الفساد
يأتي الفساد من أن ينقل الإنسان سلوكا من مجال افعل إلى مجال لا تفعل، وأن ينقل الإنسان سلوكا من مجال لا تفعل إلى مجال افعل.
مثال ذلك: أن المنهج الإلهى يقتضي أن يشهد الإنسان بأن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله، فالإنسان الذي يعلن ذلك هو الذي عليه أن يتقبّل تكليف الله، والإنسان الذي ينكر ذلك هو الذي ينقل سلوكا من مجال افعل إلى مجال لا تفعل، ذلك أن قول: أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، هذا القول هو تجديد للعهد الذي بين العبد وبين خالقه سبحانه، وبالتالي فهو التزام كامل بمنهج الله تعالى.
وكذلك الإنسان الذي يعرف أن الصلاة ركن أساسي تقوم عليه حياة الإنسان في الإيمان، فهذا الإنسان إن أخلص في أداء الصلوات الخمس كان ذلك عاصما له من زلات الشيطان أو إتباع الهوى وكذلك الصيام والزكاة، وأيضا عندما يأمر الحق سبحانه وتعالى عبده بالا يشرب الخمر مثلا عندئذ فالعبد الذي يطبق منهج الله هو الذي ينتهي على الفور من شرب الخمر، والعبد الذي يظل في الشرب هو من خالف منهج الله تعالى في افعل ولا تفعل.
إذن، فالإفساد في الأرض هو من آثر هواه على منهج الله، مثل الذي يأكل أموال الناس بالباطل ويكثر من اغتصاب عرق وتعب الآخرين فهذا إنسان لا يطبق منهج الله وهو مفسد في الأرض.
لذا يجب أن نطبق هذه القاعدة في سلوك كل إنسان وهي: أن من يطبّق منهج الله فقد أصلح نفسه، وانسجم مع أوامر خالقه، ونال رضا الله بعد أن قام بمسؤولية الاختيار، وأداها كما يجب أن تؤدى.
أما من لا يطبق منهج الله فقد أفسد نفسه، وأفسد سلوكه.
ذلك لأنه وقف من منهج الإيمان من موقف السلب، فلم ينفذ أمر الله، وقد أخل بعهده مع الله.
وهكذا نرى إن خروج الإنسان بفعل ما من مجال إلى مجال في تشريعات الله تنطبق عليه العناصر الثلاثة التي حددها الله في وصفه للفاسقين أو أحدهما، وهي:
¯ نقض العهد.
¯ قطع لما أمر الله أن يوصل.
¯ إفساد في الكون.
إن المجتمع عندما لا ينتظم الأفراد فيه بمنهج الله تعالى تجده مضطربا؛ لأن كل إنسان سيفعل ما يحلو له، فسنجد التصادم في سلوك البشر ورغباتهم، وسنجد النقض للعهد، والقطع لما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض.
إن الفساد قبح لجمال الوجود، ذلك أن المفسد في الأرض هو الذي يخرج الشيء عن حد اعتداله لمهمته، ولنا أن نعرف أن فعل المفسد في الأرض يشكل قبحا في الوجود، وينطبق الإفساد في الأرض على المستغل لحاجات البشر فمثل الذي يخفي سلعة لها هامش ربح محدود وينكرها ليزيد من ارتفاع الأسعار بما يفوق طاقة البشر، وكذلك المستغل لحاجات البشر في الإسكان فيأخذ أموال الناس ليبني بها ولا يعطيهم حقوقهم ويستغل احتياجاتهم إليه فيقوم بسلب أموالهم. هذا إفساد في الأرض، لأنه قهر من إنسان قادر لإنسان غير قادر، ونشر للكراهية بين البشر، وخروج عن مقتضى منهج الله، هذا القبح والإفساد هو كإفساد الصانع لصنعته، أو كالسباك الذي ينفذ شبكة للصرف الصحي في مبنى جديد فلا يتقن صنعته فيفسد المبنى كله. إن في ذلك هدرا لإمكانات كان بالإمكان أن يستفيد منها المجتمع كله في مجال من المجالات.
إن المهندس أو المقاول الذي لا يقيم البنيان على أسس سليمة فهو لا يصون حياة البشر الذين يسكنون فيه، فهذا الإنسان هو مفسد في الأرض، ولكن في المجتمع المؤمن رباط الإيمان يقتضي في رزقه، ويفتقد التواصل مع ضميره الإيمانى، كما يفتقد الإحساس بأخوة الايمان، وعندما نجد مهملا أو مفسدا أو حتى مغاليا في الثمن فإننا نسمع صيحة افتقاد الصانع أو الموظف للذمة، وتنتشر في المجتمع روح الأنانية، والفردية التي لا تعرف التآخي الإيمانى.
وهكذا نجد إن مفسدا واحدا أو قلة من المفسدين أو المستغلين ينشرون الرذيلة في المجتمع كله، فكيف يكون الحال لو تعاون الناس على الإثم؟ انهم إن فعلوا ذلك هدموا الخير كله.. والتعاون على الإثم يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر الله في افعل ولا تفعل.
والذي يأمر بتطبيق أمر الله في افعل وينتهي بأمر الله لا تفعل هو من المتعاونين على البر والتقوى، ومن يعمل ضد ذلك فهو من المتعاونين على الإثم والعدوان، لماذا؟ لأنه ينقل الأفعال من دائرة افعل إلى لا تفعل، وينقل النواهي من دائرة لا تفعل إلى دائرة افعل.
مثال ذلك من يؤلف أغنية خليعة مثيرة ومهيجة للغرائز فهذه تكون أول لبنة في الإثم، ثم يلحنها ملحن بإيقاع يساعد على ذلك فهذه اللبنة في التعاون على الإثم، ثم يغنيها ثالث بإيحاءات مثيرة للغرائز فهذه درجة ثالثة من التعاون على الإثم، والذي يصفق الربا لهذا هو متعاون على ذلك أيضا، ولهذا يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة 2.
هذا القول هو أساس عمارة الكون، وكما أنه أساس منع الفساد في الكون.
كذلك الذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة. والذي يحمل الخمر للناس والذي يشربها والذي يدلس كل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان، حتى إن البواب الذي يجلس أمام مدخل العمارة ويعلم أن بها بيتا يدار في أعمال مشبوهة كلعب القمار أو الدعارة أو ما شابه ذلك من المفاسد ويأخذ الثمن على ذلك فهو من المتعاونين على الإثم.
***
الخيانة
يقول الحق سبحانه وتعالى:{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما} النساء 107.
يأمر الله سبحانه وتعالى بعدم المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم، والجدل من الفتل، فالإنسان حين يفتل شيئا كأن يحضر بعضا من الشعر والصوف أو الليف ويجدله ليصنع منه حبلا فانه يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله يتحمل الشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العملية : إننا نجدل الحبل لنعطيه قوة. فكذلك شأن الخصمين كل واحد يريد أن يقوي حجته ضد الآخر فيحاول جاهدا أن يقوها بما يشاء من أساليب العقل أو الفصاحة.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى { يختانون أنفسهم} فلا بد أن لهذا معنى كبيرا، إن الخيانة هي أخذ ما ليس بمستحق، أي بغير حق، وقد تسوّل للإنسان نفسه أن يخون غيره لكن هل من المقبول أن يخون الإنسان نفسه؟!
إن الإنسان قد يخون من أجل مصلحة نفسه، لكن لا يخون نفسه.
وعلينا ألا نأخذ المسألة بعجل أثر الخيانة ذلك لأن الإنسان حين يريد أن يعطي لنفسه شهوة عليها عقوبة فهذه خيانة للنفس، لأن الإنسان في مثل هذه الحالة أغفل العقوبة عن الشهوة؛ إن الشهوة عابرة لكن العقوبة باقية وهذه خيانة للنفس.
الإنسان الذي يخون الناس إنما يخون نفسه فإذا ما خان الإنسان نفسه فهي عملية ليست سهلة وتتطلب افتعالا، ومن هنا جاء قول الحق سبحانه:{ يختانون أنفسهم} لأن في ذلك عملية افتعال للخيانة ولذلك قال الحق سبحانه:{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما}.
ثم قال الحق بعد ذلك:{ إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما} النساء 105.
قال الله سبحانه وتعالى:{ للخائنين} ولم يقل خوّانين لماذا؟ إن الخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة مرات متعددة. أو يكون المعنى: هو أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر بسيط، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير.
إذن، فمرة تأتي المبالغة في تكرار الفعل، ومرة تأتي في تضخيم الفعل أي عندما نقول: فلان أكول وفلان أكال هذه مبالغة في أكل وأكول وهي مبالغة تكرار الفعل فالإنسان العادي يأكل ثلاث مرات والأكول يأكل عشرات مرات مثلا. وقد يكون من الأملين لوجبة واحدة ولكنه يأكل أضعاف ما يأكل الإنسان العادي إذن، فالمبالغة هنا تكون في تضخيم نفس الحدث أو في تكرار الحدث.
إن من لطف الله أنه لم يقل خائن، لأن الخائن هو من خان لمرة، وقد تكون عابرة وانتهى الأمر. ولم يخرجه الله سبحانه عن دائرة الستر والحب إلا إذا أخذ الخيانة طبعا ومادة وحرفة وأصبح خوّانا، ولذا قال الله سبحانه وتعالى:{ إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما}.
وقد جاءت للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة أخذ ولدها بسرقة وأراد عمر إن يقيم على هذا الولد الحد، وجاءت الأم تبكي وقالت: يا أمير المؤمنين، والله ما فعل هذا إلا هذه المرة، قال عمر: كذبت والله ما كان الله ليأخذ عبدا من أول مرة! ولذلك يقولون: إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة فاعلم أن لها أخوات سابقات لها ولا يمكن أن يفضح العبد من أول سيئة، لأن الله سبحانه يحب أن يستر عبده، لذلك يستر العبد مرة وثانية ثم إذا استمر العبد في السيئة وأصر عليها، فضحه الله وكشف ستره.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق