الثلاثاء، أغسطس 16، 2011

د. حسني بن زابيه: ليبيا و"الشقيقة" الجزائر: حدود الكنز المشترَك

الحدود الليبية الجزائرية هي أطول حدود تشترك فيها ليبيا مع جيرانها (مسافة 1200 كيلومتر طولاً)، وذلك لتعرج أطوال امتداداتها الواقعة علي أضخم مخزون احتياطي في شمال افريقيا من ثروات العصر: وهما الطاقة، والمياه عصب الحياة. يمتد خزان المياه الجوفية العذبة في رحم أرض الصحاري القاحلة التي تتقاسمها ليبيا وتونس والجزائر. حجم الخزان مقدر بأكثر من مليون كيلومتر مكعب ((نصيب كل من تونس وليبيا والجزائر: 8%، 24%، و68% علي التوالي))، ويحتضن قرابة 40 تـرليـار متر مكعب من المياه العذبة. الجزائر تسعي حثيثا لاستثمار المياه كما فعلت ليبيـا ولكن بحجم أصغر، واحتجاج أوسع علي الاستثمارات الليبية المتوقعة في غدامس للحوض المشترك. أما المخزون الثاني _وهو الأخطر هنا_ يأتي من النفط والغاز الطبيعي، والحديث في هذا الشأن مثير للجدل، فللحوض مخزون مقدر بحوالي 2,8 مليار برميل من النفط، وقرابة 873 مليون برميل من الغاز السائل، والاستثمارات الجزائرية لهذه الموارد جارية علي قدم وساق.
يحكم الجزائر"ترويكـا" من الجنرالات "شرعيتهم" ممتدة من رصيد إرث الثورة الجزائرية ومتخفون رياءً وراء نقاب الإصلاحات الديمقراطية، فبالتأكيد ليس لهم مصلحة في وجود دولة حرة ديمقراطية صريحة بجوارهم، تدافع عن مكتسباتها ومقدراتها، كما ستستنفر الوعي الديمقراطي في المنطقة الذي يرونه نذير خطر وشؤم، فاتخذوا موقفا منحازا إن لم يكن معادياً، وهو موقف يراه الشعب الليبي غير منصف وغير أخوي زمن المحنة. علاقة الدولة الجزائرية مع ليبيا، للأسف، كانت دائما علاقة ابتزاز، رغم أن الليبيين تقاسموا رغيف الخبز مع الشعب الجزائري في الأوقات الصعبة، كما وهبت حرائر ليبيا حليهن بسخاء لدعم ونصرة جبهة التحرير، وهذا كان واجباً مقدساً ومدعاة فخر واعتزاز لنا، وسوف نعيد الكرة إن تطلب الأمر ذلك. أجبر التغيير الديمقراطي في تونس جلوس الجزائر علي طاولة المفاوضات والتوقيع علي اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 11/7/2011، بعد عقود من التبرم والمماطلة. في نهاية المطاف، اعترف وزير الشؤون الخارجية الجزائري في حفل التوقيع "بتأكيد البعد الاستراتيجي المهم الذي سوف تعطيه الاتفاقية للعلاقات الثنائية للبلدين"، وهذا مكسب سياسي لتونس يضاف إلي رصيد ثورة الياسمين، نحن في ليبيـا لا نطمع في أكثر من مثلِ ذلك.
الحدود الليبية الجزائرية ليست ناضجة بالمعني الجيوبولتيكى الذي من المعروف أن تحديده عمليا ينبغي الاتفاق فيه علي تنفيذ ثلاث خطوات متتابعة بالترتيب وهي أولا "التخصيص" وهنا يتم اتفاق مبدئي بين الأطراف علي مطالبهم في الأرض. ثانيا، "الترسيم"، حيث ترسم وتخطط الحدود علي خرائط. ثالثا، "التحديد"، وهنا تعين الحدود عن طريق مسح ميداني وتوسم بعلامات دالة علي الأرض. في ظل غياب اتفاقية بين ليبيا والجزائر، ولعدم وجود مظاهر فيزيوجغرافية او انثروجغرافية دالة، فهي بالتالي في مجملها مجرد تخوم صحراوية جرداء يصعب معها تحديد حدود السيادة علي الأرض لكلا الطرفين. عموما، تبدأ "الحدود" مع الجزائر من غدامس، وهي نقطة ثلاثية _حرجة إستراتيجياً_ تلتقي فيها ليبيا وتونس والجزائر، والحدود عموما تأخذ محورا شماليا_جنوبيا متعرجا، مارة علي التعاقب بين قطاعات الصحاري الرملية والصخرية حتى تصل في أقصي الجنوب إلي ضلوع كتلة جبال تاسيلي الصخرية وقممها العالية عند نقطة ثلاثية تقع جنوب شرق عين الزان في رحلة موحشة قاسية عبر اللامعمور. "الحدود" ذات قيمة إستراتجية، فهي حدود حرجة نفطيا ومائيا، فعليها مباشرة تطل حقول الجزائر الصحراوية وامتداداتها في ليبيا، كما يسير محاذياً بطولها تماما خط أنابيب النفط الجزائري إلي موانئ التصدير في تونس.
تَقاسُمْ أراضي المنطقة ترجع بداياته في القرن الماضي إلي اتفاقية بين تركيا وفرنسا في 12/5/1910، ثم تلتها الاتفاقية الايطالية_الفرنسية في 12/9/1919. وفي 10/9/1955، وقِعت المعاهدة الليبية_الفرنسية التي تمت فيها تعديلات الخطوط المتفق عليها في اتفاقية 1919، لعدم رضي فرنسا علي حرية حركة القبائل عبر الحدود. كما تم توقيع اتفاقية أخري بين الطرفين في 26/12/1956، فرضتها الظروف السياسية للبلاد حينذاك، وذلك بعد تبادل مذكرات تتعلق بتفاصيل تغيير الحدود الممتدة بين غدامس وغـات، واستقطاع جزء من الأراضي الليبية وضمها إلي مستعمرتها الجزائر، وكذلك تسهيلات برية وجوية للقوات الفرنسية في جنوب غرب البلاد، وفي المقابل انسحاب فرنسا من فزان ((هناك لغط كبير حول هذه الاتفاقية ولا مجال للخوض في هذا الموضوع)).
أدت المماطلة الفرنسية في المفاوضات حول استقلال الجزائر بحجة النزاع الحدودي مع ليبيا، إلي طلب جزائري للحكومة الليبية بان ترجي تسوية المسألة إلي ما بعد إعلان الاستقلال، وبالفعل وافقت ليبيـا علي الطلب الجزائري وتبادل الطرفان رسالتين بهذا الخصوص: الأولي من الجانب الليبي توضح المطالب الليبية في الأراضي التي اقتطعتها فرنسا وضمتها إلي الجزائر. أما الرسالة الثانية فموقعة من الجانب الجزائري يقر فيها بوجود نزاع حول أراضٍ حدودية بين البلدين وسوف يتم تسويتها بعد الاستقلال، ((للمفارقة، تونس رفضت وقتها إجراء مماثلاً مع الجزائر فكانت أبعد نظرا)). اتفقت ليبيا والجزائر في نهاية الستينيات علي تشكيل لجنة مشتركة لتخطيط الحدود، تمسكت الجزائر بان يكون أساس التخطيط هو اتفاقية 1956 بين ليبيـا والحكومة الفرنسية الأمر الذي رفضته دولة المملكة وبقي البت فيه معلقا طيلة حكم النظام المنهار. فالموقف الجزائري من توقيع الحدود كان دائما مراوغاً إن لم يكن متعنتا. الموقف الليبي كان دائما مهادناً ومتحججاً عن ضعفه في مطالبة استحقاقاته باسم الأخوةِ والأشقاءِ، ومازال الشعب الليبي إلي اليوم ينتظر التسوية.
الحدود الليبية الجزائرية لم يتم الفصل فيها بعد، والاختراقات الجزائرية علي الأرض متكررة ومعروفة منذ 1967، وتتوغل قواتها مرارا داخل التراب الليبي حتى إلي مسافة مائة كيلومتر في بعض الأحيان، ناهيك عن التحليق الجوي للاستكشاف والتصوير. في الوقت الحاضر، الجزائر تنقب وتضخ النفط والغاز الطبيعي من مناطق وتخوم حدودية غير مخصصة ولم يتم ترسيمها ولم تحدد بعد، فالتحدي قائم ومتكرر. والمعلوم أن الحدود المشتركة بين الجانبين تُمزق حوضا نفطيا واحداً، نعم بصدفة جيولوجية ولكن بحبكة سياسية دفينة قد تثير تعقيدات مستقبلية بين البلدين الشقيقين.
د. حسني بن زابيه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق