الجمعة، يونيو 29، 2012

العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في العالم العربي.... د. رضوان زيادة*

 ~ كيف نحوّل الأخطاء البشرية عدلا بشرياً...}  كتابة خُطَّت على حائط منزل رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو في مدينة كيب تاون.

تشير العدالة الانتقالية إلى حقل من النشاط أو التحقيق يركز على اﻟﻤﺠتمعات التي تمتلك إرثًا كبيرًا من انتهاكات حقوق الإنسان، الإبادة الجماعية، أو أشكال أخرى من الانتهاكات تشمل الجرائم ضد الإنسانية، أو الحرب الأهلية ، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن .
يمكن إدراك المفهوم من خلال عدد من المصطلحات التي تدخل ضمنه من مثل إعادة البناء الاجتماعي، المصالحة الوطنية، تأسيس لجان الحقيقة، التعويض للضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة التي غالبًا ما ترتبط ﻬا الشبهات أثناء النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة مثل الشرطة وقوى الأمن والجيش.
يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، ولكن المعنى الدلالي الأدق للمفهوم يعني: تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر ﻬا دولٌة من الدول كما حصل في تشيلي 1990 وغواتيمالا 1994 وجنوب أفريقيا 1994 وبولندا 1997 وسيراليون  1999 وتيمور الشرقية 2001 والمغرب 2004.
فمع حدوث التحول السياسي بعد فترة من العنف أو القمع في مجتمع من اﻟﻤﺠتمعات.  يجد اﻟﻤﺠتمع نفسه في كثير من الأحيان أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ولذلك تسعى الدولة إلى التعامل مع جرائم الماضي رغبًة منها في تعزيز العدالة والسلام والمصالحة، ولذلك يفكر المسؤولون الحكوميون ونشطاء المنظمات غير الحكومية في انتهاج مختلف السبل القضائية وغير القضائية للتصدي لجرائم حقوق الإنسان، وتستخدم في ذلك عدة مناهج من أجل تحقيق إحساس بالعدالة أكثر شمولا وأبعد أثرًا. من مثل إقامة الدعاوى القضائية على مرتكبي الانتهاكات من الأفراد، كما حدث في كوسوفو. أو إرساء مبادرات لتقصي الحقائق لمعالجة انتهاكات الماضي، كما حصل في سيراليون. أو تقديم التعويضات لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، كما حدث في المغرب، أو التمهيد لعمليات المصالحة في اﻟﻤﺠتمعات المنقسمة على نفسها، كما حدث في تيمور الشرقية وعدد من دول أمريكا اللاتينية.
ويرجع تزايد الاهتمام بإقرار العدالة في حالات الانتهاكات الجسيمة بعد انتهاء الصراعات إلى عدة عوامل، يوجزها نيل كيرتز المتخصص بقضايا العدالة الانتقالية فيما يلي :


§   تغير طبيعة وسائط الإعلام الإخبارية في أنحاء العالم. ففي الوقت الذي يكون من المرجح فيه أن تشاهد الفظائع التي ترتكب في مكان ما وتنقل إلى كافة أنحاء العالم، يكون منتظرًا من حكومة ذلك البلد أن ترد بصورة ما (على الأقل بدرجة أكبر مما كان عليه الحال في أي فترة سابقة في التاريخ). ويصح ذلك على الأقل بالنسبة للحكومات الأجنبية والهيئات الدولية، التي تتعرض لضغوط متزايدة لإقرار المساءلة عند نقل أنباء الفظائع الواسعة النطاق بصورة حية ووافية في وقت حدوثها تقريبًا .
§    النمو في حجم وتأثير دوائر حقوق الإنسان بصفة خاصة، وقطاع المنظمات غير الحكومية بوجهٍ عام، مما أنشأ ضغطًا جديدًا من أجل مواجهة مسألتي العدالة والمساءلة، ومع بروز صوت هذه المنظمات في مناقشة السياسات العامة لم تعد تستطع الحكومات حجب هذه المسائل عن النقاش، حتى عندما تتغافل وسائل الإعلام عن هذه القضايا فإن هذه المنظمات أصبحت قادرة ومن خلال شبكة الانترنت نشر هذه المعلومات وإتاحتها للعموم، بل إن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يرجع، في جزءٍ كبير منه، إلى تلاقي هذه القوى غير الحكومية الجديدة .
§   أصبح القانون الدولي واضحًا بصورة متزايدة أنه فيما يتعلق بجرائم الإبادة، أو جرائم الحرب، أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، أو التعذيب ،يحظر إصدار عفو شامل، وأن الحكومات يقع عليها التزام قاطع بالتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها.
§   تغير طبيعة الحرب، فبحلول ﻬاية القرن الماضي كان ما لا يقل عن 93 في المائة من الصراعات العنيفة في أنحاء العالم لا يدور بين الدول، وإنما داخل الدول، ولما كانت هذه الصراعات غالبًا ما تترافق مع انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، فإن ذلك حتّم الوصول إلى شكل من أشكال تطبيق العدالة بين الأطراف من أجل ضمان الاستقرار في المستقبل.
§   إن الزيادة في تواتر الصراعات داخل الدول قد واكبها توسع ملحوظ في استهداف المدنيين كتكتيك في خوض هذه الحرب، وهو ما لوحظ في زيادة الانتهاكات الواسعة النطاق للقانون الدولي الإنساني في المعارك التي دارت رحاها في معظم القارات. وهذا الاستهداف المتعمد للمدنيين، الذي يرمي إلى زرع الخوف وإجبار اﻟﻤﺠتمعات المحلية المستهدفة على التعاون، وتشريد السكان، أو السيطرة على مناطق من الأرض، أو تعزيز مصالح جماعة عرقية أو دينية أو سياسية بعينها، أو تحقيق مزايا لقوة عسكرية أضعف تخوض صراعًا ضد الدولة بقواﻬا وأسلحتها الأقوى بصورة طاغية، كل ذلك أثار اهتمامًا واسعًا بإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء الصراعات كوسيلة للمعاقبة على هذا السلوك وتطهير البيئة التي تنشأ بعد انتهاء الصراع من أي ميل للعودة إلى مثل هذا السلوك.
كل ذلك شجع على القول إن أنماط تطبيق العدالة وتحقيقها تزداد يومًا بعد يوم ، فالمحاكم الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ورواندا ودارفور والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان،والأنواع الجديدة من المحاكم الدولية والوطنية المنشأة لمحاكمة جرائم الحرب ،واتساع قائمة البلدان التي تمارس الولاية القضائية العالمية على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في بلدان أخرى ،ثم والأهم من ذلك ،إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ،هي جميعها أدلة وافية على هذه المرحلة الجديدة من البحث عن العدالة الدولية .
مناهج العدالة الانتقالية
إن تطبيق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من الإعقاب التي سمحت بارتكاب الانتهاكات، يعطي إحساسًا بالأمان للضحايا ويوجه تحذيرًا لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل. كما أﻬا تعطي قدرًا من الإنصاف لمعاناة الضحايا، وتساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية (أو القصاص: أي أن يقتص الناس لأنفسهم بأنفسهم). كما أنه تتيح فرصة هامة لتوطيد مصداقية النظام القضائي الذي أصابه الفساد والدمار، أو الذي لم يكن يعمل على نحو سليم فيما مضى. ويمكن تحقيق ذلك عبر عدد من المناهج أو الإجراءات :
1ـ تقصي الحقائق :
بدأت الأطراف الفاعلة المحلية في عدد متزايد من البلدان في التأكيد على التدابير غير القضائية لتقصي الحقائق، التي كثيرًا ما تأخذ صورة ~ لجان الحقيقة } ، وهي لجان تقوم بتحقيقات رسمية في أنماط الانتهاكات التي وقعت في الماضي لوضع سجل تاريخي دقيق لما وقع من الأحداث، كما في حدث في عدد من البلدان مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، وغواتيمالا، وجنوب إفريقيا، وبيرو، وسيراليون، والمغرب.
ويعتبر إنشاء لجان الحقيقة تحديًا كبيرًا، لأن من شأﻬا أن تعمل على إنشاء أجهزة تحقيق قوية لكشف كل الحقائق المتعلقة بالعنف الذي ترتكبه جهات تابعة للدولة أو جهات غير تابعة لها. والتي كثيرًا ما تتعرض للإنكار أو الإخفاء أو سوء الفهم، ولذلك يعد التعلم من دروس الماضي درسًا بالغ الأهمية، وكما يقول الكاتب الأمريكي فوكنر~ الماضي ليس ما ضيًا أبدًا ،إنه يعيش بيننا }. فلابد من التعلم من الماضي من اجل إحداث التغيير اللازم لمنع وقوع الانتهاكات في المستقبل، والاعتراف بالضحايا وما كابدوه من المحن .
لكن إنشاء اللجان يجب أن لا يتم إلا بعد تشاور وطني موسع، وتحديد صلاحيات مناسبة للجنة، ووجود التزام سياسي واضح يسمح بالتحقيق المستقل والفعال، كما أنه عند السعي لمحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في الماضي، يجب بذل جهود قوية وجادة لإقامة الدعاوى القضائية ـ بما في ذلك تدعيم نظم المحاكم المحلية ـ ويجب إيلاء نفس القدر من الاهتمام والأولوية للتدابير اللازمة لمنع الانتهاكات في المستقبل .
ويخلط الكثير من المراقبين ما بين لجان الحقيقة والمحاكم، وذلك لأن لجان الحقيقة تتناول العديد من الوقائع التي يمكن لها أن تكون موضوعًا للمحاكمة، إلا أنه ينبغي أن لا نساوي بين لجان الحقيقة والهيئات القضائية أو أن تعتبر بديلا عن المحاكمات، إن لجان الحقيقة هي هيئات غير قضائية ولهذا فصلاحياﻬا بالطبع هي أقل بكثير من سلطات المحاكم، فليس لها سلطة السجن، وليس لها سلطة إنفاذ توصياﻬا، بل إن معظمها يفتقر حتى إلى سلطة إلزام أي شخص بالمثول أمامها.
وقد أقامت عدد من الحكومات ~ لجانًا تاريخية }، وهي آليات حالية للتحقيق في انتهاكات الدولة التي وقعت وانتهت منذ سنوات أو حتى عقود عديدة، وعلى عكس لجان الحقيقة لا تتأسس اللجان التاريخية كجزء من عملية تحول سياسي، بل وقد تكون مقطوعة الصلة بالقيادة السياسية أو الممارسات السياسية القائمة. فبدلا من ذلك تعمل اللجان على تجلية الحقائق التاريخية وتكريم الضحايا الذين لم تعترف ﻬم أو بذريتهم. وهناك وجه آخر من وجوه المفارقة هو أن اللجان التاريخية بوجه عام، هى عكس لجان الحقيقة، لم تحقق في وقائع القمع السياسي الواسع، بل ركزت على ممارسات قد تكون أضرت بجماعة عرقية أو عنصرية أو أية مجموعة أخرى بعينها، ومن أمثلة هذه اللجان ~ لجنة الولايات المتحدة حول إعادة التوطين زمن الحرب واحتجاز المدنيين } و ~ اللجنة الملكية الكندية المعنية بالسكان الأصليين }.
وهناك عدد كبير من المشروعات غير الحكومية التي وثقت، مثل لجان الحقيقة، الانتهاكات والتعديات التي ارتكبها النظام السابق، وغالبًا ما جرى ذلك في ظل مخاطر جمة على الأنفس والأرواح، وعادة ما تقوم ﻬذه المشروعات منظمات حقوق الإنسان الوطنية، وقد خرجت في بعض الأحيان بنتائج مبهرة، ومن الأمثلة البارزة على ذلك، عمل منظمات من مثل ~ هيئة السلام والعدالة في أمريكا اللاتينية }.
يشير، إذًا، مصطلح ~ لجنة الحقيقة } بصفة عامة إلى هيئات تشترك في السمات التالية :
§   هيئات مؤقتة، غالبًا ما تعمل لمدة عام أو عامين.
§  هيئات معترف ﻬا رسميًا مفوضة من قبل الدولة وتستمد صلاحياﻬا منها، وفي بعض الأحيان من المعارضة المسلحة بالإضافة إلى الدولة، أو ينص عليها في اتفاقية سلام .
§   هيئات غير قضائية تتمتع بقدر من الاستقلال القانوني .
§  عادة ما تنشأ في غمار عملية تحول وانتقال ،إما من الحرب إلى السلام أو من الحكم التسلطي إلى الديمقراطي .
§  تصب اهتمامها على الماضي .
§  تحقق في أنماط التعديات وانتهاكات معينة ارتكبت على مدار فترة من الزمن لا في حدث واحد بعينه.
§  تكمل عملها بتقديم تقرير ﻬائي يضم استنتاجاﻬا وتوصياﻬا .
§  تركز على انتهاكات حقوق الإنسان وفي بعض الأحيان على المعايير الإنسانية كذلك.
وقد تأسس منذ عام 1974 وحتى الآن ما يزيد على 26 لجنة حقيقة رسمية في العالم برغم ما أطلق عليها من مسميات مختلفة. ففي الأرجنتين وأوغندا وسيريلانكا أنشئت ~ لجان خاصة بالمختفين }، وفي هاييتي والإكوادور أنشئت ~ لجان الحقيقة والعدالة } ، وفي تشيلي وجنوب أفريقيا وسيراليون وجمورية يوغسلافيا السابقة ~ لجان الحقيقة والمصالحة } وفي تيمور الشرقية ~ لجنة الاستقبال والحقيقة والمصالحة }، وأحدثها في المغرب ~ هئية الإنصاف والمصالحة }.
يعود إنشاء لجنة الحقيقة إلى الأسباب التالية :
§   إثبات الحقيقة بشان الماضي .
§   محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان .
§   توفر منبرًا عامًا للضحايا .
§    تحفز على النقاش العام وتثريه .
§    توصي بتعويضات للضحايا .
§    توصي بالإصلاحات القانونية والمؤسسية اللازمة .
§   تعزز المصالحة الاجتماعية .
§   تساعد على تعزيز التحول الديمقراطي .
لكن، لابد أن نذكر أن هناك حالات لا تستخدم فيها لجان الحقيقة خوفًا من :
§  التخوف من استمرار أو تجدد العنف أو الحرب .
§  غياب الاهتمام السياسي .
§  الأولويات الأخرى: من مثل تركيز الحكومة على مقومات الحياة وإعادة البناء في أعقاب الدمار الشامل .
§  وجود آليات أو تفضيلات أخرى، كأن تكون الثقافة الوطنية الخاصة تتلافى مواجهة جرائم الماضي، أو أن يكون هناك آليات قائمة في اﻟﻤﺠتمع المحلي يمكن لها أن تستجيب إلى العنف الواقع حديثًا بصورة أفضل.
2 ـ رفع الدعاوى القضائية
تعتبر إقامة العدالة الجنائية عنصرًا أساسيًا من عناصر التصدي المتكامل للانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وإذا كان لابد أن ينصب رفع الدعوى على المتهمين من الأفراد، فينبغي أن ﻬدف برامج إقامة الدعوى أيضًا على استعادة كرامة الضحايا واسترداد ثقة الجمهور في سيادة القانون .
3 ـ عملية التعويض
إن الهدف الأساسي لأي سياسة من سياسات التعويض هو إحقاق العدالة للضحايا. ويجب أن يفهم مصطلح ~ العدالة } في هذا الصدد بشكل واسع بإدماج عناصر الاعتراف بالضحية ورد كرامته وإعادة بناء الثقة بين المواطنين بعضهم البعض، وبين المواطنين ومؤسسات الدولة، وإرساء التضامن الاجتماعي. ولكن عند اختيار سياسة للتعويضات أو إقرارها، يمكن لعدة عوامل أن تؤثر في الاختيارات. ومن بينها: الموارد الاقتصادية المتوفرة والالتزام السياسي (الوطني والدولي)؛ وعدد الضحايا وفئات الضحايا من حيث العرق أو الانتماء الإثني أو الجنس الخ، وحجم التعاطف الاجتماعي مع ضحايا و/أو مرتكبي الأفعال، وسياق النزاع من حيث هل هو حادث جسيم وحيد أم نزاع مزمن دام عدة سنوات، نوع انتهاك حقوق الإنسان الذي تم ارتكابه (مثل، مصادرة الأراضي أو النفي أو الترحيل القسري أو الاعتداء الجسدي) والتزامات وجهود اﻟﻤﺠتمع المدني الوطني والدولي.
وقد اختلف نطاق جهود التعويض الماضية بشكل كبير، من مئات الآلاف (في ألمانيا) إلى 280  فقط في البرازيل. غير أن أحد البرامج قد يكون له نطاق واسع ولكن يفشل رغم ذلك في أن يكون كاملا أو شاملا. وعلى سبيل المثال، تم إقصاء ضحايا التعذيب من نطاق برامج التعويضات في تشيلي. ومن الأفضل بالطبع تعويض أقصى ما يمكن من ضحايا فئات الجرائم/الأضرار ﻬدف توفير استجابة شاملة وكاملة قدر الإمكان.
وأمام الانتشار الواسع لانتهاكات حقوق الإنسان، أصبح لزاما على الحكومات ليس فقط التصدي لمرتكبي هذه التجاوزات بل أيضا ضمان حقوق الضحايا. وبوسع الحكومات أن ﻬييء الظروف الملائمة لصيانة كرامة الضحايا وتحقيق العدل بواسطة التعويض عن بعض ما لحق ﻬم من الضرر والمعاناة. وينطوي مفهوم التعويض على عدة معان من بينها التعويض المباشر (عن الضرر أو ضياع الفرص)، رد الاعتبار (لمساندة الضحايا معنويا وفي حياﻬم اليومية) والاسترجاع (استعادة ما فقد قدر المستطاع)، ويمكن التمييز بين التعويضات بحسب النوع (مادية ومعنوية) والفئة المستهدفة (فردية/جماعية). ويمكن أن يتم التعويض المادي عن طريق منح أموال أو حوافز مادية، كما يمكن أن يشمل تقديم خدمات مجانية أو تفضيلية كالصحة والتعليم والإسكان. أما التعويض المعنوي فيكون مثلا عبر إصدار اعتذار رسمي، أو تكريس مكان عام (مثل متحف أو حديقة أو نصب تذكاري) أو إعلان يوم وطني للذكرى.
أما الأهداف المتوخاة من تدابير التعويض (سواء كانت مادية أو معنوية) فهي عديدة ومتنوعة ومن بينها الإقرار بفضل الضحايا جماعات وأفرادًا، وترسيخ ذكرى الانتهاكات في الذاكرة الجماعية، تشجيع التضامن الاجتماعي مع الضحايا، إعطاء رد ملموس على مطالب رفع الحيف وﻬيئة المناخ الملائم للمصالحة عير استرجاع ثقة الضحايا في الدولة. إضافة إلى أن مبدأ التعويضات أصبح إلزاميا بموجب القانون الدولي.
وبالرغم من اختلاف التزامات كل دولة في تفاصيلها الدقيقة تبعا لاختلاف الاتفاقيات التي صادقت عليها، إلا أننا نلاحظ تنامي التوجه نحو إقرار مبدأ إلزامية تعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالنسبة لكافة الدول. ومما يدعم هذه النظرة القائمة على قانون المعاهدات، ممارسات الدول، والتصريحات الدبلوماسية والاجتهاد القانوني، والدور المتنامي للهيئات المشرفة على احترام المواثيق والمحاكم لدولية. وإذا استعرضنا برامج التعويضات المادية التي نفذﻬا بعض البلدان، نرى أن من بين التجارب التي حظيت باستحسان واسع، تلك التي شهدﻬا الصين والأرجنتين في عقد التسعينيات .
وسواء منحت للضحايا تعويضات مادية أو لم تمنح، من المهم أن تؤخذ بعين الاعتبار كذلك عدد من الأشكال الإضافية والهامة من أشكال تعويض الضحايا. أولا، قد يكون من المهم في بعض السياقات، بالنسبة إلى حكومة جديدة أن تحاول إعادة الحقوق القانونية إلى الضحايا أو ممتلكاﻬم. ومن أمثلة ذلك: إجراءات لمساعدة السكان الذين تم ترحيلهم بالقوة أو الذين سرقت أراضيهم، أو إرجاع حقوق الحرية والمكانة الاجتماعية والجنسية، أو إعادة الإدماج في المناصب السابقة في الوظائف العمومية. وثانيا، قد يكون كذلك من المهم في بعض السياقات وضع برامج خاصة لإعادة تأهيل الضحايا، بما في ذلك المواساة العاطفية والعلاج البدني أو المساعدة الطبية. وثالثا، ثمة مجموعة واسعة من الإجراءات الرمزية لجبر الضرر والتي
يمكن أن تؤخذ كذلك بعين الاعتبار، سواء بالنسبة إلى الضحايا بشكل فردي (مثلا، رسائل شخصية للاعتذار من طرف الحكومات التالية، أو مراسيم دفن ملائمة للضحايا القتلى، الخ) أو الضحايا بصفة عامة (مثلا الاعتراف الرسمي بما جرى من قمع في الماضي، أو تخصيص أماكن عامة وأسماء الشوارع أو رعاية المعارض الخاصة أو الأعمال الفنية أو بناء النصب التذكارية العامة والمآثر والمتاحف الخ).
وتتضمن إجراءات أخرى للعدالة الانتقالية جوانب جبر الضرر وخاصة إظهار الحقيقة (من خلال لجنة الحقيقة أو تحقيقات رسمية أخرى)، وتوفير الظروف التي تمنع تكرار انتهاك حقوق الإنسان (مثل الإصلاح المؤسسي).
إن فوائد الإجراءات الرمزية هي أﻬا نسبيا ممكنة التحقيق، ويمكنها أن تصل إلى فئات واسعة وأن تتبنى تعريفات أوسع للضحية ويمكنها أن تشجع الذاكرة الجماعية والتضامن الاجتماعي. أما السلبيات الكامنة فهي أﻬا لا توفر أي منافع مادية للضحايا. كما أﻬا في غياب إجراءات تعويضية ملموسة أخرى، قد تترك انطباعا مؤلما بأﻬا قدمت كتعويض كامل عن المعاناة التي تم التعرض لها.
هناك عدة دروس تستحق الذكر من جهود تعويض الضحايا على الصعيد العالمي، أولا، ليس هناك شكل واحد باستطاعته ترضيه الضحايا. ونتيجة لذلك، من الأفضل على العموم اختيار وسائل شاملة أو مختلطة تصور الغاية من التعويضات على أﻬا إحقاق للعدالة متعدد الأوجه وشامل. ولا يتضمن ذلك فقط إجراءات التعويض المختلفة المشار إليها أعلاه، ولكن كذلك إظهار الاهتمام بالضحايا مثل المحاكمات الجنائية ولجان الحقيقة. وثانيا، يجب أن تكون إجراءات التعويض سواء من حيث تبريرها أو إعدادها موجهة نحو المستقبل بدلا من أن تكون موجهة نحو الماضي. ومعنى ذلك أﻬا يجب أن ترفع من مستوى حياة الضحايا بأقصى قدر ممكن مع الاعتراف والقبول في الوقت نفسه بأن الترضية الكاملة مستحيلة.  وثالثا، من الأفضل بصفة عامة محاولة إقامة توازن بين الإجراءات الفردية والجماعية مع الأخذ بعين الاعتبار نوع العنف الذي ينبغي جبر ضرره والأمور التي يفضلها الضحايا وحاجياﻬم وكذا أقارﻬم.
وفيما يخص العلاقة بين إجراءات التعويض (ولاسيما إجراءات التعويض المادي) والمصالحة، من المهم الاعتراف أولا بأن الأغلبية الواسعة من سياقات العدالة الانتقالية تتصف بظروف الفقر والعجز المادي. وفي هذه السياقات، إذا منحت التعويضات دون الاستناد إلى مبادئ أو استعملت كشكل من أشكال الرعاية السياسية، فقد تكون كمصدر لإثارة النزاع والانقسام. ولهذا السبب، فعند تعويض الأفراد وبالخصوص تعويض الجماعات، ينبغي توخي الحذر في عدم إثارة التوترات الموجودة من قبل وأن لا يقصى بشكل مجحف أي من الأطراف التي لها حق بديهي في ذلك. ومن شأن غياب تعويض لصالح الجماعات التي لها مطالب مشروعة واضحة أن يعقد جهود المصالحة ويؤدي إلى نوع من المظالم التاريخية. وحتى إن كان برنامج للتعويض يستند بالكامل إلى مبادئ ويتصف بعدم التحيز، فسيكون ثمة دائما خطر وجود انقسام اجتماعي خصوصا عندما تنعدم إجراءات لضمان الحقوق الأساسية لجميع المواطنين (ولاسيما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية).أما من حيث للتعويضات الرمزية، فقد تكون أكثر مدعاة إلى المصالحة عندما تكون ثمرة لعملية تشاور ونقاش عامين وعندما يكون الغرض منها علاج المظالم،وعندما تسعي إلى الإدماج بدلا من الانقسام أو التفاخر.
تحديات التصميم والإدارة:
التعويضات المادية
هناك تحديات كبيرة أخرى تواجه برامج التعويضات المادية ومن بينها ضرورة تحديد أنواع الأضرار الممكن التعويض عنها، سواء أكانت ذات طبيعة اقتصادية أو جسدية أو نفسية، وتحديد طبيعة وقيمة الحجج الواجب الإدلاء ﻬا من طرف كل مستفيد محتمل، وما إذا كان التعويض يقوم على أساس الضرر أو الحاجة أو كليهما. ومن التحديات كذلك كيفية تقدير حجم الضرر (مثل تحديد مبلغ التعويض المناسب لمن فقد البصر أو تعرض للاغتصاب أو عذب نفسيا) وإيجاد الموارد لتمويل البرنامج على اعتبار أنه سيلاقي في أغلب الحالات منافسة من برامج اجتماعية أخرى خاصة في ظروف قلة الموارد، ناهيك عن كون المنح الدولية لا تعطى غالبا في غياب توفير مساهمات مالية محلية مهمة. ينبغي كذلك تحديد مبلغ التعويض ومعرفة ما إذا كان كل فرد أو جماعة سيتقاضون نفس قيمة التعويض مهما اختلفت حالاﻬم، وكذا كيفية توزيع التعويضات (مبالغ مالية تصرف جملة واحدة أم في شكل دفعات منتظمة، من هي الجهة التي تقوم بذلك في الحالتين). ومن الضروري كذلك معرفة المرحلة الزمنية المشمولة ببرنامج التعويض ومدى تأثير الأحكام المدنية ومنح التأمين وغيرها من المصادر المستقلة المانحة للمساعدات المالية على إلزامية استفادة المعني بالأمر من حملة التعويضات عن الضرر أو على قيمة التعويض.
كما يجب التحقق من إمكان وجود سبيل لإشراك الجهة المستفيدة من انتهاكات حقوق الإنسان أو مرتكبيها في تمويل برامج التعويضات.
وإذا استعرضنا برامج التعويضات المادية التي نفذﻬا بعض البلدان، نرى أن من بين التجارب التي حظيت باستحسان واسع، تلك التي شهدﻬا الصين والأرجنتين في عقد التسعينيات.
أشكال إضافية من التعويض
سواء منحت للضحايا تعويضات مادية أو لم تمنح، من المهم أن تؤخذ بعين الاعتبار كذلك عدد من الأشكال الإضافية والهامة من أشكال تعويض الضحايا. أولا، قد يكون من المهم في بعض السياقات، بالنسبة إلى حكومة جديدة أن تحاول إعادة الحقوق القانونية إلى الضحايا أو ممتلكاﻬم. ومن أمثلة ذلك: إجراءات مساعدة السكان الذين تم ترحيلهم بالقوة أو الذين سرقت أراضيهم، أو إرجاع حقوق الحرية والمكانة الاجتماعية والجنسية، أو إعادة الإدماج في المناصب السابقة في الوظائف العمومية. وثانيا، قد يكون كذلك من المهم في بعض السياقات وضع برامج خاصة لإعادة تأهيل الضحايا، بما في ذلك المواساة العاطفية والعلاج البدني أو المساعدة الطبية. وثالثا، ثمة مجموعة واسعة من الإجراءات الرمزية لجبر الضرر والتي يمكن أن تؤخذ كذلك بعين الاعتبار، سواء بالنسبة إلى الضحايا بشكل فردي (مثلا، رسائل شخصية للاعتذار من طرف الحكومات التالية، أو مراسيم دفن ملائمة للضحايا القتلى، الخ) أو الضحايا بصفة عامة (مثلا الاعتراف الرسمي بما جرى من قمع في الماضي، أو تخصيص أماكن عامة وأسماء الشوارع أو رعاية المعارض الخاصة أو الأعمال الفنية أو بناء النصب التذكارية العامة والمآثر والمتاحف الخ).
وتتضمن إجراءات أخرى للعدالة الانتقالية جوانب جبر الضرر وخاصة إظهار الحقيقة (من خلال لجنة الحقيقة أو تحقيقات رسمية أخرى)، وتوفير الظروف التي تمنع تكرار انتهاك حقوق الإنسان (مثل الإصلاح المؤسسي).
إن فوائد الإجراءات الرمزية هي أﻬا نسبيا ممكنة التحقيق، ويمكنها أن تصل إلى فئات واسعة وأن تتبنى تعريفات أوسع للضحية ويمكنها أن تشجع الذاكرة الجماعية والتضامن الاجتماعي. أما السلبيات الكامنة فهي أﻬا لا توفر أي منافع مادية للضحايا. كما أﻬا في غياب إجراءات تعويضية ملموسة أخرى، قد تترك انطباعا مؤلما بأﻬا قدمت كتعويض كامل عن المعاناة التي تم التعرض لها.
4 ـ إصلاح المؤسسات
كثيرا ما تحتاج البلدان الخارجة حديثا من الديكتاتورية إلى تبني إصلاحات تشمل مؤسساﻬا وقوانينها وسياستها، ﻬدف تمكين البلاد من تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية البعيدة المدى، والتي تعتبر ضرورية لتفادي وقوع اﻬيار حضاري و/أو ديمقراطي في المستقبل. ففي فترات الصراعات، عادة ما يتم تعليق معايير حقوق الإنسان وإفساد إجراءات العمل الاعتيادية وعقليات وقت السلم في العديد من مؤسسات الدولة، إن لم يكن في مجملها. وعندما ينتهي الاضطراب، فإن الإصلاحات المؤسساتية بشكل عام يكون الهدف منها هو إزالة الشروط التي أدت إلى نشوء فترة النزاع أو القمع.
وهناك ثلاث وسائل تمكن من بلوغ هذا الهدف:
‌أ.  إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي تواطأت في أعمال العنف أو الانتهاك.
‌ب. إزالة التمييز العرقي أو الإثني أو الجنسي القديم العهد.
‌ج. منع مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من الاستمرار في الاستفادة من شغل مناصب في المؤسسات العمومية.
الحقيقة أنه بدون إصلاحات في مجالات مثل النظام القضائي الوطني والبرلمان وأجهزة أمن الدولة، فإن أية عملية محاسبة ستظل ناقصة بشكل شبه مؤكد، وبالتالي ستفشل في خلق صدى إيجابي لدى عامة الشعب. فالمواطنون الذين تعلموا أن ينظروا إلى أجهزة الشرطة والجيش والحكومة بنوع من الارتياب سوف يصعب عليهم أن يؤمنوا بجدوى أية إجراءات مساءلة تشمل هذه المؤسسات. وإذا كان عليهم أن يقوموا بذلك، فإنه يتعين عليهم الاقتناع بأن الثقافات المؤسساتية التي سمحت بوقوع انتهاكات حقوق الإنسان أو غذﻬا قد تم تقويمها بشكل ﻬائي .
غير أن مجال الإصلاحات المؤسساتية شاسع ومعقد بشكل كبير. فالعلاقات داخل أجهزة الدولة وفيما بينها لا تسمح حتى بإجراء تشخيص بسيط للإصلاحات، إذ إن إصلاح "أجهزة أمن" الدولة يستلزم إصلاح الجيش، والشرطة، والقضاء، والجمارك، ومراقبة الهجرة، وأجهزة المخابرات، والقطاعات العديدة الأخرى ذات الصلة .وهكذا فإن محاولة تغيير البنيات المؤسساتية والحساسيات داخل هيئة ما سينعكس على العديد من الهيئات الأخرى، ولا تكون كل الصلات القائمة بينها دائما واضحة بشكل مباشر للعيان.
وقد تكون الحاجة إلى الإدخال التدريجي لنوع من النزاهة والمهنية في مؤسسات الدولة المتعسفة واضحة بشكل مباشر. وخاصة في ثلاثة مجالات، يتعلق الأول بإصلاح جهاز الشرطة، والثاني يتناول المساواة بين الجنسين والإصلاح المؤسساتي (تقويم التمييز الشامل أو/و القديم العهد)، فيما يتطرق الثالث إلى تطهير السياسة (منع مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من الاستمرار في تقلد مناصب في مؤسسات الدولة).  في مجال إصلاح المؤسسات المتعسفة، كما في جميع مجالات العدالة الانتقالية الأخرى، يكون اتخاذ القرار مقيدا بالمناخ السياسي القائم والموارد المتاحة والحاجة إلى صياغة مشروع بأهداف واقعية. ومن بين الدروس المستخلصة من المحاولات الماضية لإصلاح المؤسسات المتعسفة أن الجهود المبذولة لتحقيق الإصلاح من حيث الكم والكيف، لا يجب أن تكون أكبر من حجم القدرات المحلية من حيث البنية المؤسساتية والموارد البشرية والمالية، إذ إن الوقوع في مثل هذا الخطأ قد يجر عملية الإصلاح إلى الوراء عوض الدفع ﻬا قدما. وثمة درس آخر مرتبط بالأول، لاسيما في مجال الفحص، يتمثل في وجوب الانتباه إلى المخاطر التي يمكن أن ينطوي عليها عزل الأشخاص من المناصب العمومية (خصوصا المسؤولين في الشرطة والجيش وأجهزة الاستخبارات)، والذين غالبا ما يتحولون فرادى إلى العمل في مجال الجريمة بعد عزلهم من مؤسسات الدولة. لذا يتعين استباق هذا التحدي من خلال السماح لهيئة الفحص بالتفكير في طريقة لإعداد هؤلاء المسؤولين لحياة جديدة. وفي الفترات الانتقالية على وجه الخصوص، حيث تكون مستويات البطالة والجريمة عالية، يمكن التفكير في إعادة التدريب، وبرامج التعلم في اﻟﻤﺠالات المدنية، إضافة إلى أشكال أخرى لإعادة الإدماج الاقتصادي بطريقة مستديمة. غير أنه ينبغي صياغة مثل هذه الإجراءات بحذر كبير حتى لا تبدو وكأﻬا مكافآت على الانتهاكات السابقة. كما يتعين تدبير الإصلاحات المؤسساتية وفق أسلوب عادل وشفاف، مع ضمان مشاركة شعبية واسعة، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والسكان المدنيين في عمليات الاستشارة وصياغة الإصلاحات المؤسساتية. كما ينبغي، علاوة على ذلك، إرفاق الإصلاحات المؤسساتية بتدابير ﻬدف إلى الحد من احتمالات النكوص والارتداد (مثل تطبيق المراقبة المنتظمة والاحتفاظ بسجلات دقيقة وتحليل التوجه/النموذج). كما أن المراقبة والتقييم ضروريان لضمان الامتثال، وقد يستلزمان إقامة مؤسسات جديدة مستقلة عن المؤسسات موضع المراقبة .
وأخيرا ـ وربما يكون هذا هو الأهم ـ ينبغي اعتبار إصلاح المؤسسات المتعسفة على أنه عملية طويلة الأمد. إذ يستغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن يتبين مدى نجاح أو فشل القوانين والمؤسسات الجديدة، ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان العمل في هذا اﻟﻤﺠال بإرادة ولكن دونما تسرع.
إصلاح الشرطة أو أجهزة الأمن والاستخبارات
خلال فترة النزاعات، غالبا ما يتم تأويل مهمة ضابط الشرطة المتمثلة في فرض النظام على أﻬا ضوء أخضر لارتكاب انحرافات سياسية وعرقية. وقد تواطأ ضباط الشرطة الوطنية مع أجهزة الاستخبارات في ارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك تجاهل الحقوق الواجب احترامها في ما يتعلق بالتفتيش، وأوامر الاعتقال، وإجراءات الاحتجاز، وصولا إلى الضرب والتعذيب وحتى القتل .
وعندما تنتهي حالة الصراع أو القمع، يتعين أن تشجع الإصلاحات عودة عقلية شرطة زمن السلم وإدراك أن واجب ضابط الشرطة هو التصرف بمهنية عالية للحفاظ على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. غير أن استرجاع مثل هذه العقلية ليس بالشيء الهين. وحتى لو تم قطع العلاقات الداخلية المعقدة بين أنظمة شرطة الدولة وأجهزة الأمن الأخرى، فإنه من المحتمل جدا أن تصطدم الإصلاحات بمقاومة داخل الجهاز نفسه من لدن الضباط والمسؤولين الذين يخشون فقدان السلطة ويستأؤون من عواقبها ويرفضون الحاجة إلى أي مراقبة أو تدخل خارجي. لذا، فإن بناء قوات شرطة تتميز بالاحترافية وعدم التمييز وتسير نفسها بنفسها في إطار من النزاهة يستلزم إتباع منهج شامل تجاه الإصلاح المؤسساتي (مثلا الإصلاح الذي يخص التوظيف، وإعادة التدريب، وإعادة الهيكلة، والتدبير/كتابة التقارير وتدابير المراقبة). وقد كانت خطة إصلاح الشرطة المتكونة من ثلاث نقاط، والتي أعدﻬا قوات حفظ السلام الدولية في البوسنة ﻬدف إلى: (1) إعادة هيكلة شرطة ما بعد الحكم الشيوعي وما بعد النظام شبه العسكري، (2) الإصلاح بتطبيق إجراءات جديدة في التدريب والاختيار ومنح الشهادات، (3) اتباع أسلوب ديمقراطي من خلال إنشاء قوات شرطة لا تخضع للأمور السياسية، ونزيهة، وقابلة للمحاسبة، ومتعددة الإثنيات، وتؤمن بمبادئ شرطة اﻟﻤﺠموعة .
ويمكن أن تتضمن إستراتيجية شاملة مجموعة من العناصر، منها تبني ميثاق أخلاقي مؤسساتي، والعمل على تعليم الجمهور وإعادة تدريب الشرطة على إجراءات سياسة جديدة، وتطبيق إجراءات إدارية وتواصلية وتدبيرية لتشجيع الشفافية والمراقبة، وتطبيق إجراءات تأديبية لضمان الانضباط، وتوفير وسائل الشكاية والتقويم، ومراجعة إجراءات التوظيف لتشجيع قوات شرطة تكون جميع الطوائف ممثلة فيها دون تمييز .وإذا كان يلزم على الإصلاحات المؤسساتية أن تساهم في ضمان عدم العودة إلى دائرة العنف مجددا، فيجب عليها أن تعالج مشكلة التحيز. فثقافة اللاعقاب المؤسساتية التي شجعت الوسائل البوليسية المنحرفة يمكن مقاومتها بتشجيع سياسة التوظيف الشامل لجميع الأعراق دون استثناء. ففي سنة 2000 ، كان 88 % من ضباط الشرطة في الشرطة الملكية بأيرلندا الشمالية من البروتستانت، ونحو 8% فقط من الكاثوليك. وليس ثمة حاجة إلى القول إن السكان الكاثوليك كانوا لا يشعرون أن الشرطة الملكية بأيرلندا الشمالية تدافع عن مصالحهم. لذا فإن تقويم هذا التباين الصارخ في نسبة التمثيل داخل هذا الجهاز يمكن أن يكون ذا فائدة مزدوجة، تتمثل في إزالة الضرر الذي لحق المواطنين بسبب الشرطة وإعادة بناء ثقة المواطنين في نزاهة قوات الشرطة. كما يمكن أن يكون عاملا محوريا في تعزيز ثقة النساء.
إن المراقبة الفعالة والموضوعية شرط أساسي لضمان احترام الإجراءات الجديدة. وربما يتطلب الأمر خلق مؤسسات جديدة لبلوغ هذه الغاية، بما في ذلك هيئات مراقبة مدنية، ولجنة وطنية لحقوق الإنسان، ومؤسسة عليا لتدقيق الحسابات، ومكتب للتظلمات (لاستقبال الشكايات ضد مسؤولي الدولة والتحقيق بشأﻬا)، ومكتب لمحاربة الفساد، ومحاكم خاصة، ومستوصفات متخصصة لتقديم المساعدة القانونية للفقراء. كما يتعين أيضا وضع برامج وسياسات للتدريب في مجال مكافحة الفساد .
المساواة بين الجنسين، والإصلاح المؤسساتي: تغيير التمييز كجزء من النظام :
غالبا ما يكون تمثيل النساء منعدما أو بشكل باهت أو غير ممثلة بالمرة في بنيات السلطة المؤسساتية. لذا فإن تغيير بنية المؤسسات ضروري لإعطاء المزيد من السلطة للنساء. ويمكن أن يشمل ذلك مجالات من قبيل التعليم، وتنمية المهارات، والتوظيف، والتمثيلية، والحصول على الموارد، والعدالة، والرعاية الطبية، والمأوى، والمساعدة، والاستشارة، وإعادة التوطين وإعادة التدريب. وكما هو عليه الحال في الإصلاحات المؤسساتية بشكل أكثر عمومية، فإن لم تتوفر وجود استراتيجيات للتنفيذ والمراقبة الفعليين، فإن الانتهاكات ستستمر، وهنا يمكن أن ينشأ منصب محقق في شكاوى النساء أو هيئة رسمية أخرى لتطبيق إستراتيجية لتنفيذ ومتابعة الإصلاحات المؤسساتية في مجال المساواة بين الجنسين .
إن التمثيل العادل للنساء عامل رئيسي في تشكيل عمليات اتخاذ القرار وتعزيزها. فكثيرا ما يتم تجاهل النساء في مفاوضات السلام، بداعي ~ افتقادهن للخبرة اللازمة للتفاوض أو بسبب التمييز أو الأفكار النمطية المسبقة }. غير أن مفاوضات السلام غالبا ما تضع قواعد البنية المستقبلية والإصلاحات المؤسساتية، وإذا لم تكن النساء ممثلات منذ البداية، فإن اهتماماﻬن لن تكون منعكسة في البنية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. لذا يتعين حماية حقوق النساء من خلال التركيز على المساواة بين الجنسين في الإصلاحات المؤسساتية والتشريعية والقضائية والانتخابية. ونسبة تمثيل النساء ضعيفة جدا في مجال السياسة وتدبير الشأن العام على جميع المستويات. وفي هذا الإطار، يمكن أن تكون أنظمة الحصص وبرامج المراقبة من الشروط الضرورية والكفيلة بضمان احترام سياسات التوظيف التي تراعي تمثيل النساء .
كما يتعين إشراك النساء بالتساوي مع الرجال في صياغة وتدبير النشاطات الإنسانية. فقد تبين من الدراسات أن اشتراك النساء في عمليات حفظ السلام يساهم في تحسين المساعدة المقدمة للنساء المحليات، خاصة في مجال حصولهن على العلاج الطبي والنفسي، ويجعل الرجال المسؤولين عن حفظ السلام أكثر تجاوبا وأكثر إحساسا بروح المسؤولية، ويوسع من تشكيلة المهارات والتخصصات الموجودة في البعثة، ويخفف في غالب الأمر من حدة النزاع والمواجهة، وينتج عنه انخفاض نسبة الشكايات المقدمة من السكان المحليين، وانخفاض حالات الاستخدام السيئ للقوة أو السلاح، ويساهم في الوقت نفسه في تخفيض معدل الدعارة في صفوف النساء المحليات وبالتالي تأمين حماية أفضل العناصر قوات حفظ السلام من وباء الإيدز. ورغم هذا الوعي، فإن اتفاقيات دايتون للسلام في يوغوسلافيا السابقة لم تركز كثيرا على إشراك النساء في عملية الصياغة، مما نتج عنه غياب الوعي بحقوق النساء في مرحلة تنفيذ الاتفاقيات .
5 ـ  إحياء الذكرى
يتم إحياء الذكرى عن طريق أي حدث أو واقعة أو بناء يستخدم بمثابة آلية للتذكر. ويمكن أن يتم إحياء الذكرى بشكل رسمي (مثل إقامة نصب تذكاري (أو غير رسمي (مثل بناء جدارية في مجتمع محلي)؛ رسميا من طرف الدولة أو تلقائيا من طرف المواطنين. ويسعى الناس إلى إحياء ذكرى أحداث الماضي لأسباب عديدة، منها الرغبة في استحضار ذكرى الضحايا و/أو التعرف عليهم، أو تعريف الناس بماضيهم، أو زيادة وعي اﻟﻤﺠتمع، أو دعم أو تعديل رواية تاريخية، أو تشجيع تبني الاحتفال بالذكرى/ أو عملية العدالة الانتقالية من طرف مستوى محلي .
ويمثل فهم احتياجات الضحايا وعائلاﻬم والناجين من الفظاعات الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان الصارخة أحد العناصر الرئيسية في العدالة الانتقالية. ورغم عدم وجود شكل وحيد لتعامل الضحية مع الماضي، إلا أن الضحايا وجمعياﻬم المنظمة كثيرا ما يطالبون بالعمل على بلوغ عدد من أهداف العدالة الانتقالية، بما في ذلك تحقيق العدالة والمحاسبة، وإظهار الحقيقة، وجبر الأضرار، وضمان عدم تكرار ما جرى. إضافة إلى كل ذلك، غالبا ما يكون هناك مطلب بالتذكر. فتذكر الماضي يتيح نوعا من تكريم أولئك الذين ماتوا أو تمت التضحية ﻬم .غير أن آليات التذكر يمكن أن تساهم في بلوغ أهداف أخرى للعدالة الانتقالية، بما في ذلك البحث عن الحقيقة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات مستقبلا، وتحفيز الحوار والنقاش حول الماضي، ووضع سجل تاريخي مناسب، والإنصات لأصوات الضحايا ومتابعة الأهداف المرتبطة بجبر أضرار الضحايا.
إن الصراع حول التحكم في الذاكرة الوطنية أو~ الجماعية } يقع في صميم سياسات المحاسبة التي تعقب حالات ما بعد انتهاء النزاعات أو سقوط السلطة. وكثيرا ما يشعر الضحايا ونشطاء حقوق الإنسان بغبن عميق من جراء جهود الحكومة الجديدة أو القديمة، حتى لو كانت حكومة ديمقراطية، قصد خلق ~ رواية رسمية }، أي رواية تؤلفها الدولة حول الماضي. وأحيانا ما ينظر إلى استراتيجيات العدالة الانتقالية ـ مثل إنشاء لجنة للحقيقة ـ كخطوة ضرورية في اتجاه التذكر، لكن أيضا كخطوة غير كافية في الوقت نفسه. وسبب ذلك أن الحفاظ على الذاكرة حية هو أمر في غاية الصعوبة، بل إن لجان الحقيقة الرسمية تصبح جزءا من رواية رسمية جامدة عن الماضي، ومن ثم فإن التحدي الذي يفرض نفسه من هذا المنظور هو ~ أن لا ننسى أبدا }.
ويتضمن مطلب عدم النسيان على الإطلاق حول ما حدث لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي التنازع حول ما يتعين تلقينه في المدارس، وكيف ينبغي تذكر الضحايا، وإذا ما كان الناس سيستمرون في الاستماع إلى أصوات الضحايا، حتى بعد نشر تقرير لجنة للحقيقة أو نجاح محاكمة أحد مرتكبي الانتهاكات. وحتى لو تكفلت كتب التاريخ برواية قصص الضحايا، فإن التذكر يجب أن يجعل الناس ينخرطون في حوار حي وديناميكي ودائم، ليس فقط حول الماضي ـ وأحداثه ودلالاﻬا ـ بل أيضا حول الطريقة التي يستفيد ﻬا الحاضر من هذا الماضي ويمكن اﻟﻤﺠتمعات من استعداد أفضل للمستقبل.
النصب التذكارية والمطالبة بأماكن عامة
النصب التذكارية تجسيد لأحداث وأشخاص أو نشاطات حدثت في فترة تاريخية سابقة. وهي فئة واسعة للغاية وتشمل أشكالا فنية عديدة، وأعمال نحت، وحدائق تذكارية، (مثل متحف تيريزين التذكاري في جمهورية التشيك أو متحف المقاطعة 6 في جنوب أفريقيا)، واللوحات التذكارية، وتحويل مراكز تعذيب سابقة إلى ساحات للتذكر (مثل موقع تيول سليتغ في كمبوديا)، والجدران التذكارية (مثل جدار مايا لينز التذكاري عن حرب فيتنام في واشنطن) وجهود أخرى ﻬدف إلى إثارة التذكر والنقاش حول الماضي .
يمكن أن تكون النصب التذكارية بمثابة تعويض رمزي للضرر. وقد أشار تقرير الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا إلى هذه الوظيفة، مركزا على الأهمية الاجتماعية المرتبطة ﻬا .
وتشرح مارغريت فيتلوفيتز دور النصب التذكارية بكونه يتمثل في "استعادة الأماكن التي تمت سرقتها، وإعادة تخصيص الأماكن العمومية وتحويل مراكز الموت إلى أماكن يتردد فيها صدى الحياة". ففي تشيلي، يقع النصب التذكاري الخاص بالمعتقلين المختفين والمعدمين السياسيين في مقبرة سانتياغو العامة، وهو مهدى إلى أرواح الذين قتلوا أو اختفوا خلال الحكم العسكري. وقد أصبح موقعا مهما للقاء ومعلما بارزا من معالم سانتياغو. وفي الاتحاد السوفيتي سابقا، عملت منظمة حقوق الإنسان "ميموريال "على تشجيع استعادة الذاكرة عبر تجميع الوثائق وإقامة المواقع التذكارية ...
إن بناء نصب تذكاري هو عملية تنطوي في طياﻬا على عناصر السياسة والتاريخ والجمالية. وتعتبر النصب التذكارية، من حيث كوﻬا ممارسات في عملية بناء الأمة، جزءا من بيئة مادية واجتماعية يمكن أن تساعد في تحديد وبناء مفهوم مشترك للتجربة الجماعية والخيال والنظرة الذاتية لشعب من الشعوب. وتتفاعل جميع النصب التذكارية مع الأشخاص الذين يشتركون في إقامتها. وليس لها أية سلطة ذاتية، وإنما يتم تنشيطها من قبل الناس، وهي تتوقف في تأثيرها النهائي لإحياء الذكرى على الناس الذين يأتون لزيارﻬا.
النصب التذكارية كأسلوب للبحث عن الحقيقة :
النصب التذكارية موجودة تقريبا في جميع اﻟﻤﺠتمعات الإنسانية. وقد جرت العادة على أن تتخذ شكل تماثيل ولوحات تذكارية تخلد أبطال الحرب أو متاحف وطنية كبيرة تحتفي بالتراث الثقافي لأمة من الأمم. غير أن النصب التذكارية أصبحت تفهم أكثر فأكثر على أﻬا تحد – أكثر من كوﻬا احتفاء – للرواية الرسمية كما تقدمها الدولة.
وسواء تعلق الأمر بتذكر انتهاكات حقوق الإنسان في ظل الديكتاتوريات باﻟﻤﺠتمعات المتحولة إلى الديمقراطية مثل الأرجنتين، أو تخليد ذكرى ضحايا نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، أو مكافحة ذكرى الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة، فإن مواجهة الماضي بإقامة نصب تذكارية أصبح ينظر إليها أكثر فأكثر على أﻬا عنصر أساسي لتحقيق الديمقراطية في الحاضر والمستقبل.
كما أن النصب التذكارية تخلق ساحة عامة لاستمرار الحوار. وقد أدى التركيز على الحوار بالناقد جيمس يونغ إلى تفضيل عملية إحياء الذكرى على النصب التذكاري نفسه. ويقول في هذا الصدد: ~ إن أفضل نصب تذكاري ألماني عن الحقبة الفاشية وضحاياها قد لا يكون نصبا تذكاريا واحدًا بالمرة، ولكنه مجرد الحوار الذي لا ينتهي حول أي ذاكرة يتعين الحفاظ عليها، وكيف يمكن ذلك، وباسم من، ولأية غاية } . وتتمثل فائدة الحوار حول الماضي في كونه ضمانا بعدم نسيان – ما قد يساهم في تكرار ما جرى – وأيضا ضمانا ضد خلق رواية رسمية تتبناها الدولة وتروج لأجندة سياسية معينة. لذا فإن النصب التذكارية يقصد منها أن تنتج هذا الحوار، وقد تفشل إذا لم تقم بذلك. فليس هناك شيء أكثر عدمية من تمثال، مثلا، لم تعد تربطه أي علاقة بالموضوع .
النصب التذكارية كجبر رمزي للأضرار
يمكن أن تكون النصب التذكارية بمثابة تعويض رمزي للضرر. وقد أشار تقرير الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا إلى هذه الوظيفة، مركزا على الأهمية الاجتماعية المرتبطة ﻬا  التوصيات الواسعة تشمل تقديم ~....  تعويض رمزي للضحايا، من قبيل استمرار الاعتراف العمومي والرسمي من خلال المآثر، والنصب التذكارية الحية، وأيام التذكر وما إلى ذلك. علاوة على ذلك ... فهناك وسائل مؤقتة للتعويض تم توفيرها ... مثلا، في الحالات التي ...تم فيها اكتشاف جثث ضحايا الناشطين الذين قتلتهم قوات الأمن وقامت بدفنهم سرا، فإن اللجنة تقوم بمساعدة العائلات من خلال إقامة مدافن رسمية ومكرمة .وتؤكد حالات التعويض هذه على أهمية وضع الحالات الفردية في سياق اجتماعي وسياسي أوسع}.
ويمكن للتعويض الرمزي إتاحة الدخول في حوار مع أشكال قديمة ومتجاوزة حاليا من أصناف إحياء الذكرى. ففي اليونان، على سبيل المثال، أقيمت نصب تذكارية تتضمن أسماء الشيوعيين الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية قرب اللوحات التذكارية القديمة والأكثر تقليدية، والتي سقطت منها عن قصد أسماء الشيوعيين الذين قتلوا .
وقد تصلح النصب التذكارية أيضا لتحفيز التغيير اﻟﻤﺠتمعي، باعتبارها عاملا لإثارة حوار ضروري لبناء واستدامة مجتمع سلمي وديمقراطي عقب فترات طويلة من العنف والقمع. وقد ساعد إنشاء متحف المقاطعة 6 بجنوب أفريقيا الذي بني في التسعينيات تخليدا لذكرى مجموعة من الطبقة العمالية جرفت مساكنها – على إطلاق حوار حول حقوق الأرض التي ربما تؤدي إلى إجراء إصلاحات قانونية واسعة.
النصب التذكارية كالتزام حضاري :
تلعب النصب التذكارية دورًا حضاريًا هامًا يمكن أن يكون مكملا، لكن مختلفا للغاية عن الإجراءات القانونية المعقدة وبيروقراطية من قبيل إجراء محاكمات، أو سن سياسات عمومية جديدة، أو إنشاء لجنة للحقيقة. ويمكن للمطالبة تخصيص مكان عمومي متاح للجميع قصد إطلاق حوارات في اﻟﻤﺠتمع المدني أن تلقى أحيانا صدى إيجابيا لدى المواطنين أكثر مما تفعله التحاليل المطولة، الغارقة في لغة الأرقام، عن انتهاكات حقوق الإنسان. صحيح أن التحاليل الحسابية لها أهمية واضحة (ليس آخرها مساهمتها في إتاحة فهم أكبر لأشكال الصراع ونتائجه)، غير أن الطبيعة الموضوعية للأرقام والحقائق تتجاهل التعقيد العاطفي العميق الذي يشكل صلب العدالة الانتقالية. ويتعين ألا ينظر إلى "الذاكرة "في شكلها الأكثر بساطة باعتبارها استراتيجيات معقدة ﻬدف إلى المحاسبة لا غير.
إن نجاح نصب تذكاري يمكن أن يقاس بردود الفعل التي يخلفها من حيث النقاش الحضاري، والمفعول الحواري، والقيم التربوية، وتجاوب اﻟﻤﺠموعات المعنية، بما في ذلك الضحايا وعائلاﻬم، ومرتكبو الانتهاكات، واﻟﻤﺠتمع المدني (المدارس، الفنانون، المنظمات غير الحكومية)، والحكومة وحتى السياح. وعلى أية حال، فسواء كان النصب التذكاري يولد تفاعلا ماديا بين الزائر والنصب أو تفاعلا فرديا ذاتيا بين الزائر وزائرين آخرين أو مع مجموعته، فإن النصب التذكارية لديها القدرة على تشجيع الالتزام مع الذاكرة.
المصالحة الوطنية في العالم العربي :
تبدو الكثير من الدول العربية اليوم في حاجة إلى الدخول في مرحلةٍ جديدة من ~ العدالة الانتقالية  }  وخاصة تلك الدول التي شهدت انتهاكات كبيرة على مستوى حقوق الإنسان في الماضي كسورية ولبنان والجزائر ولبنان وليبيا . العدالة الانتقالية وحدها تؤسس للمصالحة الوطنية، إن إرث ~ المصالحة  }  يعود بجذوره بعيدًا إلى التاريخ العربي ـ الإسلامي 29 ،ولذلك تبدو اﻟﻤﺠتمعات العربية بحاجةٍ إلى استعادة هذا التراث ممزوجًا بالخبرات المتراكمة للمجتمعات، و خاصًة تلك التي مرت بفتراتٍ من النزاع الأهلي أو انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان أخّلت بثقة المواطن في النظام السياسي والقضائي لبلده إخلالا كاملا ،وبات أكثر شعورًا أن الدولة ذاﻬا متورطٌة في ما يعيش فيه .
يعود إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول، وقد استخدمه فيما بعد ~ المصالحة الوطنية }  كتعبير على التوالي كل من جورج بومبيدو وفرنسوا ميتران، وذلك عندما رسخ عندهما الاعتقاد بضرورة تحمل مسؤولية محو ديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبّان حرب الجزائر .
فديغول عندما عاد للمرة الأولى إلى فيشي وألقى فيها كلمة شهيرة حول وحدة وفرادة فرنسا، شكل مفهوم المصالحة الوطنية لحمة الخطاب الديغولي، وهو الأمر ذاته الذي فعله بومبيدو الذي تحدث في ندوةٍ شهيرة له عن ~ المصالحة الوطنية } وعن الانقسام الذي تم التغلب عليه، جراء عفوه عن توفيي وكان هذا المفهوم ذاته موضوع خطاب ميتران لما أعلن عن تأكيده في مناسبات عدة أنه ضامن الوحدة الوطنية، ورفض Touvier إعلان أن فرنسا مسؤولة عن الجرائم المقترفة تحت حكم فيشي الذي وصفه بالسلطة اللاشرعية أو غير التمثيلية التي استولت عليها أقلية من المتطرفين.  ثم استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب أفريقيا عندما كان ما يزال قابعًا في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولا عودة منفيي ويطمح إلى مصالحة وطنية، بدوﻬا سيكون البلد عرضًة لمزيد من (ANC) المؤتمر الوطني الإفريقي الاحتراق وإراقة الدماء التي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيد. إن المصالحة هي شكل من أشكال العدالة الانتقالية التي تكون ضرورية لإعادة تأسيس الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديموقراطية في الوقت ذاته.
تبدو تجربة المغرب مغرية في ذلك، وحاجة العراق ماسة لها اليوم أكثر من غيره، ولا مخرج لسورية من استحكام أزماﻬا الداخلية إلا بقرار تاريخي من نمط ~ المصالحة الوطنية } ، وإرث الماضي في لبنان لن يتم تجاوزه دون الدخول في سياسة الصفح والمصالحة التي هي وحدها الكفيلة بالخروج من أسر الماضي الثقيل الوطأة إلى رحاب المستقبل .
إن أزمة العدالة والمحاسبة في العالم العربي تعود بالدرجة الأولى إلى ضعف استقلال القضاء، وتبعية أجهزة النيابة العامة للسلطات التنفيذية، وتآكل الثقة في القضاء الوطني بفعل الانقسامات الداخلية الحادة كما في لبنان والسودان و العراق وفلسطين، وغياب إرادة تسوية ملفات الماضي، وكشف الحقيقة، حيث أن معظم الدول العربية شهدت انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان على مدار عقود ما بعد الاستقلال، وفي إطار سعيها الى التستر على الجلادين، ومنحهم حصانة قضائية، تتبنى بعض الحكومات ما يعرف بقوانين العفو كما حدث في البحرين أو الجزائر، وتفرض تدابير صارمة ضد من يسعى الى انتقاد مثل هذه القوانين، والأغرب أﻬا تُصدر هذه القوانين إعلاميا باعتبارها مصالحة وطنية!.
لذلك لا يبدوا غريبا أن تتزايد تطلعات ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة العربية إلى وسائل الانتصاف الدولية كبديل عن عجز وعدم رغبة القضاء الوطني في محاسبة منتهكي حقوق الإنسان، وإقرار العدالة وحكم القانون، حيث شهدت المنطقة مؤخرًا أهم سابقتين في هذا الإطار: الأولى هي تحويل ملف جرائم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بواسطة قرار من مجلس الأمن، والسابقة الثانية هي تشكيل محكمة دولية ذات طابع خاص لمحاكمة المتورطين في اغتيال رفيق الحريري، والتي تشكلت في سياق سياسي متأزم في لبنان، وفي أعقاب سلسلة من الاغتيالات التي طالت رموز السياسة والصحافة المنحازين إلى الاستقلال الوطني الديمقراطي.
لقد فشل القضاء الوطني في كلا النموذجين عن الخوض في المحاسبة، لعدم استقلاليته من ناحية، وعدم قدرته في بيئة منقسمة اثنيا وعرقيا وسياسيا على فتح ملفات من هذا القبيل، وأصبح في كلا البلدين تحدي العدالة جزء لا ينفصل عن النضال الديمقراطي في مواجهة أنظمة شمولية، وحلقة من إحقاق السلام الداخلي الذي يتطلب العدل، وإﻬاء ثقافة الإفلات من العقاب.
وسائل العدالة الدولية هي تطور بشري وإنتاج حضاري مشترك، وليست إنتاجا غربيا، لابد من تعزيزه بدلا من تقويضه، لكنها لا يمكن أن تكون بديلة عن الآليات الوطنية للعدالة، والتي تعد العدالة الانتقالية أحد تجلياﻬا، تبدو تجربة المغرب مغرية في ذلك مع وجود بعض التحفظات على مسارها لوجود ملفات وجرائم لم يكشف عنها النقاب بعد، وتباطؤ تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، واستمرار انتهاج السلطات لممارسات ضد حقوق الإنسان، وخاصة على خلفية الحرب على الإرهاب، لكن بشكل عام تعتبر التجربة المغربية خطوة للأمام وغير مسبوقة في هذه المنطقة من العالم.
إن المصالحة تدعّم الديمقراطية من خلال إقامة علاقات التعاون اللازمة لوضعها موضع التنفيذ بنجاح. كذلك، على المصالحة أن تحظى، من بين أمور أخرى، بدعم العدالة الاقتصادية والسياسية وبتشارك اجتماعي للسلطة .


* مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان / باحث زائر في جامعة هارفرد
المصدر: موقع الشفافية ليبيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق