تلاقي الدعوة إلى فقه الأقليات مع الخطة الرامية إلى تجزئة الإسلام
د. محمد سعيد رمضان البوطي
في الوقت الذي يخطط أئمة الغزو الفكري في العالم، لتجزيء الإسلام العالمي الواحد إلى ~إسلامات} إقليمية متعددة، ومن ثم مختلفة فمتصارعة، تتعاظم وتتلاحق الأصوات الداعية إلى إيجاد ما يسمونه بـ ~فقه الأقليات} وتفصيله كسوةً إسلامية مناسبة للإسلام الذي يتنامى اليوم في الغرب بشطريه الأوربي والأمريكي، دون الإسلام الآخر المنتشر في الأوطان الإسلامية عامة.
ولقد قلت سائلاً: ما هي المستندات أو الأسس التي ينبغي أن يستولد منها ~فقه الأقليات} هذا؟
فقيل لي: إنها كثيرة: قاعدة المصالح.. الضرورات تبيح المحظورات.. المشقة تجلب التيسير.. ما جعل عليكم في الدين من حرج.
قلت: ولكنّ هذه المستندات ليست خاصة للمسلمين المقيمين في أوربا وأمريكا.. إنها مستندات لفقه إسلامي عالمي لا وطن له، ولم تكن يوماً ما مستندات لما تسمونه ~فقه الأقليات} دون غيره. فحيثما وجدت الضرورة بمعناها الشرعي المعروف ارتفع الحظر المسبب لها، وأينما وجدت المشقة التي تتجاوز الحدّ المعتاد، تثبت الرخصة الشرعية المتكفلة برفعها، وحيثما تعارضت المصلحتان في سلّم المقاصد الشرعية، قدّمت الأَوْلَى منهما.. ولم نجد في قرآن ولا سنة، ولا في كلام أحد من أئمة الشريعة الإسلامية، أن هذه المستندات خاصة بحال الأقليات التي تقيم في ديار الكفر، فلا يجوز لغيرهم من المسلمين في العالم الإسلامي الأخذ بها والاستناد إليها.
قيل لي: إن الضرورات التي تنبثق منها الحاجة الماسة إلى فقه خاص بتلك الأقليات، نابعة من وجودهم في مجتمعات غير إسلامية، لها خصوصياتها المتميزة عن المجتمعات الإسلامية!
قلت: أي إسلام هذا الذي يقرر أن مجرد وجود المسلم في دار الكفر يعدّ ضرورة تبرر تشريع فقه إسلامي خاصٍ به ينسجم مع ما يحيط به من تيارات الكفر والفسوق والعصيان؟!.. إذن فلماذا شرع الله الهجرة وأمر بها، من دار الكفر (إن لم يتح للمسلم تطبيق أحكام الإسلام فيها) إلى دار الإسلام. وهلاّ أقام رسول الله وصحبه بين ظهراني المشركين في مكة، مستندين في ذلك إلى هذا الذي لم يكن يعرفه مما تسمونه ~فقه الأقليات}؟
وإذا كان مجرد وجود المسلمين في دار الكفر مصدراً لضرورة تبرِّرُ ابتداع فقه جديد يناسب حال تلك الدار ومن فيها، فمن هم الذين عناهم الله تعالى بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولَئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً}[النساء: 4/97].
لقد كنا نستبشر بأن تزايد المسلمين في الغرب مع التزامهم بالإسلام وانضباطهم بأحكامه، يبعث على ذوبان الحضارة الغربية الجانحة في تيار الحضارة الإسلامية.
ولكنا اليوم، وفي ظل الدعوة الملحة إلى ما يسمى بـ~فقه الأقليات} نعلم أننا مهددون بنقيض ما كنا نستبشر به، إننا مهددون بذوبان الوجود الإسلامي في تيار الحضارة الغربية الجانحة، بضمانة من هذا الفقه.
ألا فليتق الله أئمة هذه الدعوة التي لا عهد لنا بها قبل اليوم، وليعلموا أن ثمرتها تحقيق ما يراد بالإسلام اليوم، من تحويله إلى إسلامات إقليمية متنوعة. وإن لنا في المجامع الفقهية الكثيرة في عالمنا العربي والإسلامي ما يغني عن ابتداع مرجعيات خاصة، متخصصة بهذا الفقه الإسلامي الجديد الذي لا عهد للشريعة الإسلامية به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق