إن للفكر الإسلامي مفاهيم لها ذاتيتها واستقلالها، قد تتطور مصطلحاتها تبعاً لتطور الحياة، ولكن مضامينها تظل ثابتة وراسخة وإلا تلاشت القاعدة التي تؤكد أن الإسلام من المرونة بحيث تستوعب أصوله تطور الحياة مكاناً وزماناً· وإذا كان الفكر الإسلامي قد ظل عدة قرون سليماً معافى وحائلاً دون أي تسلل لفكر دخيل، فإننا لا ننكر أن بداية اقتحام الفكر الدخيل محراب الفكر الإسلامي الأصيل قد تمت منذ وقت غير يسير عندما أخذ يدب الخلاف بين المسلمين، وأصبحت تطفو مذاهب وفرق وأحزاب شتى كل واحد منها يدعو إلى ما يخيل إليه أنه عين الصواب، وقد كان ذلك بسبب عدم استقامة في التفكير أو سبب ضعف الإيمان في النفوس مما أدى إلى التحلل من الالتزام بأسس الكتاب والسنة وتوجيهاتهما، يقول تعالى }فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} النساء59 .
وفي العصر الحديث ظهرت محاولات تغريبية لإذابة الفكر الإسلامي واستهدافه استندت إلى بعض رواسب الفكر المنحرف الذي سبق أن أثقل كاهل الفكر الإسلامي الأصيل، وقد امتدت جذور هذه الرواسب إلى يومنا هذا تتحدى الإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً، فكان هناك فكر منحرف نابع من داخلنا يتكلم باسم الإسلام ويتحدث باسم المسلمين، في حين كان هناك خطاب أجنبي يواجه الإسلام بعداوة سافرة يريد النيل من الإسلام عقيدة وفكراً وأسلوباً ومنهجاً وأكثر من يضطلعون به هم المستشرقون.
ان بحث وتحليل الخطاب الاستشراقي وموقفه من الفكر الإسلامي ليس بالأمر الهين، ذلك أن أية دراسة للمنهجية الغربية وتطبيقاتها المختلفة على الإسلام لا يمكن أن تتحقق بشكل تام، إذ ان المدى الجغرافي الشاسع الذي تكتسحه المنظومة الاستشراقية لا تكاد تغطيه دراسة واحدة أو دراسات، أضف إلى ذلك مشكلة اللغات العديدة التي يستخدمها مختلف المستشرقين، فالدارس العربي الذي يعرف الفرنسية الإنجليزية والألمانية يتمتع بميزة كبرى لكنها نسبية فقط، إذ هناك دراسات مفيدة في الموضوع بلغات أخرى·وسأحاول فيما يلي إبراز وتحديد آليات الخطاب الاستشراقي حيال الفكر الإسلامي مع بيان اهم مستوياته ومختلف المواقف التي وقفها الفكر الاستشراقي إزاء هذا الموضوع·
آليات ومواقف الخطاب الاستشراقي حيال الفكر الإسلامي
إنه من الناحية المبدئية يجب على المثقف والباحث المسلم رفض نتائج بحوث المستشرقين في دراستهم للفكر الإسلامي، ولكن مادامت تلك البحوث أمراً واقعاً وهي تغطي مساحات واسعة في مجال البحث التاريخي ولها وزنها وثقلها في الدوائر الأكاديمية وداخل الأوساط الطلابية بجامعاتنا العربية فلابد أن نتعامل معها على أساس الدراسة والنقد والتمحيص، ثم إن مناقشة أي من هؤلاء على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم ممن تناولوا موضوعات الفكر الإسلامي على مستوى التفاصيل والجزئيات لا تغني شيئاً لأنها ستكون بمثابة نقد موقوت لا يصل إلى بحث الجذور العميقة التي ستظل تنسج آراء هدامة وسلبية·
إننا لا ننكر أن الاستشراق بشقيه التقليدي والمعاصر قد قدم للفكر الإسلامي أشياء كثيرة نافعة لا يمكن تجاهلها وهي تتمثل في كثير من محاولات تحقيق التراث والنشر والتبويب والفهرسة، فضلاً عن التوجيه إلى الأخذ بالمناهج الحديثة في البحث والدراسة·
لقد قام المستشرقون بنشر الكثير من نفائس التراث الإسلامي نشراً علمياً ليس بيسير الانتفاع به، وهذا فضل للاسشراق لا يمكن غض الطرف عنه مهما تكن بواعث المستشرقين في ذلك·
إننا لا نرفض دراسات المستشرقين في مجال الفكر الإسلامي بشكل مطلق ولكننا نرفض الفكر الذي يعادي الإسلام، فنحن نرحب بكل فكر ما دام ليس فيه عدوان على الإسلام، لكن يبدو ان دراسات القوم في هذا المجال ليست جميعها على شاكلة واحدة فهناك مناهج متعددة وخطابات متباينة سنعرض لها فيما يلي:
المنهج العدواني في دراسة الفكر الإسلامي
لعل ابرز ما يميز هذا المنهج هو ذاتيته ومجانبته الكاملة للموضوعية إلى جانب عدوانيته السافرة وهو ما حدا بنا إلى وصفه بالمنهج العدواني في دراسة الفكر الإسلامي، وهذا المنهج المتطرف قد شكلته المدرسة الاستعمارية الاستشراقية التي تزعمها كل من الاستشراق الإنجليزي والاستشراق الفرنسي، وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن الدكتور محمد البهي رحمه الله قد وضع كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) (2) لفضح هذه السياسة الاستعمارية وما أفرزته من مدارس استشراقية تحمل طابعاً إيديولوجياً قبل الطابع العلمي، مما دفعها إلى التسلح بالأحكام المسبقة والإسقاطات المضللة·ويمكن القول بأن أصحاب هذا المنهج العدواني من المستشرقين قد واكبوا في أبحاثهم ودراساتهم عملية الغزو العسكري للدول الغربية والإسلامية وذلك بفتح الجبهات الثقافية والفكرية للعدو المحتل وهو ما يتمثل في قيام بعض المستشرقين بإبراز الخلافات المذهبية والفكرية والتأكيد على الفجوات والثغرات بين طوائف المسلمين وشعوبهم وذلك من الوجهة الشعوبية أو الجغرافية أو التاريخية، مع شرح كثير من مبادئ الإسلام شرحاً يشوهها وينحرف بها عن اهدافها الأصلية وذلك كله بالإضافة إلى تمجيد الفكر الغربي وإظهار تفوقه على الفكر الإسلامي·
وهذا الصنف من المستشرقين يسعى إلى التأكيد على أن الإسلام ليس واحداً إنما هو متعدد حسب شعوبه وحسب اختلاف العوامل الثقافية التي تأثر بها مسلمو هذه الشعوب من فهم الإسلام، فهناك إسلام سني وإسلام شيعي وإسلام أوروبي· ثم يذهبون أيضاً إلى أن الإسلام هو متعدد حسب طوائف المسلمين، فهناك إسلام المتصوفة وإسلام الفقهاء والإسلام الحركي والإسلام الشعبي والإسلام السياسي والإسلام الراديكالي إلى غير ذلك·
ولعل من المفيد التنبيه إلى أن المنهج العدواني المصاحب للمدرسة الاستعمارية في الاستشراق قد وضع نفسه ضمن إطار حضاري شمولي هو إطار المركزية الأوروبية التي تقوم على مبدأ أهلية وأحقية الإنسان الأوروبي في التمدن والتقدم ونفي هذه القابلية عن غيره، وهو يقوم على الزعم بخمول العقل العربي وتحجر الفكر الإسلامي وتعلقه بالتقاليد الموروثة منذ القدم وعجز عقل الإنسان القاطن في جو الصحاري الحار على الابتكار والإبداع·
وهكذا يمكن القول بأن الغرب قد حاول في المرحلة الاستعمارية أن يكتشف الفكر الإسلامي من جديد لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي لوضع خططه السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسيات الغربية لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها، وقد حاول المستشرقون المتعاونون مع الإستعمار إضعاف المقاومة الروحية و المعنوية في نفوس المسلمين، وذلك بالتقليل من أهمية قيم الفكر الإسلامي الأصيل ومحاولة تلفيق فكر دخيل أريد له أن يحل محل الفكر الإسلامي الصحيح·
ومن أجل تحقيق هذه الأغراض سعى أصحاب المنهج العدواني في دراسة الفكر الإسلامي إلى تقويض أسس ومبادئ الفكر الإسلامي بوسائل شتى تنطلي خطورتها على غير القلة من المتخصصين· ومن بين تلك الوسائل ما يلي:
منهج الأخذ بالنزعة التأثيرية
ويعني نزعة التأثر والتأثير وهي نزعة دراسية يأخذ بها كثير من المستشرقين الذين اعتادوا رد كل عناصر منظومة الإسلام بعد تجزئتها إلى اليهودية والنصرانية أو إليهما معاً· لقد ظهر في عام 1837 كتاب أبراهام غايغر حاملاً العنوان المثير "ماذا أخذ القرآن عن اليهودية؟" (2) فكان ذلك إيذاناً ببداية حقبة جديدة في نطاق هذه النزعة اتخذت مسوح "العلمية الموضوعية" وأقبلت على تجاذب الفكر الإسلامي وتقطيع أوصاله، فالمستشرقون اليهود أمثال غايغر وجولدزيهر وبرنارد لويس مالوا إلى إبراز دعوى تأثر الإسلام باليهودية· والمستشرقون النصارى مالوا إلى إظهار العناصر المسيحية في الإسلام، لكن أحداً منهم لم يلتفت إلى كيفية صيرورة الإسلام ديناً مستقلاً ذا منظومة شاملة ومتناسقة العناصر برغم تكونه المزعوم من شذرات متناقضة، وهذه النزعة التأثيرية تشكل خطورة كبيرة على وحدة الفكر الإسلامي وأصالته لأنها تقضي على الأفكار الإسلامية قضاء مبرماً، والأحكام التعسفية المرتبطة بهذا المنهج تكون حاضرة في كتابات المستشرقين كلما وجد تشابه بين الأفكار الإسلامية وغيرها من الأفكار الأجنبية مهما كان التشابه كاذباً ملفقاً وغير حقيقي· إن الخطاب الاستشراقي في دراسته للتصوف الإسلامي مثلاً يرجعه إلى أصول خارجية كالعنصر الفارسي أو الهندي لا لشيء إلا لوجود عناصر متشابهة بين التصوف الإسلامي والتصوف الفارسي مثلاً·
وهذا الخطاب لا يؤمن بأن التصوف الإسلامي الخالص مرده إلى عناصر القوة الروحية في الإسلام وإلى قضايا ترتبط بالزهد والعبادة· إن تأثر المستشرقين بمنهج الأثر والتأثر (3) راجع إلى كون هذا المنهج قد طبق بصورة صارمة في بيئتهم، ذلك أن النهضة الأدبية الأوروبية قد تأسست على الحضارة اليونانية، وما أنشئ مذهب فكري وديني جديد إلا ووجد له نظير في الحضارة اليونانية القديمة، ومن خلال هذا الحكم تم تطبيق هذا المنهج على الفكر الإسلامي دون أدنى اكتراث بخصوصيات الفكر الإسلامي ذي الأصول والأسس الواضحة المؤسسة على معايير دينية وبيئية أصيلة مستمدة من القرآن والسنة النبوية·
القول بالإنشطارية
الانشطارية تعني الفصل بين القيم المتكاملة في الفكر الإسلامي والقول بعجزها عن التفاعل والترابط وعدم قدرتها على الاستيعاب والتكامل· والمستشرقون الغربيون يعون جيداً مدى تكامل المعرفة الإسلامية والفكر الإسلامي المبني أساساً على التكامل بين قيمه ومثله والترابط بين مختلف جوانبه، ولكنهم عندما يحاولون دراسة بعض مباحث الفكر الإسلامي فإنهم يسعون جاهدين إلى تجزئتها وعزل بعضها عن بعض بقصد التأكيد على استحالة التقاء عناصر القوة والتكامل في كل واحد· وقد نحا الخطاب الاستشراقي الحديث هذا المنحى بناء على سيادة روح الانشطارية في الفكر الغربي أصلاً ومحاولة تطبيقها على الفكر الإسلامي وتجدر الإشارة إلى أن الإنشطارية في الفكر الغربي قد انطلقت من منطلق الفصل بين الدين والدنيا، فترتب عنها تقبل هذا الفكر لكل الإيديولوجيات والمناهج الاجتماعية والمذاهب الاقتصادية مهما تنوعت اتجاهاتها ما دامت لا تخضع للدين، أما في الإسلام فإن المسلم يوفق بين الدين والدولة والعبادة ومنهج الحياة، كل ذلك لا ينفك ولا ينفصل·
ولعل أبرز ما وصلت إليه الانشطارية في الفكر الغربي وحاول المستشرقون تطبيقه على الفكر الإسلامي هو الدعوة إلى الانفصال بين الحاضر والماضي، فإنكار الماضي كلية مع الدعوة إلى الانفصال عنه تعتبر من خصائص الفكر الغربي، وهو مايحاول بعض المستشرقين نقله إلى الفكر الإسلامي، ولذلك نجد ثلة منهم يرمون التراث الإسلامي بكل مهانة وانتقاص، بل انهم ينكرون على زملائهم من التقليديين إضاعة الوقت في تكريس الاتجاهات المطلوبة )مواقف مكسيم رودنسون وبرنارد لويس)· ولذلك فإن معظم المستشرقين لا يسلكون مسلك المسلمين في التدليل على قيمة الإسلام وتراثه الخالد في صلته بالحياة·
انهم ينكرون ان يكون للفكر الإسلامي المعاصر أصول ومعالم لا تتغير ترجع إلى الأصول الأولى للإسلام، إذ الفكر الإسلامي الصحيح "هو الذي يحافظ على قيمة الإيمان بالإسلام، وقيمة المبادئ التي جاءت بها رسالة الإسلام للإنسان في حياته الفردية أو مجتمعه مع غيره" (5)·إن الفكر الإسلامي هو التعبير عن منظومة الإسلام بكل شمولها وعموميتها في العقيدة والشريعة والسياسة والاجتماع والتربية والأخلاق، إذ لا يمكن بحال - كما يريد المستشرقون - الفصل بين الإسلام والفكر الإسلامي، فمنابع الفكر الإسلامي تتسع لمصادر التشريع ولكنها لا تقف عند حدودها بل تتجاوزها إلى منبع أصيل هو الرأي الذي هو ثمرة الاجتهاد، وإذا كانت مصادر التشريع هاته هي المكونات لبناء الإسلام ديناً ودولة، عقيدة وشريعة، نظاماً وسلوكاً فإن الفكر الإسلامي هو حارس هذا البناء لا يمكن تمييزه عنه أو القول بفصله عن الماضي أو أصول الإسلام·
محاولة تغريب الفكر الإسلامي
هذه المحاولة تكاد تكون مصاحبة لكل مراحل الاستشراق ومتداخلة مع كل التيارات· لقد كشف هاملتون جب في كتابه <وجهة الإسلام" إن هدف البحث هو معرفة: <إلى أي حد وصلت إليه حركة تغريب الفكر الإسلامي وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب" (6)، ويمكن لقارئ الكتاب أن يكتشف أبرز مناهج التغريب التي يسقطها المستشرقون على الفكر الإسلامي الحديث·
ومصطلح التغريب هذا يقصد به خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه ثم تحاكم الفكر الإسلامي من خلالها بهدف تسييد الحضارة الغربية على غيرها ولا سيما الحضارة الإسلامية وإظهار تفوق الفكر الغربي على الفكر الإسلامي· وقد حاول علماؤنا الأسلاف عبر القرون الحيلولة دون هيمنة الفكر الوافد أو العقلية الخارجية المتمثلة في ثقافات اليونان والهنود والمجوس واليهود، وتمثل مختلف صور المقاومة هاته أبرز ملامح تاريخ الفكر الإسلامي، وقد ظل أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث يتنبهون إلى خطورة المناهج التغريبية في مجال الفكر الإسلامي ويواجهون أخطر المحاولات الدائمة في سبيل تحريف أصوله وأسسه ومرتكزاته الأصيلة، إن سياسة تغريب الفكر الإسلامي من طرف الخطاب الاستشراقي يتمثل أساساً في حمل المسلمين على قراءة تاريخهم وفكرهم من خلال مناهج الغرب ومقاييسه ومحاولة خلق "دائرة فكر"تهدف إلى تحطيم المسلمات والبدايات التي يؤمن بها المسلمون، وانتقاص الفكر وإشاعة الشبهات والطعون والتقليل من أهمية التراث·.
بقلم الدكتور حسن عزوزى
الهوامش
1) يعتبر الكتاب الذي طبع طبعات متعددة من أبرز الكتب التي تصدت لمحاولات تشويه معالم الفكر الإسلامي وتجفيف منابعه، ويقع الكتاب في أكثر من ستمئة صفحة·
2) Abraham Geiger: Was hat Muhammad aus dem Judentum aufgenom men
3) لقد كان المستشرق الإسباني بالاثيوس Palacios أشهر من هيمنت على كتاباته فكرة التأثير والتأثر بين الإسلام والمسيحية وخاصة في كتابه "الإسلام في ثوب نصراني" Islam christianise باريس· (1982)
4) محمد البهي: الفكر الإسلامي في تطوره ، مكتبة وهبة، القاهرة ط2/ 1981 ص 12
5) 5) Hamilton Gibb: Les tendances modernes de lصIslam Paris 1949 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق