الجمعة، يونيو 01، 2012

معالجة الخطأ اليسير بارتكاب خطأ جسيم.... دكتور علي أبوشنة الغرياني

معالجة الخطأ اليسير بارتكاب خطأ جسيم
وهكذا كان القانون المعدل للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات
- 2 -
عندما أصدر المجلس الوطني القانون رقم 3 -2012 بشأن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، رأى أن تكون هذه المفوضية مستقلة في تشكيلها، عملا بما هو قائم في الدول الأخرى، ولضمان هذا الهدف، نص في المادة الثامنة من قانون المفوضية، على معايير وشروط ومواصفات فيمن يكون عضوا بمجلس هذه المفوضية، لكنه حين أراد تشكيل مجلس المفوضية، وفي ذات اليوم الذي صدر فيه ذلك القانون، لم يلتزم بنص المادة الثامنة التي تطلب تلك المعايير والشروط، وبما يعني أن المجلس الوطني لم يعد يعير عنصر الاستقلال في تشكيل المفوضية، أهمية!! أو هكذا نفهم!! وإنما استأثر هو بتشكيلها، واختيار أعضائها، وحسب ما يتراءى له وبعيدا عن أي مواصفات أو معايير نص عليها القانون، ورجوعا وعملا بما كان يحدث في الحقبة القذافية!! ومن ثم جاء قرار تشكيل المفوضية، على نحو مخالف لما تضمنته المادة الثامنة، وهكذا كان القرار رقم (13-2012 ) المتعلق بتشكيل المفوضية العليا للانتخابات.
على أن هذا الخروج الفاضح على أحكام القانون، لم يرض عددا من المواطنين، فرفعوا طعنا بإلغاء قرار المجلس الوطني لمخالفته القانون الذي أصدره هو، فما كان من المجلس إلا أن قام بتعديل نص المادة الثامنة جزئيا، ومن ثم إعادة تشكيل المفوضية على ضوء هذا التعديل وذلك بمقتضى القرار رقم 35-2012، ظنا منه أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تصحيح الخطأ الذي وقع فيه، لكن القرار الأخير رغم ذلك، لم يسلم من الطعن عليه أمام إحدى دوائر القضاء الإداري بمحكمة استئناف بنغازي، والتي أمرت بوقف تنفيذه بتاريخ 15 مايو2012. وهو الأمر الذي أوقع المجلس والمفوضية معا، في مأزق كبير، وكان أمرا حتميا على المجلس أن يجد مخرجا وحلا جذريا!! وكان هذا المخرج بالفعل حلا جذريا على طريقة القذافي!!! وهي النسف الكلي لسلاح الخصم، وذلك بإصدار قانون يلغي نص المادة الثامنة من قانون المفوضية الذي يتعلق بالمعايير والضوابط والشروط الكفيلة بضمان استقلال المفوضية، وهكذا كان القانون رقم 44 لسنة 2012 الذي نص على إلغاء المادة الثامنة وكأنها لم تكن، ومن ثم انهار الأساس الذي استند إليه الطاعنون في قرار المجلس بتشكيل المفوضية، كما أن المبرر الذي أقامت عليه المحكمة الإدارية حكمها بوقف تنفيذ القرار قد تلاشى، وهكذا اعتقد مشرعي القانون رقم 44 -2012.
ولكن المجلس بهذا الحل الجذري، هو كمن يعالج خطأ يسير بارتكاب خطأ أكثر فداحة!! وكان يمكنه أن يواجه ذلك الخطأ، عن طريق وسائل أكثر منطقية وقانونية، ومن ذلك مثلا وكواجب أولي، أن يدافع عن مخالفته الصريحة للقانون رقم 3 – التي جسدها القراران الصادران منه والمطعون عليهما، وذلك أمام المحكمة التي تنظر الطعن، لكنه لم يفعل شيئا من ذلك، بل أنه اعترف صراحة أو دلالة بهذه المخالفة وهذا ما أثبتته المحكمة في أسباب حكمها، وكان لديه وسائل عديدة ومؤثرة في هذا الجانب القضائي، لكنه آثر أن يلجأ إلى الأسلوب المتوارث، وهو أسلوب الإنهاء التام لحجة الخصم، عن طريق استعمال الأداة التشريعية التي يمتلكها في مواجهة من لا يمتلك منها شيئا، سوى الإذعان لها، راضيا كان أم مكرها!!
وربما كان الحكم الذي أصدرته المحكمة، مشجعا ومحرضا للمجلس الوطني في هذا الصدد، إذ أنها قضت بعدم قبول الطعن في القرار الأول بسبب صدور قانون يعدل من تشكيلة المفوضية، فكان ذلك موحيا للمجلس أن يفعل نفس الشيء بالنسبة للقرار الثاني، ولكن بطريقة أكثر صرامة وبطشا، وهي طريقة الإلغاء التام للنص التشريعي الوارد في القانون رقم 3 -2012، ففي هذه الحالة تموت الحجة التي يستند إليها الخصم، وتزول المبررات التي اعتمدت عليها المحكمة فيما قضت به.
وإذا كان هذا الحل الذي لجأ إليه المجلس الوطني، يخالف الأصول الدستورية المستقرة والمسلم بها، وهي الأصول التي تقضي بوجوب أن يكون إصدار التشريع لغرض أو لغاية محددة تتعلق بالصالح العام، لا أن يكون وسيلة للقهر والبطش!! أو لتحقيق أغراض خاصة أو مواجهة حالات فردية!! فالتشريع أنما يكتسب شرعيته من مقتضيات صدوره ومن ضرورته التي يفرضها المنطق وصالح المجتمع، ولهذا يوصف القانون دائما، بأنه " مجموعة قواعد عامة مجردة تقتضيها المصلحة العامة".
والشيء الملف للنظر أن نص المادة الثامنة من القانون رقم 3 قبل إلغائها، كانت بالفعل تمثل تجديدا رئيسيا غير مسبوق، إذ كان السائد زمن القذافي هو الاعتبارات الشخصية المستمدة من عناصر أمنية وثورية، وآيا كان الأمر، فلم يكن القذافي ولا منظومته تعتد بأي معايير تتعلق بالصالح العام أو شروط تتعلق بالكفاءة أو الخبرة أو التخصص، أو مواصفات ترتبط بالنزاهة أو الخلق أو المهارة أو طبيعة العمل، وذلك بالنسبة لمن كان يتولى الوظائف أو المناصب أو المهام، حتى تلك التي بطبيعتها تتطلب كفاءات أو مهارات معينة!! فالمعايير السائدة زمن القذافي كانت معايير مقلوبة، فكل ما كان يهمه، لا يتعدى المعيار الأمني أو المعيار الثوري، أي معياري التنكيل والدجل، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالصالح العام!! ولهذا السبب كانت ليبيا تمثل النموذج الأول في الفشل والفساد والتخلف، وكان هذا الوضع البغيض هو المعمول به كقاعدة، ومع مضي الزمن صار أمرا طبيعيا مألوفا، وقد أدمن عليه الكثير، ولم يعد بالإمكان التخلي عنه!! ومن هنا يمكن لنا تفسير موقف المجلس الانتقالي من نص المادة الثامنة الملغاة التي كانت تمثل تغييرا جوهريا في العقلية الليبية الجديدة التي أصبحت تبحث عن المعايير والشروط الموضوعية، لكنها – وللأسف - تغيير ولكونه يخالف الموروثات القذافية، لم يدم طويلا، فمن حيث الممارسة، لم يصمد ذلك التغيير أو التجديد، سوى لساعة أو ساعتين، فقد تم إجهاضه في ذات اليوم الذي ولد فيه وبالطريقة التي تعودنا عليها زمنا طويلا!! فهل يأت يوم تتخلص فيه ليبيا من هذه الطريقة؟ ويصبح الشخص المناسب في المكان المناسب، وتقوم الدولة المدنية التي تلتزم بقواعد القانون ومبادئ الأخلاق، وعند ذلك، يمكن لنا أن نعلن نجاح ثورة فبراير وقيام ليبيا الجديدة!!
وهذا هو ما يطلع إليه الليبيون في مؤتمرهم الوطني العام القادم ويعلقون عليه آمالهم.
ورجوعا إلى معالجة المجلس الوطني للخطأ الذي وقع فيه، وهو خطأ يصعب تبريره أو الدفاع عنه، لأنه يعيدنا إلى ما كان يحدث ويجري في الحقبة العبثية المنقضية، وكان يمكنه الوصول إلى النتيجة التي يقصدها، وهي اختيار من يريده، ومن يرضى عليه!! ولكن بإتباع الخطوات الواردة في المادة الثامنة، وهي خطوات ميسورة، وفي الإمكان القيام بها، وبمنتهى البساطة والسهولة، إذ كان في إمكانه أن يطلب من الذين يراهم جديرين بعضوية المفوضية، وعددهم حسب النص الأول، سبعة عشر عضوا، أن يقوم أربعة منهم، بتشكيل هيئة، يطلق عليها أي تسمية تنتمي إلى المجتمع المدني، وما أكثر التسميات!! وللمجلس أن يقوم بتعيين: ثلاثة من بينهم - أي من بين السبعة عشر عضوا - قضاة بمحكمة الاستئناف، واثنان، أساتذة جامعات، وهكذا بالنسبة لبقية الأعضاء الآخرين، فالأمر ليس صعبا ولا معقدا!! خاصة ولدينا خبرة واسعة ورصيد ثري وممارسة عتيدة في هذا المجال!! مجال الدجل والتزييف والغش!!! ولا أحد في هذا الكون كان يستطيع منافستنا!!!
وقد يكون في هذا الوضع، نوع من التحايل أو التلاعب، لكنه من جهة، تحايل مألوف جرى عليه العمل والممارسة طيلة زمن القذافي، فأغلب أساتذة الجامعات، لا تتوافر فيهم شروط العمل الجامعي ولو في حدودها الدنيا!! والحقيقة أن أغلب هؤلاء تم تعيينهم بالجامعات لاعتبارات الثورية والأمن، وما يتفرع عنهما من صور وأشكال أخرى أكثر انحطاطا وقذارة!! وليس بناء على المعايير العلمية والأكاديمية المتعارف عليها، والأسوأ في الأمر أن هؤلاء مازالوا إلى الآن في أماكنهم الخطأ!! ولم تقم وزارة التعليم العالي بأي إجراء في هذا الصدد!! وهكذا هو الحال بالنسبة لبقية القطاعات والأجهزة الأخرى، بما فيها قطاع القضاء، فهناك مثلا من بين مستشاري المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف، من كان تابعا لجهاز الأمن الداخلي أو الخارجي وما في حكمهما، وقدم خدمات أهلته بحسب معايير القذافي، لكي يكون عضوا بالمرفق القضائي!! وهناك حالات أخرى أكثر سوءا وبشاعة!! ومن أجل ذلك، كانت مبررات وبواعث الثورة في ليبيا أدعى وأوجب منها في مصر وتونس.
ولو أن المجلس الانتقالي اتبع تلك الوسيلة التحايلية، لعصمت قراراته وتصرفاته من الطعن عليها!! ومن ثم فإن التحايل على النص كان ممكنا ومقبولا أيضا، وهو في جميع الأحوال، أفضل من اللجوء إلى الحل الآخر الذي أتبعه المجلس الوطني، وهو الحل الاستبدادي!!.
هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، تجب الإشارة هنا إلى حقيقة أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه المجلس، ليس بمخالفته نص المادة الثامنة، وإنما يكمن هذا الخطأ في صياغة المادة نفسها وما اشتملت عليه من فقرات متعددة، فقد جاءت هذه المادة في صورة مرسلة لا ضابط لها، ومن ثم افتقدت لعنصري التحديد والدقة الواجب توافرهما في القاعدة القانونية،ومن ثم صار تطبيقها من الوجهة العملية مستحيلا، ومن هنا اضطر المجلس إلى مخالفتها أولا، ثم بعد ذلك إلى إلغائها، وما كانت هناك ضرورة لهذا كله، لو جاء نص المادة الثامنة مماثلا للنصوص الواردة في التشريعات الانتخابية العربية، كنص المادة الثالثة من قانون ممارسة الحقوق السياسية المصري. الذي حدد بكل دقة ووضوح وبصورة لا تحتمل اللبس أو التحايل، من هم رئيس وأعضاء اللجنة أو المفوضية العليا للانتخابات، حيث بينتهم بطريقة حصرية بصفاتهم ووظائفهم ودرجاتهم وأقدمياتهم القضائية، وليس على أساس العلاقات أو المجاملات أو التأثيرات، ذلك لأن المشرع المصري تولى بنفسه تحديد رئيس وأعضاء اللجنة العليا للانتخابات، ولم يترك المسألة لتقدير أو خيارات أي سلطة أخرى، ولهذا السبب قطع القانون المصري، كل خلاف قد يثور حول تشكيل اللجنة العليا للانتخابات وبصورة نهائية، وسواء تعلقت هذه الانتخابات، بالانتخابات الراهنة أو المستقبلية، فاللجنة العليا للانتخابات في مصر، محددة طبقا لقواعد مجردة ومعلومة لدى الكافة، وليس لأحد سلطة تعديلها أو تغييرها أو العبث بها.
وقد يعذر المجلس الوطني في هذا الجانب، إذ لا توجد في ليبيا، مؤسسة قضائية، تماثل ما هو قائم في مصر، يمكن التعويل عليها في هذا الشأن.
هذا من حيث الجانب المتعلق بالمجلس الانتقالي، أما بالنسبة للحكم الصادر بوقف تنفيذ قرار تشكيل المفوضية، فإن المحكمة التي أصدرته، لم تكن موفقة ولا صائبة من الوجهة القانونية البحتة، لجملة من الأسباب، فقد وقعت في خطأ جسيم هي الأخرى، حين تصدت لموضوع الطعن ولو في شقه المستعجل، وهذا ما سوف نتناوله في الموضع القادم.
د. محمود سليمان موسى
البيضاء في 30 مايو 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق