الخميس، ديسمبر 08، 2011

استقلال القضاء وأهمية تصحيح المفاهيم والاتفاق على مفهوم المصطلح... صلاح المرغني

من الطبيعي أن يواجه كل من يكتب مقالة قصيرة بشأن أي مسألة جادة ومعقدة معضلة التمكن من التعرض الكامل للموضوع دون ابتسار وبأسلوب سهل يوصل الرسالة إلى القارئ الغير متخصص.ولم يكن ما كتب تحت العنوان المذكور استثناء على تلك الصعوبة مما أثار قدرا من اللغط بين بعض من تفضل بقراءة ما كتب مابين مؤيد ومعارض ومنهم من أتصل بي شخصيا مستوضحا مفهوم استقلال القضاء والفرق بينه وبين استقلال القضاة أو بعضا منهم ناقدا إيجابا أو سلبا ما كتبت فلهم الشكر جميعا. ومن حق الجميع عليّ أن أوضح ما قد غمض وبعد التوكل على الله الحق أستطرد فأقول:

إن المقصود مما كتبت كان إظهار الحاجة لعدم قبول الأقوال على علاُّتها والتنبيه بأن القضاء في ليبيا في الحقبة القذافية كان بعيدا عن الاستقلالية بموجب أي معيار منطقي و كذلك ابتغينا أن نقدح في الذهن الدعوة إلى دعم المكانة والاستقلالية الحقيقة المبتغاة للقضاء في العهد الجديد لنضمن رقابة قضائية فعالة في دولة ليبيا الحرة الوليدة وهو ما بدأ بأولى خطواته مجلسنا الانتقالي فعلا بتعديل تشكيلة مجلس القضاء ليترأسه رئيس المحكمة العليا بدلا من وزير العدل وننتظر أيضا أن يبعد عن المجلس قريبا كل من إدارة القضايا وإدارة القانون والمحاماة الشعبية لأن هؤلاء جميعا هم من الخصوم والإدارة وليسوا من القضاء.
ولم يكن المقصود على الإطلاق الهجوم على أي شخص أو الإنقاص من قدره واحترامه وخاصة ونحن نتحدث عن الأستاذ مصطفي عبد الجليل (ولا نحتاج أن نطنب هنا زيادة عن ذلك حتى لا ندخل في جوقة التطبيل من جديد) فكان المقصود التعامل مع الموضوع المطروح بصراحة حتى لا يختلط الأمر على من يسمع من الأستاذ المستشار عبارات تتكرر بشأن دعوى " استقلال القضاء في السابق " وأنه "لم يخترق"!! سواء قصد المستشار ذلك أو لم يقصده فيفهم الأمر وكأن نظام القذافي قد سمح بوجود قضاء مستقل بأي شكل.
وسأتجنب في السرد أدناه قدر الإمكان المصطلح القانوني البحت أو الإشارة إلى أرقام المواد التشريعية حتى يسهل للقارئ غير المتخصص استيعاب الفرق بين "استقلال القضاء" أو"سلبية القضاء" من ناحية واستقلالية القضاة أو سلبيتهم من ناحية أخرى وشتان بالطبع بين الأمرين ذلك أن الأستاذ المستشار قد أستخدم تعبيرات" استقلال القضاء" و"القضاء المستقل" و " عدم اختراق القضاء" وبما أنه من المتخصصين فلابد وأنه كان يعني ما يقول ونتعامل مع الأمر على هذا الأساس:
لو كان القضاء في ليبيا تحت حكم القذافي وأبنائه مستقلا لقام بوظيفته بعيدا عن أملاءات السلطتين التنفيذية والتشريعية المطلقة والممثلة (واقعا) في مركز القرار (الخيمة ) وسلطاته الفعلية التى تمثلت في شخص القذافي الأب وأبنائه ودوائره الأولى وجهاز الأمن الداخلي وكذلك الخارجي ومكتب الاتصال باللجان الثورية و(شكلا) في ما كان يعرف بـ "اللجنة الشعبية العامة "و"المؤتمرات الشعبية" و"مؤتمر الشعب العام" ) ولكانت المحاكم والنيابة العامة وحتى أعوان القضاء من المحامين قد قامت بمهامها وحققت العملية العدلية ولكانت بالمرصاد لكل تسلط ولرفعت الحيف والظلم الذي لحق بالناس نتيجة الإجراءات والجرائم والتشريعات التى دائبت دولة القذافي على فعلها بل وحتى لربما ألغت الحاجة لثورة 17 فبراير من أساسها ولكنها للأسف لم تفعل (حسب رأي المتواضع على الأقل ) فعاش الناس في بيئة مأساوية ما بين ضحية أو جلاد أو متفرج وهو أمر مفهوم بسبب بطش النظام السابق وهيمنه على مجمل توجه القضاء وقمعه العنيف لأى محاولة للخروج عن ذلك ودليلنا وتفصيل المسألة على النحو التالي:
أولا : القضاء الجالس( المحاكم):
إن دليل خضوع السلطة القضائية في ظل النظام السابق في أحكامها المتعلقة (بالحقوق والحريات) لسلطان السلطة التنفيذية ، رهبة أو رغبة ، تمثلت في ظاهرة عدم التصدي ( أو بالتأكيد عدم إمكانية التصدي بسبب الخوف من البطش الإجرامي للنظام السابق ) بإلغاء أو الامتناع على الأقل عن تطبيق القوانين الظالمة بل وتمسك السلطة القضائية بتطبيق القوانين الظالمة للنظام السابق رغم أنها مسئولة عن أحكامها ليس فقط أمام القانون بل أمام الضمير وبالطبع أولا وأخيرا أمام الله، كما أهدرت المحاكم الحق في "الاحتساب" و"ضيقت في شرط المصلحة" (أي لا تقبل الدعوى إلا ممن تضرر منها فعليا ومباشرة دون حتى النظر إلى المصلحة المحتملة أو العامة) بطريقة خدمت أهداف السلطة التنفيذية وأغلقت على الناس باب تحدي القوانين وبالطبع باستعمال نصوص قانونية صممت أصلا لكبت الحريات.
وحتى لا يلتبس الأمر على بعض الناس فإنه فيما أرى الآن أنه كان على المحاكم (من الناحية النظرية على الأقل) أن تمتنع عن تطبيق القوانين الظالمة ولكنها تحوصلت في تطبيقاتها القانونية مع مرور الزمن حول مدرسة " الشرح على المتون" وتطبيق النصوص حرفيا كما تصدر عن السلطة تحت مسمى (هذه هي نصوص القانون) ومع الإشادة فقط بفترة ترأس الأستاذ على على منصور للمحكمة العليا خلال عام 1970 عندما صدرت مجموعة من المبادئ القانونية التى تحدت النصوص القانونية الجائرة ومن ضمنها مبدأ ما صدر في شأن "حرية التقاضي" وكذلك التوسعة في مفهوم "المصلحة" في رفع الدعوى إلا أن ذلك الموقف لم يتطور أبدا وبدا يخبو الأمل تدريجيا بعد أن أصبحت النصوص المطبقة حرفيا تخدم نظاما قائما دكتاتوريا صرفا ومن أمثلة ذلك لم تتصدى المحاكم ( وبالطبع أقر بأنها لو فعلت لشنق قضاتها) ولم تمتنع عن تطبيق أو تلغي القوانين الظالمة بل طبقتها كمثل:.
  1. قانون تجريم الحزبية (رغم تعارضه مع حق أساسي من حقوق الإنسان بالانتماء السلمي للأفكار والتشكيلات السياسية).
  2. قانون حماية الثورة الذي جرم مجرد العلم بوجود مجموعة لها فكر مختلف أو معارض لفكر "ثورة الفاتح من سبتمبر (دون المساهمة في الفعل ذاته).
  3. القانون رقم 4/1978 بشأن تطبيق "مقولة البيت لساكنه" وكذلك الحال بالنسبة لمقولة "السيارة لمن يقودها " وكذلك كافة التشريعات المتعلقة ب"الزحوفات" والتى أنتجت الاستيلاء على الملكيات الخاصة بالناس بانتهاك للحق لطبيعي للإنسان في التملك المشروع.
  4. نص المادة 36 من قانون تعزيز الحرية التى سلبت وأهدرت كافة ضمانات المحاكمة العادلة لمعارضي النظام السابق.
  5. المادة 195 من قانون العقوبات رغم تعارضها مع حق إبداء الرأي.
  6. النصوص المجرمة للحريات السياسية في الباب الأول من الكتاب الثاني من قانون العقوبات.
  7. "ميثاق الشرف" الذي اقر عقوبات جماعية ضد المناطق التى يكون بها معارضون للنظام السابق.
  8. القانون رقم 19 لسنة 1369 بشأن الجمعيات الأهلية.
  9. التعديلات التى أدخلت على قانون محكمة الشعب سنة 1997 والتى انتهكت الحقوق الأساسية للإنسان في المحاكمة العادلة. وبالإضافة إلى ذلك:
  10. عدم تصدي المحاكم بالفصل إيجابيا في القضايا التى رفعت في التسعينات من القرن الماضي قبل وبعد مذبحة "أبي سليم" بشأن المحتجزين في السجن المذكور دون وجه حق (خاصة منها محكمة الشعب) بأسباب نأت بنفسها عن التعرض لمثل هذه القضايا ولو تصدت المحاكم وقتها (حتى على استحياء) لهذا الأمر لربما لم تقع مذبحة "بوسليم" ولربما خشى من قام بها من عواقبها. ولا ننسى ما انتهت إليه نيابة أمن الدولة التخصصية من نتيجة نفت فيها وجود أي تعذيب أو مخالفات في سجن عين زارة السياسي عندما وقع إبلاغها بذلك في مذكرة رفعها السجين السياسي المفرج عنه من ذات السجن حينذاك "جمال الحاجي" وذلك بالمخالفة لما هو ثابت في حينه نهايك عما أتضح من أمور الآن والتى كان من ضمنها صورة بالقمر الصناعي منشورة في "قوقل الأرض " لبحيرة للمجاري تفيض على الزنزانات التى بها مساجين من البشر (وللتاريخ فإن أمين العدل حينذاك (المستشار مصطفي حاليا) كان له موقف إيجابي اشهد عليه بحضوري وحضور زميل لي (لم استأذنه في ذكر اسمه بعد) حيث ظهر عليه التأثر وطلب فورا اتصالا بأمين الأمن العام في ذلك الوقت وأحال نسخة من تقرير أعدته لجنة لتقصي الأمر (من ثلاثة محامين) من نقابة محامي طرابلس إليه إلا أن من حال دون أي إجراء حقوقي فعال بالخصوص كان جهاز الأمن الداخلى حينها الذي علمنا وقتها أنه سعى لدى أمين الأمن العام لاتخاذ إجراءات أمنية ضد معدي التقرير وبلغنا أن الأمين قد تجاهلهم ولم يستجب لهم وبذلك حمى لجنة التقصى مما تعلمون..
  11. عدم قيام قضاة الإشراف في المحاكم بالتفتيش على السجون وأماكن الحجز وفقا لما ينص عليه القانون مما سمح للسلطة التنفيذية (الأمنية) بأن تفعل ما يحلو لها في هذه الأماكن بل أنشأت سجون خاصة بها مثل سجن أبي سليم (وفقا لإقرارات الأستاذ المستشار مصطفى عبد الجليل (أي وجود سجن خارج نطاق القانون )ولم يفعل القضاء شيئا تجاه هذه الجريمة وبالطبع بسبب استحالة تدخلها ماديا وخوفا مفهوما من سطوة الأمن( بما يقطع بعدم استقلالية القضاء لعجزه عن تطبيق القانون خوفا من السلطة التنفيذية) ويجب ألا يفهم هذا بأنني لا أتفهم موقف القضاء أو أمين العدل في ظل الظروف السائدة آنذاك ولا أدعي مثلا أننى لو كنت القاضي أوكيل النيابة المختص لفعلت أكثر من ذلك ولكني أقول هنا أن الوصف الصحيح للسلطة القضائية في تلك البيئة أنها لم تكن مستقلة في قرارها وأنها كانت تخشى الهيمنة الأمنية وعانت من تسلطها وبالتالي فقدت استقلالها)
القضاء الواقف ( النيابة العامة):
دون الدخول في التفاصيل فإن قانون الإجراءات الجنائية يلزم النيابة بتولى التحقيق في الجرائم التى لا تتوقف على شكوى أو إذن وقد فشلت النيابة العامة في التحقيق في جرائم الإعدام دون محاكمة كشنق الناس في الجامعة والشوارع والملاعب وقتل المساجين وقتل الناس لأن طبيعة تلك الجرائم كانت متصلة بالنظام وكان أي عضو نيابة أو قاض يمكن أن يحاول أن يتعرض لذلك لربما سيشنق مع الضحية ولكان الوصف الذي يمكن أن يطلق على من يحاول ذلك في ظل الثقافة السائدة حينها هو " الجنون بعينه" بما يقطع بعدم جواز وصف هذا القضاء بالاستقلالية على الأقل من وجهة نظرى.
المحامون:
لم يكن المحامون في جلهم أبطالا أيضا وقد آثر كثير منا السلامة ورفض التصدي للقضايا الحقوقية خوفا من بطش السلطة (ولا أبرئ نفسى).
وأخيرا لا بد لي مرة أخرى من أشيد بقضاة وأعضاء نيابة ومحامين كانوا استثناءات على ما سبق وبذلوا جهدهم بدرجات متفاوتة فى خدمة عدالة مستقلة فلهم التحية والتقدير والأجر من الله على ما فعلوا علانية أو سرا وننوه بأننا في المصطلح نتكلم هنا عن استقلال القضاء وليس عن استقلال القضاة فكان هناك بالطبع قضاة مستقلون نعرفهم ونجلهم كما أن مآخذنا السابقة كما هو ملاحظ تنحصر في قضايا المشروعية والحريات وحقوق الإنسان ولا تنسحب على القضايا العادية مدنية أو جنائية والتى لم تكن السلطة التنفيذية تأبه بها أصلا بمعنى أني أقول أن القضاء لم يكن مستقلا بل كان قضاءا وظيفيا ما استطاع في ظل الممكن ماديا بشكل عام وباتقاء شر السلطة المهيمنة.
ولعل قائل يقول أليست القاعدة أنه "لا تكليف إلا بمقدور لا يعرض الفاعل للخطر"؟ والرد هنا أن لهذه القاعدة قيد وظيفة القضاء فهو أمانة الحكم ويلزم حاملوها أن يحكموا بالعدل أيا كانت النتائج فذاك أمر من رب العالمين حيث قال "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " وقال ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" وعليه فما موقف القاضي ووكيل النيابة الملزم بالإشراف على السجون في ظل العلم العام بوجود سجني" بوسليم وعين زارة السياسي خارج نطاق القانون ولم يفعل إلا أن يكون مقصرا في أمانته؟ أو بتعبير آخر هل كان القاضي أو وكيل النيابة منتميا حقا إلى قضاء مستقل أم لا عندما لم يقم بالتفتيش والإشراف على السجون خوفا أو رغبة؟! وهل يجوز في ظل كل هذا أن نقول أنه كان هناك قضاء مستقل؟!
وأخيرا فإن الهدف النهائي من هذه الكلمات ليس بالتأكيد الحديث عن الماضي ولكن الأهم هو أخذ العبرة للمستقبل ليكون قضاؤنا مستقبلا قضاءا مستقلا عادلا عالما لا يخشى في الله لومة لائم و" كحد السيف" بما في ذلك لزوم إنصاف الضحية الضعيفة ولو اتهمت بأنها من أزلام النظام السابق مثلا أو كان المعتدي من كبار ثوار 17 فبراير" فالحق يعلو ولا يعلى عليه" ولذلك قامت الثورة على الطاغية وحكمه ومع الشكر مرة أخرى لأستاذنا مصطفى عبد الجليل ونرجو أن يتسع صدره لهذا النقد الصريح المباح ونحمد الله أننا في دولة نستطيع الآن أن نقول فيها وبأعلى صوت "لا" دون أن نلتفت وراءنا لنرى من يتعقبنا! اللهم إلاّ ـ لا سمح الله ـ  لو تغير الحال غير الحال فعندها "رانا ما قلنا شئ يا حكومة"! وسنتفهم أن يعود القضاء لحاله ولكنه لن يكون مستقلا أبدا. ولعلنا ننصح بأن يعيد القضاء ذاتيا هيكلة نفسه في أسرع وقت ممكن ودون تدخل حفاظا على هيبته وتقديرا لدوره المستقبلي في استقرار البلاد وحكم العباد.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وعاشت ليبيا حرة دولة للحق والقانون والعدل. فهل وصلت الرسالة؟
صلاح المرغني – المحامي -
للإطلاع على: معذرة سيدي المستشار... صلاح المرغني، اضغط هنا

عن موقع ليبيا المستقبل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق