تمهيد
اعتادت اليهودية الصهيونية وكيانها إسرائيل على اغتصاب التاريخ وتطويع وقائعه وأحداثه ومعطياته لخدمة أغراضها السياسية وكذلك على تشويهه ولي عنقه والباسه ثوب الأساطير والخرافات التوراتية لتجعل منها ديناً قائماً بحد ذاته. ومن هنا وليس غريباً ولا مستغرباً أن يعملا بكل ما أوتيا من قوة على تزوير التاريخ بما يتيح لهما تبرير احتلال الأرض العربية، والتشبث بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لها، وعليه فان اليهودية الصهيونية واسرائيل لا تتحدثان عن (اقامة اسرائيل)، بل عن (اعادة بناء الدولة اليهودية). كما لا تتحدثان عن (السيادة على أرض الميعاد/ فلسطين وعاصمتها القدس) وانما عن (استئناف السيادة عليها) المقطوعة لأسباب خارجة عن ارادة اليهود ولخطأ رباني - والعياذ بالله - مما يتقولون على الله سبحانه وتعالى.
المزاعم اليهودية الصهيونية حول مكانة القدس في الاسلام
اذن لما كان التاريخ والدين (الأساطير التوراتية) ركنين أساسيين في البناء العقائدي اليهودي الصهيوني، وكذلك في الاستراتيجية اليهودية الصهيونية، والسياسة الاسرائيلية نظرياً وعملياً، فيغدو مفهوماً لماذا تصر اليهودية الصهيونية، وكيانها اسرائيل على امطار العالم بسيل من المزاعم والادعاءات والأساطير الدينية التي تحاول من خلالها ان تبرهن للعالم بأن اليهود أصحاب حق ديني وتاريخي في فلسطين، وفي القدس عاصمة موحدة وأبدية لهم، وعدم أحقية غيرهم أي العرب والمسلمون بهذه الأرض مع أن العرب هم أول من سكنها. وهم الذين بنوا القدس ومنهم اتخذت اسمها وذلك قبل خمسة آلاف عام ونيف.
ولكن ما المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية التي ينطلقون منها في عدم أحقية العرب والمسلمين بالقدس؟ تستند المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية الى الطروحات الآتية:
أولاً: عدم أهمية القدس للمسلمين العرب في أي زمن من الأزمان بدليل ان العرب لم يتخذوا منها عاصمة لهم.
ثانياً: ان اهتمام المسلمين بالقدس نابع من تأثير من اعتنقوا الاسلام وحملوا ذلك الاهتمام ومنهم الى الاسلام. بمعنى ان اهتمام المسلمين بالقدس نتيجة لتأثير العنصر اليهودي في الاسلام.
ثالثاً: ان اهتمام المسلمين بالقدس ذو طابع وثني بمعنى ان اهميتها النسبية لديهم متأتية من تقديسهم للصخرة، الأمر الذي يفسر عدم تحرر المسلمين العرب من تأثير عبادة الأوثان حتى بعد مضي أكثر من 1400 عام على دخولهم في الاسلام.
مكانة القدس في العقيدة الاسلامية
ولكن الى أي مدى تصمد تلك الافتراءات اليهودية الصهيونية، والمزاعم الاسرائيلية في مواجهة حقائق التراث الروحي الاسلامي؟ ومعطيات التاريخ العربي الاسلامي؟
تقوم مكانة القدس في العقيدة الاسلامية على ثلاثة أصول عقائدية مترابطة عضوياً هي :
أولاً: القدس مدينة الأنبياء
تستند العقيدة الاسلامية في أصولها إلى الايمان المطلق بالرسل والأنبياء والرسالات السماوية بدليل قوله سبحانه وتعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
كما أن الإسلام جاء مصدقاً للرسالات السماوية التي سبقته .. اذ يقول سبحانه وتعالى في هذا السياق: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالانْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران:3-4). وقوله تعالى كذلك: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48). وقوله سبحانه وتعالى مقرراً وكاشفاً لحقيقة قائمة: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).
ان الاستشهاد فيما تقدم من آيات قرآنية كريمة يأتي في اطار التدليل على أن العديد من الأنبياء والرسل ممن وردت أسماؤهم بالنص قد أقاموا في القدس أو كانت لهم صلة بها بشكل أو بآخر ومنهم: ابراهيم، ويعقوب، واسحق، وعيسى، ويحيى، وزكريا، وصالح، وغيرهم صلوات الله عليهم جميعاً. لا بل هناك روايات تاريخية قديمة متوارثة تذهب الى ما هو أبعد من ذلك اذ تتحدث عن صلة بين القدس وبين آدم ونوح وسام بن نوح.
ومما يعزز ارتباط القدس والمسجد الأقصى بالأنبياء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طبقاً لما جاء في الأثر: ~بيت المقدس بنته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعمرته، وما فيه موضع شبر الا وقد سجد عليه ملك}. وكذلك قول مقاتل بن سليمان ~ما في موضع شبر الا وقد صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه ملك مقرب}.
ثانياً: القدس مدينة الاسراء والمعراج
أهمية الاسراء انها ربطت ربطاً عقائدياً لا انفصام له بين مكة المكرمة حيث المسجد الحرام وبيت القدس حيث المسجد الأقصى. هذا الحدث الروحي العظيم خلده القرآن الكريم في مطلع سورة الاسراء بقوله سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الاسراء:1) وتزداد مكانة القدس في العقيدة الاسلامية رسوخاً ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أم فيها بالملائكة والأنبياء. فقد روي عن قصة الاسراء: (ان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وقف البراق في الموقف الذي كان يقف فيه الأنبياء من قبل قال: ثم دخل جبريل أمامه فأذن جبريل ونزل ملائكة من السماء، وحشر الله المرسلين ثم اقام الصلاة، وصلى النبي صلى الله علية وسلم بالملائكة والمرسلين.
كما تروي كتب التفسير بان الآية الكريمة (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45)، قد نزلت في بيت المقدس ليلة الاسراء. كما روي عن ابي امامة الباهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ~أنزلت علي النبوة في ثلاث أمكنة بمكة والمدينة والشام}. حديث صحيح
ويرى علماء المسلمين أن حادثة الاسراء والمعراج قد حصلت في مرحلة مبكرة من البعثة النبوية الشريفة على اختلاف الاجتهادات بشأن تاريخها. اذ يقول البعض بأنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، بينما يرى البعض الآخر بأنها وقعت قبل سنة واحدة من الهجرة وآخرون قبل خمس سنوات. دليل على أن مكانتها في العقيدة الاسلامية تعود لفترة مبكرة من ظهور العقيدة الإسلامية.
ثالثاً: القدس قبلة المسلمين الأولى
مما لا شك فيه أن القدس كانت قبلة المسلمين الأولى. وظلت على مدى ستة عشر أو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهراً بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى المدينة القبلة التي توجه اليها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل التحول الى مكة بأمر رباني في السنة الثانية من الهجرة بدليل قوله تعالى : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144). واذا ما عرف المرء أن بيت المقدس كانت قبلة المسلمين منذ أن فرض الله الصلاة على المسلمين عام 610 م وحتى 623 م، أي السنة الثانية للهجرة فيكون مجموع سنوات توجه المسلمين في صلواتهم الى بيت المقدس ثلاثة عشر عاماً.
فضائل بيت المقدس
واستناداً الى هذه الأصول العقيدية والمرتكزات الروحية لمكانة القدس في العقيدة الاسلامية ترتبت فضائل كثيرة لبيت المقدس. فما هي يا ترى تلك الفضائل؟
يمكن تلخيص تلك الفضائل بالاستناد الى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بالآتي:
أولاً: فضل الاقامة والسكن في بيت المقدس وزيارتها
وهو ما دعا اليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة منها ما روي عن ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ~نعم المسكن بيت المقدس} وحديث رواه مكحول: ~من زار بيت المقدس شوقاً اليه دخل الجنة}. زد على ذلك أن المسلمين سيهاجرون في نهاية الزمان الى بيت المقدس. ففي حديث رواه ابن الفقيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ~ستهاجرون هجرة الى مهاجر ابراهيم، أي بيت المقدس}. وعن ابن جريح عن عطاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ~لا تقوم الساعة حتى يسوق الله خيار عباده الى بيت المقدس والى الأرض المقدسة، فيسكنهم اياها}. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ~لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد الأقصى، ومسجدي هذا}. حديث صحيح.
ثانياً: الربط بين مكة والمدينة وبيت المقدس
~لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد ..} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر أنه قال: ~قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة}.
ثالثاً: فضل الإهلال بالحج والعمرة من بيت المقدس
ومن الأحاديث في هذا الخصوص ما روته أم مسلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ~من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة}.
رابعاً: فضل الصلاة في بيت المقدس
يمكن القول بأن فضل الصلاة في المسجد الأقصى تتراوح استناداً الى الأحاديث النبوية الشريفة ما بين ألف صلاة الى خمسين ألف صلاة. كما أن الصلاة في بيت المقدس تطهر الانسان من الذنوب فيخرج الانسان كما ولدته أمه : ففي هذا الخصوص روي عن مكحول حديث جاء فيه: ~ان من صلى في بيت المقدس … خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه}. وعن قتادة عن أنس: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ~ومن صلى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة كل صلاة أربع ركعات يقرأ في الخمس صلوات عشرة آلاف مرة ~قل هو الله أحد} فقد اشترى نفسه من الله تبارك وتعالى ليس للنار عليه سلطان}.
خامساً: وهناك فضائل أخرى
وردت في الأحاديث النبوية الشريفة منها فضل الصدقة في بيت المقدس، فضل الصيام، فضل الآذان، فضل الدفن في بيت المقدس، وفضل عدم دخول الدجال اليها، وفضل ظهور المهدي في بيت المقدس، وبيت المقدس وأكناف بيت المقدس هو مكان الطائفة التي على حق، ومضاعفة الحسنات والسيئات في بيت المقدس، وفضل صخرة بيت المقدس.
نقلا عن موقع اللجنة الملكية لشؤون القدس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق