ظهر في العام 2004 كتاب أثار ضجة هائلة بعنوان ~اعترافات قاتل اقتصادي مأجور} لمؤلفه جون بيركنز والذي يدعي فيه الكاتب أنه عمل لدى شركة تشاس تي ماين وهي شركة استشارات عالمية وكان في يوم من الأيام أحد هؤلاء القتلة وقام بتأليف الكتاب كسيرة ذاتية له.
طبقاً لمؤلف الكتاب فالقتلة الاقتصاديون المأجورون هم محترفون ذوو رواتب مرتفعة يتم استخدامهم لخداع الدول حول العالم حيث يقومون بتصريف الأموال من البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) ومؤسسات المعونة الدولية لجيوب الشركات الكبيرة ومجموعة من العوائل الغنية التي تتحكم بمصادر الثروات العالمية. وتتلخص أدواتهم في التقارير الاقتصادية والرشاوي والجنس وتزوير الانتخابات وحتى الاغتيالات. إنها لعبة بناء الإمبراطوريات على حد قوله ولكنها أخذت ~بعداً جديداً أكثر بشاعة في عصر العولمة هذا}. طبقاً لبيركنز فوظيفته كانت تتلخص في دفع قادة الدول ليصبحوا جزءا من شبكة المصالح التجارية الأمريكية ويتم إيقاعهم في فخ الديون مما يضمن ولاءهم ويضمن لأمريكا أن تقوم باستخدامهم وقت الحاجة لأغراض سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وهؤلاء الأشخاص رغم كونهم يعملون في شركات تتبع القطاع الخاص إلا أن لهم ارتباطا بوكالة الأمن القومي والمخابرات على حد قوله وهو مصدر الذكاء والقوة في هذه اللعبة.
المؤلف قام بتسمية هذا التحالف المكون من الشركات والبنوك الدولية والحكومة بالكوربقراطية) نسبة إلى كلمة كوربوريشن والتي تعني الشركات. ووظيفة الكوربوقراطية هي القيام بتوجيه وتوسيع النظام العالمي المحرك لعملها فحياة الأشخاص ~الناجحين} أو الذين ~وصلوا} من قصور ويخوت وطائرات خاصة يتم تصويرها كمصدر إلهام للناس وكحافز للأشخاص لكي يستهلكوا ويستهلكوا ويستهلكوا حتى تصبح القناعة العامة أن الاستهلاك هو واجبنا الاجتماعي وبالتالي ظهور الحاجة الملحة لنمو الدول وبأقصى سرعة.
المسألة لا تكمن في كونها مؤامرة ولكنها نتاج مبدأ ظهر وتم تثبيته في العقلية الحديثة مفادها أن كل النمو الاقتصادي محمود ويفيد الإنسانية وأنه كلما كان النمو أكبر كلما كانت المنافع أعّم وهذا هو جوهر النظام المحرك للعالم اليوم. وقد دخلت الكوربوقراطية على هذا الخط مستهدفةً بناء إمبراطوريتها الحديثة ومستخدمةً وسائل لم يسبقها إليها أي من الإمبراطوريات السابقة. إن جسامة بناء هذه الإمبراطورية الحديثة على حد قول المؤلف يجعل كل القوى الاستعمارية السابقة تشعر بالخزي، إن مستعمري اليوم لا يحملون سيوفا وأسلحة بل دراسات وتقارير وتوقعات اقتصادية.
يعمل هؤلاء الأشخاص بأسلوب المافيا حيث يقومون بإعطاء قروض تنموية للدول لبناء البنية التحتية من طرق ومحطات كهرباء وموانئ ومطارات ومدن صناعية وذلك بعد أن يظهروا طبقاً لدراساتهم الاقتصادية حاجة الدول لمثل هذه المشاريع لكي يحققوا حلم النمو. وتعتمد القروض على شرط أن تقوم شركات أمريكية ببناء هذه المشاريع. في الحقيقة فإن الأموال لا تغادر الولايات المتحدة ولكنه يتم نقلها من ~مكاتب البنوك في واشنطن إلى شركات الهندسة في نيويورك وهيوستن وسان فرانسيسكو}. الأموال يتم تحويلها للشركات التابعة للكوربوقراطية مباشرةً وعلى الدول التي تم إهداؤها هذه القروض القيام بتسديدها إضافة إلى الفوائد المترتبة عليها. وإذا كان القاتل الاقتصادي المأجور ناجحاً جداً فإن الدين يكون كبيراً جداً لدرجة تجعل الدولة المدينة عاجزة عن السداد بعد عدّة سنوات. وبعد أن يحدث ذلك فإنه و~مثل المافيا} بحسب تعبير بيركنز يتم إدخال الدولة في شبكة الإمبراطورية الأمريكية حيث يتم التحكم بالأصوات في الأمم المتحدة أو الحصول على قواعد عسكرية أو امتيازات في مصادر الثروة التابعة لتلك الدولة كالنفط والمعادن وبالطبع فإن الدولة المدينة تظل مطالبة بسداد الأموال وهكذا تتم إضافة دولة جديدة للإمبراطورية الدولية.
ذكر جون بيركنز الإكوادور كأحد الأمثلة على ما قام به هؤلاء القتلة حيث يقول ~بسببي أنا وزملائي القتلة الاقتصاديين فإن الإكوادور في وضع أسوأ بكثير اليوم مما كانت عليه قبل أن نقوم بتقديم معجزات الهندسة والمصرفية والاقتصاد الحديث لها. منذ السبعينات الميلادية خلال الفترة المتعارف عليها بطفرة النفط زادت نسبة الفقر الرسمية من 50% إلى 70% والبطالة زادت من 15% إلى 70% والدين العام زاد من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار إضافة إلى انخفاض حصة الثروة الوطنية المخصصة للشريحة الفقيرة من الشعب من 20% إلى 6% يعزو جون بيركنز نشوء الكوربوقراطية بداية من روبرت مكنمارا الذي كان وزيراً للدفاع في عهد جون كينيدي وقبل ذلك رئيساً لشركة فورد وهو أول رئيس لها من خارج عائلة فورد ثم رئيساً للبنك الدولي بعد تركه وزارة الدفاع. وطبقاً لبيركنز فمكنمارا مثّل رمزاً للتحالف العسكري الصناعي، فهو كان رئيساً لشركة عملاقة ثم وزيراً في الحكومة ثم رئيساً لأقوى بنك في العالم. واعتبر جون بيركنز أعظم إسهامات مكنمارا وأكثرها شرّا تحويله البنك الدولي لأداة في خدمة الإمبراطورية الدولية بطريقة لم يسبق لها مثيل فهو قام بمد الجسور بين مكونات الكوربوقراطية وهو الأمر الذي قام خلفاؤه من بعده بإكماله وتحسينه. فجورج شولتز كان وزيراً للخزانة في عهد نكسون ثم رئيساً لشركة بكتل ثم وزيراً للخارجية في عهد ريجان. كاسبر وينبرجر كان نائباً للرئيس في شركة بكتل ثم وزيراً للدفاع في حكومة ريجان. ديك تشيني كان وزيراً للدفاع في عهد بوش الأب ثم رئيساً لشركة هاليبرتون ثم نائباً للرئيس في عهد بوش الابن.
بالطبع كان للسعودية نصيب من أعمال بيركنز فعلى عكس الدول الفقيرة فقد أوجدت طفرة النفط الأموال اللازمة للدفع بعملية النمو وتحويل الصحراء إلى دولة حديثة. وطبقاً لبيركنز فإن الرؤية التنموية السعودية تمثلت في بناء اقتصاد يعتمد على إنتاج وصناعة البترول وبالتالي الحاجة إلى مدن صناعية مساندة وهذا سيتطلب بناء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية وشبكة لنقلها وتوزيعها وبالتالي طرق سريعة وأنابيب نقل بترول وشبكة اتصالات وموانئ ومطارات وخدمات مساندة وبنية تحتية. وبما أن الشعب السعودي أبت كرامته أن يتحول إلى مجتمع عمال فقد ظهرت الحاجة إلى استيراد آلاف العاملين بين ليلة وضحاها مما تطلب بناء مدن سكنية عملاقة بما فيها من مستشفيات ومدارس ومراكز تسوق ومحطات لتحلية ومعالجة المياه. طبقاً لبيركنز فالسعودية كانت خيالاً يتحقق لأي شخص مرتبط بأعمال الهندسة والبناء وحلما يتحقق على أرض الواقع لكل من له علاقة بالتخطيط، لقد كانت فرصة اقتصادية لا مثيل لها في التاريخ تمثلت في وجود دولة بمصادر ثروة هائلة ورغبة لدخول العصر الحديث بطريقة كبيرة وسريعة.
نجاح القتلة الاقتصاديين تمثل في نجاحهم بإقناعنا أن نستخدم أموال النفط في شراء سندات الخزينة الأمريكية واستخدام الأرباح في الدفع للشركات الأمريكية التي ستقوم بأعمال البناء. وبالتالي ربط أموالنا مع المصالح الأمريكية والشركات الأمريكية فإضافة إلى أعمال البناء فإن الجزء الأهم تمثل في أعمال الصيانة الخاصة بكل هذه المشاريع العملاقة وهو ما أورده جون بيركنز من أن شركات كـ ~ماين} و~بكتل} و~براون أند رووت} و~هاليبرتون} و~ستون أند وبستر} وغيرهم ربحوا بوفرة لعدة عقود. بحسب تعبيره فإن السعودية مثلت في ذلك الوقت ~البقرة التي بإمكاننا حلبها حتى تغيب الشمس على أيام تقاعدنا}
يقول جون بيركنز إنه من السهل علينا أن نلقي باللائمة على مؤامرةٍ ما ، ولكننا لا نستطيع فالإمبراطورية العالمية تعتمد على فعالية البنوك الكبيرة والشركات والحكومة (الكوربوقراطية) وهذه الكوربوقراطية هي نحن ونحن ما يجعلها تحدث ولذلك نجد من الصعب مواجهتها لأن معظمنا إما يعمل لدى إحدى هذه البنوك أو الشركات أو الحكومة أو بطريقة ما نعتمد عليها من أجل السلع والخدمات التي تقدمها ولا يمكننا أن نعض يد السيد الذي أطعمنا. لقد حذر الرئيس أيزنهاور الشعب الأمريكي في خطبة مغادرته بعد انتهاء فترة حكمه من تنامي قوة التحالف العسكري الصناعي في أمريكا متوقعاً نشوء سيناريو مشابه لما يحدث اليوم ، ونحن لسنا بصدد تحليل هذا الأمر بقدر ما نود البحث عن الدروس المستفادة منه.
هناك عدة أمور يمكن النظر إليها:
آن الأوان لشركاتنا أن تلعب دورا أكبر على الصعيد الدولي فالشركات اليوم أصبحت لاعباً على المسرح السياسي وبما نملكه من شركات وطنية عملاقة فإنه يجب على هذه المؤسسات الدخول على خط اللعبة عالمياً علينا أن نأخذ مسألة التنمية بأيدينا فلدينا الآن من الكفاءات الشابة جيدة التعليم ما يمكننا من الاعتماد عليه ونحن لله الحمد قادرون على صنع مستقبلنا بأيدينا بعيداً عن تدخل الآراء الأجنبية.
علينا صوغ النموذج الخاص لتنميتنا وعدم استيرادها معلبة من الخارج وهذا لا يمنع دراسة الأنظمة الأخرى ولكن يجب أن يكون لدينا مؤسسات فكرية وأكاديمية خاصة تعنى بدراسة هذه الأمور فأين هو دور الجامعات ومراكز الدراسات ووزارة التخطيط من كل هذا اللغط؟ وما هي الرؤية التي نراها لدولتنا خلال المئة عام القادمة؟
سعود عبد العزيز كابلي ـ باحث في العلاقات الدولية
عن جريدة الوطن السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق