الخروج من مأزق قضائي والدخول
في مأزق اللا شرعية
إذا كانت
فكرة الانتخابات قد ظلت مجهولة المعنى ومعدومة الممارسة في الحقبة الانقلابية، فإن
فكرة القانون والشرعية ظلت هي الأخرى، بلا معنى وبلا مضمون في هذه الحقبة المظلمة
التي استمرت زمنا طويلا، وهو زمن جعل الناس ينظرون إلى هاتين الفكرتين أو
الممارستين على أنهما يشكلان وضعا منبوذا، بل وغير مستساغ!! ومن هنا عانت ليبيا،
حالات من أسوا أنواع الاستبداد، وكان الأسوأ في كل ذلك، إن هذا الاستبداد كان
يمارس على اعتباره أمرا طبيعيا!! وكل شيء كان يسير في هذا الإطار، بل وكان يجب أن
يسير في هذا الإطار!! ومن ثم كانت الحالة الليبية في العبث والاستبداد، لا نظير
لها في أي دولة من دول العالم الثالث، وبصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي في أي
منها، ذلك لأنه وحتى في الدول ذات النظام الشمولي، حرصت هذه الدول على وجود حد
أدنى من نظام الدولة القانونية، ولهذا تجد بها مؤسسات الدولة الحديثة أما في ليبيا
فلم يكن فيها أي من هذه المؤسسات، ولم يكن أيضا متصورا وجود مثل هذه المؤسسات في
ظل نظام عبثي فوضوي.
ومن هنا
كانت ثورة فبراير وكانت التضحيات الجسام من أجل المبادئ والغايات التى دفعت إلى
الثورة، وكان الهدف بناء دولة القانون والمؤسسات في صورتها المثلى لا المزيفة.
ووصولا إلى تحقيق هذا الهدف الأسمى، كان لابد من وجود سلطات شرعية منتخبة من الشعب
مباشرة، تضطلع بمهام تنفيذ أهداف الثورة وتطبيق مبادئها، والسير قدما نحو إرساء
دولة الدستور والمؤسسات، وفي هذا الجانب صدرت قوانين وتشريعات لم تكن معروفة منذ زمن
طويل، مثل قانون الانتخابات وقانون الأحزاب، وقانون المفوضية الوطنية العليا
للانتخابات وهو القانون الذي تضمن في المادة 8 منه، طريقة ومعايير وشروط تشكيل
المفوضية، وقد نصت هذه المادة صراحة أن يتكون مجلس المفوضية من 17 عضوا متفرغين
يصدر بتسميته قرار من المجلس الوطني على النحو الآتي:
- الرئيس ونائباه، ويتم تعيينهم من المجلس الوطني بعد ترشيحهم من اللجنة المشكلة بقرار المجلس رقم 180.
- ثلاثة قضاة بدرجة مستشار بمحكمة الاستئناف.
- اثنان من المحامين.
- اثنان من أساتذة الجامعات.
- أربعة أعضاء، رجلان وامرأتان من مؤسسات المجتمع المدني.
- خبير في الشؤون الإدارية.
- عضو عن الشباب.
- عضو عن الجالية الليبية في المهجر.
وهذه هي
الشروط والأوضاع والمعايير التي تطلبها القانون الذي أصدره المجلس الوطني والتي
يجب إتباعها وبدقة، نظرا لأهمية الدور المنوط بالمفوضية.
وفي نفس
اليوم الذي صدر فيه هذا القانون، يوم 18 يناير 2012، صدر قرار بتشكيل المفوضية، من
المجلس الوطني نفسه، وهو القرار رقم 13-2012، الذي تضمن تسمية رئيس وأعضاء
المفوضية العليا لانتخابات المؤتمر الوطني العام. غير أن هذا القرار جاء على نحو
مخالف للشروط والأوضاع المنصوص عليها في المادة الثامنة. وهو الأمر الذي دعى بعض
الأشخاص إلى الطعن على هذا القرار، أمام القضاء الإداري طالبين إلغائه، والحكم
بصفة مستعجلة بوقف تنفيذه، بعريضة قيدت تحت رقم 65-2012، وفي الفترة التي أعقبت
إعلان الطعن، أصدر المجلس الوطني الانتقالي، بتاريخ 24 إبريل 2012، قانونا يحمل
رقم 31-2012 يتضمن تعديلا في المادة الثامنة، وقد انحصر التعديل في عدد أعضاء
المفوضية، وإنقاصه من 17 إلى 11 عضوا. وبعد ذلك مباشرة، أصدر المجلس، قرارا يقضي
بإعادة تسمية رئيس وأعضاء المفوضية في ضوء هذا التعديل، وهو القرار رقم 35 -2012،
وحتى هذا القرار الثاني، جاء هو الآخر، مشوبا بمخالفة القانون الذي أصدره المجلس
الوطني، والانحراف في استعمال السلطة، مما دفع نفس الأشخاص إلى الطعن في القرار
الثاني بعريضة قيدت تحت رقم 93-2012 بنفس الطلبات السابقة، تأسيسا على أن المجلس
الوطني حين أصدر هذين القرارين، لم يلتزم بالشروط والمعايير المبينة في المادة
الثامنة من القانون. وهو الأمر الذي يجعل هذه القرارات مشوبة بمخالفة القانون،
متعينة الإلغاء.
وفي جلسة
15 مايو 2012، أصدرت المحكمة في الشق المستعجل حكما يقضي بوقف تنفيذ القرار المنشئ
للمفوضية الوطنية للانتخابات.
ولأن هذا
الحكم، قد وضع المجلس والمفوضية معا، في مأزق كبير، فما كان من المجلس وحسما لهذا
الوضع الطارئ، إلا أن يتبع نفس الطريفة المألوفة والمعتادة التي كانت تطبق ويجري
عليها العمل زمن القذافي، وهي الطريقة التي كانت تعكس مقولة "أنا الدولة
والقانون والسلطة"!!!... وكأن المجلس يقول لنا أو لمن يعنيهم الأمر...
"... أنه إذا كان هذا القانون أو ذلك النص الذي تستندون إليه، هو من صنع يدي،
فأنا قادر على تعديله، وآنا أيضا قادر على إلغائه"، فلماذا هذا الضجيج ولماذا
هذا الصراخ. عليكم بالإذعان لما أفعل، والرضا به!!
وبالفعل وهذه
المرة،تدخل المجلس الوطني الانتقالي ولكن ليس بتعديل النص كما حدث في المرة
السابقة، ولكن بإلغاء النص الذي استندت إليه المحكمة في الحكم القاضي بوقف
المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.وهو نص المادة 8، وذلك بالقانون رقم 44 -2012
الذي جاء مباشرة بعد صدور الحكم القضائي، وكأن المجلس يريد مواجهة الأحكام
القضائية، أي مواجهة الحقوق والحريات بالقوانين!!.
وأشير هنا
إلى واقعة ربما كانت قريبة أو مماثلة، ضمن مئات وآلاف الحالات المماثلة، حدثت في
سنة 1981، وفيها أراد النائب العام أن يطبق القانون وأن يفتح تحقيقا في جريمة قتل
حدثت في سبها، ولكن أتباع النظام وعملائه منعوه من ذلك، لكنه تجاهلهم، وأصر على
مواصلة تحقيقاته عن طريق وكلائه بنيابة سبها، لأن المسألة تتعلق بجريمة قتل عمد
وهي أخطر الجنايات في القوانين البشرية، وإزاء تمسك النائب العام بموقفه وبات
عليه، قام أتباع وعملاء القذافي بإخطاره وإعلامه بأمر "النائب العام"
الذي رفض الامتثال لهم ولتعليماتهم وقد تضايق القذافي، واستاء من تصرف هذا الذي
يقال عنه "النائب العام". فأمر على الفور، أمين العدل، بلقاسم زوي، أن
يأت به إليه!! وبالفعل حضر أمين العدل وبصحبته النائب العام وقدمه للقذافي قائلا
له هذا هو النائب العام ياسيدي القائد. فسأله من الذي عينك أو كلفك بوظيفة النائب
العام؟؟ فرد عليه الأستاذ خليفة الغزواني.. الذي عينني نائب عام هو القانون.
وكان
القذافي يعتقد أن الإجابة ستكون أمين العدل أو أمين مؤتمر الشعب العام أو بناء على
توجيهات القائد، أو أي شيء من هذا القبيل.
وهنا وجه
القذافي كلامه لبلقاسم زوي قائلا له: يلغى هذا القانون. وفي الحال، أصدر أمين
العدل منشورا لكافة المحاكم والنيابات يتضمن أن وظيفة النائب العام تعتبر ملغاة
وغير قائمة. وهكذا يلغى القانون بمنشور، وهكذا كان منطق وأسلوب القذافي!!
وهذا هو
نفس المنطق والأسلوب الذي أتبعه المجلس الوطني في تعامله مع قضية المفوضية الوطنية
للانتخابات، وهي القضية التي يدور موضوعها حول ضرورة احترام القانون الذي أصدره
المجلس الانتقالي لا أقل ولا أكثر.
وهنا تطرح
تساؤلات عديدة، هل مواجهة أو معالجة الخطأ اليسير بخطأ أكثر فداحة، صار أمرا
مألوفا حتى بعد ثورة فبراير؟ وهل يجوز استخدام القانون كوسيلة للقهر والبطش والعصف
بالحقوق والحريات؟ وهذا ما كان سائدا باعتباره وضعا طبيعيا وحيدا في حقبة القذافي!
وإذا نحن حاولنا أن نعالج المسألة في إطار منطق القانون، وبصورة مجردة، سنجد أن
هناك كثيرا من الأوضاع التي لا تتفق والمبادئ الأولية، مازالت تجري مجرى العادة،
ومن ذلك أن قرار تشكيل المفوضية، هو قرار تنفيذي الطابع، لا يدخل في اختصاصات
السلطة التشريعية التي تستقل فقط بمهمة سن وإصدار القوانين والتشريعات، ولا اختصاص
لها بمهمة تنفيذ ما أصدرته من تلك التشريعات والقوانين (مبدأ الفصل بين السلطات).
والسؤال
الأكثر إلحاحا هنا، لماذا وضع المجلس الانتقالي بكامل إرادته تلك الشروط والمعايير
في القانون، ثم خالفها في التطبيق والتنفيذ؟ هل معايير النزاهة والوطنية مثلا لا
تتوافر فيمن يتم اختيارهم كأعضاء في المفوضية؟ وهل الشروط الأخرى يصعب توافرها
فيهم؟
وفي إطار
قضية المفوضية أيضا تثور تساؤلات: هل كانت أمام المجلس الوطني خيارات أخرى أفضل من
خيار اللجوء إلى استعمال التشريع؟ وهل يعتقد المجلس الانتقالي أنه بسن القانون رقم
44-2012 الذي ألغى المادة الثامنة من قانون المفوضية، يكون قد نجح في التغلب على
المأزق القضائي الذي تعرضت له المفوضية، وكأن ذلك الحكم أو ذلك الطعن قد فقدا
أساسهما القانوني وكأنهما لم يكونا قائمين؟ أم أن الأمر ليس بهذه البساطة والسهولة
من الوجهة القانونية والدستورية.
وفي
المقابل هناك أسئلة تفرض نفسها في هذه الجوانب، فهل كانت محكمة القضاء الإداري
موفقه فيما انتهت إليه في حكمها بوقف تنفيذ قرار تشكيل المفوضية الوطنية؟ أم أنها
فصلت في الشق المستعجل، كما لو أنها كانت تنظر في دعوى نفقة أو دعوى طلاق مثلا؟؟!!
وهل كان يمكن أن تلجأ المحكمة إلى بدائل أخرى تكون أكثر ملاءمة؟ لاسيما وأن من
طبيعة وخصائص القضاء الإداري أنه منشئ ومبدع ومكمل.
ولكن كيف
نطالب المحكمة بذلك، ونحن نعي يقينا، أن ليبيا وخلال الثلاثين عاما الأخيرة، لم
تعرف فكرة القضاء بمعناه الحقيقي من الأساس؟ ونؤمن أيضا أنه لو كان في ليبيا قضاء
حقيقي، زمن القذافي، ما كان لثورة فبراير سند يبررها، أو سبب يدفع إليها! ولهذا
رفعت ثورة فبراير منذ ساعاتها الأولى مبدأ دولة القانون والمؤسسات، وهذه التساؤلات
وغيرها ستكون موضوعا مستقلا لحديث قادم..
د. علي أبوشنة الغرياني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق