهدا عيان على الكثير من الأحداث، ومن هنا جاءت أهمية الكتاب و ما حواه من معلومات تعد مصدرا لا غنى عنه لتاريخ برقة في العصر العثماني، وعلى الرغم من صدور هذا المرجع منذ عام 1961، إلا أنه لم يستفد منه بشكل كبير بسبب لغته الإيطالية و عدم انتشاره فهو مرقون على الآلة الكاتبة ولم تطبع منه كميات كبيرة.
ولعل أ. محمد مصطفى بازامه (رحمه الله) يعد من أوائل الذين عرّفوا بهذا الكتاب و استفادوا منه أيما استفادة في كتابه بنغازي متصرفلك بأجزائه الثلاثة بل أن من دواعي تأليف أ. بازامه لكتابه اطلاعه على كتاب روفيري و قد أشار إلى ذلك في مقدمته لكتابه المشار إليه، و يمكن الاطلاع على الكثير مما جاء في كتاب روفيري في ثنايا كتاب بنغازي متصرفلك بعد نقد و تمحيص أ. بازامه وتقييمه لكثير من المعلومات التي دونها روفيري و تصحيحه بعضها.
وترجمة د. المهدوي لهذا الكتاب العتيد يعد إضافة مهمة مكنت الباحثين من الاطلاع على الكتاب في لغة عربية بترجمته الأمينة والدقيقة للوقائع البرقاوية التي انتهج مؤلفه في سردها نظام الحوليات أو التسلسل الزمني إذ يذكر السنة ويسرد أهم الأحداث التي وقعت بها وتيسر الحصول عليها، وفي هذا الصدد هناك الكثير من السنوات شحت المصادر التي اعتمد عليها في تقديم وقائع تلك السنوات، ومما يجدر ذكره أن الحوليات تبدأ فعليا بعام 1620 على الرغم من عنوان الكتاب يذكر أن مجاله الزمني يبدأ منذ عام 1551 وهي السنة التي بدأ فيها العهد العثماني في طرابلس، وهذا خطأ من المؤلف وجب التنبيه عليه و عذره في الوقت ذاته بسبب عدم توفر أية معلومات تاريخية تسبق عام 1620، كما أن العنوان يذكر عام 1911 نهاية المجال الزمني للكتاب وقد جاءت وقائع هذه السنة مختصرة للغاية و ذكرت وقائع عام 1911 قبل وقائع عام 1908 و يبدو هذا خطأ طباعي. ومما تجدر الإشارة إليه أن المعلومات التي يقدمها هذا الكتاب قد تندرج تحت تسمية الكشكول التاريخي فهو يسجل المعلومات التي وجدت موثقة في الوثائق المشار إليها أعلاه بدون تبويب أو تصنيف وبدون غربلة تلك المعلومات التي تتلخص في ذكر الأعمال البنائية و الإنشائية التي حدثت في بنغازي و المدن البرقاوية الأخرى أهمها بناء المساجد وترميمها والأعمال المدنية الأخرى، والمعلومات الواردة في هذا الشأن تعد وثيقة لا غنى عنها لدارسي التطور المعماري لمدينة بنغازي و مبانيها، والكتاب كثيراً ما يستعرض الأحوال الصحية للمدن البرقاوية من خلال التعرض للأوبئة التي أصابت سكان المدن وبعض الإجراءات التي اتخذت حيالها، ومن ثم فهو سجل لتاريخ الوضع الصحي للإقليم في العصر العثماني، كما أن الكتاب يعرض تاريخ زيارة بعض الرحالة إلى برقة و بعض أعمالهم، وقد أخطأ روفيري في تاريخ زيارة بعض أولئك الرحالة ـ مثلا لا حصرا ـ تاريخ زيارة جيمس بروس ضمن وقائع عام 1750 والصحيح أن زيارته كانت عام 1766، كما ذكر خطأ وفاة الرحالة هانريش بارث أثناء رحلته الأولى (1845-1846) عبر ساحل شمال أفريقيا ضمن وقائع عام 1845، وزيارة الرحالة هاملتون كانت عام 1852 و ليست عام 1850، كما أن الكتاب يستعرض الكثير من الحوادث السياسية منها تولي الحكام الأتراك لمناصبهم و أهم أعمالهم وطرق جبايتهم للعشور و الضرائب (الميري) من القبائل الليبية المنتشرة في البوادي.
يؤرخ روفيري لوقائع القبائل القاطنة حول بنغازي و في عموم برقة متتبعا حركتها بين فيافي البادية و الصراع الدموي الذي يطرأ من حين إلى آخر بين بعضها البعض، إضافة إلى خروج بعضها عن عصا الطاعة العثمانية وما تولد عنه من حملات عسكرية ضدهم أشار إليها روفيري في ثنايا وقائعه، كما رصد الحركة التجارية في المدينة من حيث الصادرات و الواردات و حركة الميناء كقدوم بعض السفن التجارية وما تحمله من مؤن لاسيما ميناء بنغازي، كما رصد الكثير من الوقائع المحلية التي حدثت في مدينة بنغازي مثل واقعة نزاع بين صقلي بائع خمور و أحد الزنوج بالمدينة و ما نتج عنها من مشكلة كبيرة في المدينة أدت في النهاية بالقناصل إلى منع رعاياهم بيع الخمور لأنها كانت تسبب الكثير من المشاكل، إضافة إلى جنوح بعض السفن إلى الشاطئ وموقف الأهالي منها،و مجيء القبائل إلى بنغازي لتقديم ولاء الطاعة لكل حاكم تركي جديد وحصولهم على البرنوس التركي، كما يؤرخ لوفاة بعض الشخصيات المهمة في المدينة مثل وفاة الحاج رمضان الكيخيا في 30/5/1833، ووفاة أبوبكر بوحدّوث زعيم قبيلة البراعصة عام 1870، و اهتم روفيري بعرض جملة من الوقائع عن المسيحيين وشؤونهم مع الطوائف المختلفة واهتم بطائفته الفرنشيسكانية على وجه الخصوص.
ولم يقتصر الكتاب على تلك الوقائع ولكن روفيري أضاف إليها ملحقا شارحا لبعض الأمور التي رأى أنها بحاجة إلى تعليق وافٍ فأسهب في الحديث عن الإنكشارية، والصراعات القبلية بين القبائل لاسيما ما يعرف بتجريدة حبيب، وعرّف ببعض المرابطين من بينهم سيدي خريبيش و سيدي غازي و سيدي رافع و غيرهم،، وقد قام في مقدمة كتابه بوضع قائمة لحكام برقة منذ عام 1863 إلى 1911 أرفقها بسرد ملخص عن بعضهم مثل خليل باشا و رشيد باشا و طاهر باشا، إضافة إلى مقتطفات عن النظام الإداري لبرقة وطريقة جباية الضرائب ومن كان مسئولا عنها من قبل بعض الأسر الليبية، وأشار إلى الوظائف الحكومية وتدرجها ومهام كل موظف يتولى أحد تلك المناصب، وقد أضاف المترجم مسردا بحكام برقة منذ عام 1638 إلى 1911،و كشافا للأعلام والأماكن يساعد القارئ على التجول في الكتاب، كما أن الصور الملحقة بالكتاب تعد إضافة مفيدة من المترجم.
ومما تقدم فالكتاب يحوي بين دفتيه معلومات متنوعة عن إقليم برقة ذات طابع سياسي و اقتصادي وعمراني و ديني ويحوي أخبارا محلية وبعض المتفرقات الأخرى،إذاً فهو كتاب جدير بالقراءة بفضل ترجمة د. المهدوي لوقائعه الممتعة والمفيدة للمهتمين بتاريخ إقليم برقة و لاسيما مدينة بنغازي العريقة، تحية للدكتور إبراهيم المهدوي لاهتمامه بترجمة العديد من الكتب الإيطالية و الإنجليزية المهتمة بتاريخ ليبيا وحضارتها، وتحية لمركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية لإسهامه في أحياء التاريخ الليبي بإصدارته المتنوعة.
29 أبريل 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق