الطاعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
قال الله تبارك وتعالى:{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا} النساء 59.
هناك حيثيات توجب هذا الأمر من الله تعالى لعباده فنحن ـ ولله المثل الأعلى ـ نلحظ بعد صدور حكم قاض من المحكمة أنه يصدر على حيثيات لهذا الحكم، وهذه الحيثيات هي التبرير القانوني للحكم سواء كان بالعقوبة أو بالبراءة.
إذن فالقاضي يحكم بناء على حدوث وقائع مطابقة لمواد القانون.
وعلى هذا فحيثيات أي حكم هي التبريرات القانونية التي تدل على سند هذا الحكم.
وقول الحق سبحانه وتعالى:{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فيه نلحظ أن الحق سبحانه لم يقل:~ يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ولكنه سبحانه وتعالى قال:{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}.
إذن فالحق سبحانه وتعالى لم يكلف مطلق الناس بأن يطيعوه، وإنما كلف مطلق الناس أن يؤمنوا به.
إذن فحيثيات الطاعة لله وللرسول نشأت من الأيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه عدالة من الخالق سبحانه وتعالى، فهو سبحانه لم يكلف واحدا أن يفعل فعلا إلا إذا كان قد آمن به تعالى، وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم مبلغا وشرعا، ولذلك نجد كل تكليف من الله تعالى يبدأ بقوله سبحانه وتعالى:{ يا أيها الذين آمنوا}، إذن فحيثيات طاعة الله تعالى، وطاعة الرسول هي الأيمان.
ولذلك نقول دائما: إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث عن عللها أولا، ثم الإيمان بها ثانيا، ولكن أقبلوا على أحكام الله أولا واسمعوا وأطيعوا، واخضعوا واخشعوا، ثم من بعد ذلك لا مانع من أن يقوم العقل بالتدبر والتأمل ليفهم شيئا من الحكمة التي من أجلها تم تحريم هذا الشيء أو ذاك، أقول بعض الحكمة وليس كل الحكمة، ذلك أن حكمة الله لا تتناهى ولا تدرك ولا يحاط بها.
وهناك فرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله تعالى للمؤمنين به، فان أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أن الإنسان قد آمن به، أما أمر البشر للبشر فمنهم من يقول مثلا: أقنعني حتى أفعل ما تأمرني به، لأن عقلك ليس أكبر من عقلي، ولسن بأقدر على الفهم مني والإنسان لا يصنع شيئا صادرا أليه من بشر إلا إذا اقتنع به، وأن تكون التجارب قد أثبتت لك أن من يأمرك بهذا الأمر، أنه لا يغشك فتأخذ كلامه مصدقا، أما المساوي لك فأنت لا تأخذ كلامه على أنه واجب التنفيذ بأنه الإله الواحد الذي خلقك وأوجدك، ومنحك مقومات حياتك وهو سبحانه الغني عنك، وعن الكون كله.
الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا أن نؤمن به فهذه الطاعة ليست لصالح الله ولكن لصالح البشر. فالله سبحانه قد خلقنا وهو غني عنا، ولا يطلب منه شيئا لصالحه، ثم إن طاعتنا لا تضيف إليه سبحانه شيئا، وحتى خلقه لنا لا يضيف له صفة جديدة، بل هو سبحانه خالق قبل أن يخلقنا.
الحق سبحانه وتعالى يريد منا الطاعة باختيارنا، لا بالإكراه، ولا بالقهر، فالعبد يعبد الله تعالى لأنه سبحانه وحده المستحق للعبادة، يعبده طاعة له باختياره، فالعبد كما هو معلون منحه الله تعالى حق الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن، فإذا اختار الإنسان الطاعة على المعصية فهو محب لله فعلا، فهناك فرق بين من يقره الله على الطاعة، وبين من يذهب إلى الطاعة باختياره.
***
الستر على الناس
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثل ما بعثتى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضا فكانت منها نقيّة قبلت الماء فلأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
إذن فالله سبحانه وتعالى قد شبّه الناس بالأرض وقسمهم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم على الهدى فانتفع به، ثم نقل ما عنده إلى الغير فنفع غيره، وهؤلاء مثلهم كمثل الأرض الخصبة التي ارتوت فأنبتت الزرع.
القسم الثاني: هم الذين يحملون المنهج ولا يعملون به، ولكن يبلغونه إلى الناس، وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه وتعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} الصف 2،3. فهؤلاء مثل الأرض التي حجزت الماء فشرب منه الناس ولكنها لم تأخذ منه شيئا ولم تنفع نفسها كما نفعت غيرها.
وعلى المسلمين في هذه الحالة أن يأخذوا علمهم ويدعوا عملهم، ويجب عليهم ألا يعرضوا بهم ويوكلوهم إلى الله تعالى لعله يهديهم أو يشرح صدرهم للعمل بما هم عليه من علم خاصة وأن التعريض بهم أو الفرح فيهم، يدور الآن على ما هم عليه من دين وليس على ما يفعلونه.
وفي الحديث: ~من ستر مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة} لأن من يعلم أمرا ما عن إنسان لا يصح أن يفضح ذلك الإنسان فليس هناك إنسان معصوم إلا الأنبياء والرسل، ولذلك فان لكل إنسان زلات، كذلك إذا رأيت زلة لعالم من العلماء فاسترها حتى ينتفع الناس بعلمه، لأنك إن أذعتها وانصرف الناس عنه، ولم يأخذوا من عمله ما كان من الممكن أن ينتفعوا به في الدنيا والآخرة، وقديما قال الشاعر.
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي وخلي العود للنار
القسم الثالث: وهم الذين لم ينتفعوا بمنهج الله تعالى، ولا نفعوا الناس به.
إذن فمنهج الله تعالى كالمطر الذي ينزل من السماء، مرة على أرض تنتفع به وتنفع الغير، ومرة ينزل على أرض لم تنتفع به الأرض ولا تنفع غيرها، ومرة ينزل على أرض لم تنتفع هي به، ولا نفعت به الغير.
التوكل على الله
يقول الحق سبحانه وتعالى:{ فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين} آل عمران 159.
إن فائدة الإيمان في هذه المعادلة الجميلة، أن الجوارح تعمل وعليها أن تأخذ بأسباب الله، والقلوب تتوكل على الحق سبحانه وتعالى، فالفلاح إذا أراد الزراعة لا بد أن يختار البذور، ويحسن التسميد، وأن يقوم بحرث جيّد للأرض، وأن ينتظم في مواعيد الري، وأن يحافظ على الزرع من الصقيع مثلا بتغطيته، ، فهذا كله من عمل الجوارح، وبعد ذلك تتوكل القلوب على الحق سبحانه وتعالى، إذن فلا يتأتى أبدا للفلاح أن يقول: المحصول آت لأنني أحسنت أسبابي، لكن المؤمن يتذكر دائما الحقيقة وهي أن فوق الأسباب خالق لها، فيقول: لقد فعلت كل ما أستطيع واستنفذت كل أسباب إتقان العمل، الله تعالى يقدر لي الخير ويبارك في زرعي.
لقد جاء الإسلام بهذه المعادلة، ليحقق الإيمان لإله له طلاقة القدرة يخلق بأسباب، ويخلق بغير أسباب، فالأسباب هي لجوارح البشر، وفوق الأسباب قادر حكيم، فالإنسان المؤمن حين يعمل فهو يأخذ بالأسباب، وحين يتوكل المؤمن فانه يرجو عطاء الحق سبحانه وتعالى خالق الأسباب.
إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يضع تلك المعادلة الجميلة في بؤرة شعوره دائما.
ولا يظن ظانّ أن التوكل هو توقف الجوارح عن العمل، فهذا هو التوكل الكاذب، والدليل على كون هذا اللون من التوكل كاذبا، أن صاحبه يترك لعمل فيما فيه من مشقة ويزعم التوكل، والأمر السهل لا يتوكل فيه.
إن الذي يأخذ بالتوكل الكاذب هو الذي يمتنع عن العمل، ولا أحد فينا يرى رجلا من هؤلاء يأتي إليه الطعام ولا يمد يده إليه ويتناوله، إننا نقول لمثل هذا الرجل: لو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى لقمة لتضعها في فمك واجعل التوكل الكاذب يقذف باللقمة إلى فمك.
ومعلوم أن الإسلام ينهى عن التوكل الكاذب، وبلادة الحس الإيمانى، لذلك الحق سبحانه وتعالى يقول:{ فإذ عزمت فتوكل على الله} ولتتأمل كلمة { عزمت} و {فتوكل} فنرى أن العزم يقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار اعجز، لأن معنى توكل الإنسان أن يعلن عجز أسبابه، ويلجأ إلى من عنده قدرة ليست عنده ونحن نرى إنسانا يقول: لقد وكلت فلانا في هذا الأمر لأنني لا أقدر عليه، إن معنى هذا إظهار عجزه، وأنه ذهب إلى من عنده القدرة ليفعل ما يعجز عنه هو.
فالتوكل الإيمانى هو تسليم زمام أمور الإنسان إلى الحق سبحانه وتعالى ثقة منه بحسن تدبيره وهذا هو التوكل المطلق، ولما كان الله تعالى هو سبحانه الذي أعطى الإنسان الأسباب فعلى الإنسان ألا يرد يد الله الممدودة بالأسباب ويقول له: عاوني يا رب، أ، اصنع لي، عليه قبل ذلك أن يستنفد كل الأسباب.
والحق سبحانه يقول في فاتحة الكتاب:{ إياك نعبد وإياك نستعين} الفاتحة 5، وهذا يعني أننا نعمل ونطلب العون من الله، ويقول الحق سبحانه وتعالى:{ إن الله يحب المتوكلين} لماذا يحبهم؟ لأن المؤمنين به قد أخذوا بأسبابه ثم توكلوا عليه بعد ذلك.
***
بين التوكل والتواكل
التوكل على الله يقتضي أن يعلم الإنسان أن لكل جارحة في الإنسان مهمة إيمانية تقف بالفكر عندما شرع الله، فالأذن تسمع فان سمعت أمرا من الحق فهي تنفذ الأمر، وان سمعت الذين يلحدون في آيات الله فإنها تعرض عنهم، واللسان يتكلم لذلك لا تقل به إلا الكلمة الطيبة، فلكل جارحة عمل، وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل، وحيث أن التوكل على الله هو عمل القلب. فإياك أن تنقل عمل القلب إلى عمل الجوارح، فتنقل التوكل إلى الجوارح فلا تعمل، إن السعي للقدم، والعمل لليد، والتوكل للقلب فلا تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد، لذلك فالتوكل الحقيقي هو أن الجوارح تجعل القلوب تتوكل فكم من عامل يعمل بلا توكل فتكون نتيجة عمله إحباطا؟!
إننا نجد أن الزارع الذي لا يتوكل على الله وتنمو زراعته بشكل جيد ومتميز قد تهب عليه عاصفة فيصاب الزرع بالهلاك ويكون الإحباط هو النتيجة.
انك أيها المؤمن عليك أن تحذر إهمال الأسباب، وإياك أيضا أن تغنمك الأسباب، انك إن أهملت الأسباب فأنت غير متوكل بل متواكل، فالتوكل عمل القلب، وأنت تنقل عمل القلب إلى الجوارح إن الجوارح عليها أن تعمل، والقلوب عليها أن تتوكل، وإذا قال لك واحد: أنا لا أعمل بل أتوكل على الله، قل له: هيا لنرى كيف يكون التوكل، وأحضر له طبق طعام يحبه، وعندما يمد يده إلى الطعام قل له: لا أترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك، إن هذا لفهم كاذب للتوكل!!.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق