دائما
وأبدا تقع الدسائس والمؤامرات في ظروف من الكتمان والخداع، وهي لذلك ولكي تنجح
وتؤتي ثمارها الملعونة، تمارس في السر والخفاء، ولهذا السبب، لا يتصور أن تقع
مؤامرة أو دسيسة علنا وفي صورة مكشوفة ومفضوحة، ولكن ما جرى بالأمس في الزنتان،
كان خروجا على المألوف، إذ وقع اختراق أمني جسيم، متخذا صورة الدسيسة المكشوفة
والمؤامرة المفضوحة، ومن خلال الأجهزة الليبية الرسمية وبمساعدة بعض المسئولين
الذين نصبتهم السلطات الانتقالية في وظائف ترتبط بجوانب ذات طبيعة أمنية!!
والروايات
المتواترة تتفق جميعها على أن أربعة أشخاص أجانب جاؤوا لمقابلة سيف القذافي بصفتهم
من طرف المحكمة الجنائية الدولية، وتحصلوا على إذن بذلك من النائب العام، وقد
اصطحبهم ورافقهم في هذه المقابلة، شخص يشار إليه بأنه مندوب ليبيا لدى المحكمة
الجنائية الدولية، وفي أثناء مقابلة أحد هؤلاء الأربعة لسيف القذافي، تبادلا
أوراقا، والتي تبين فيما بعد أنها تحوي ما يشكل مساسا بأمن البلاد، وأنها صادرة من
أشخاص كانوا يعملون في النظام المطاح به، ويقيمون في الخارج، وأن هذه الواقعة وما
يرتبط بها، هي الآن، موضوع تحقيق لدى النيابة العامة.
هذا هو كل
ما قيل وتم تأكيده من ذوي العلاقة.
وليس من
أدنى شك أن كل من يستمع إلى تلك الرواية، ربما يعتقد أن قيام الأشخاص الأربعة
بزيارة سيف القذافي، كانت مبررة، وأن منحهم إذنا من النائب العام، يبرر هذه
الزيارة أيضا، وأن حرص مندوب ليبيا لدى المحكمة الجنائية في اصطحاب الأشخاص
الأربعة يعطي هذه المقابلة أو الزيارة، غطاء من الثقة والشرعية.
وهذا في
الواقع هو الزيف بعينه، وهو الكذب بعينه، وهو الخداع بعينه.
ذلك لأن
مبرر الزيارة أو المقابلة لم يكن حقيقيا ولا صحيحا، فليس للأشخاص الأربعة، أي حق
ولا صفة في مقابلة سيف، حتى لو كانوا افتراضا، يعملون في محكمة الجنايات الدولية.
لأن هذه
المحكمة، كهيئة قضاء موضوعي، لم تأمر ولم تسمح بهذه الزيارة، ولا يتصور أن تفعل
المحكمة ذلك، لأن قضية سيف لم تعرض على تلك المحكمة باعتبارها محكمة موضوع، خاصة
وأن هناك طعنا مرفوعا تنظر فيه يتعلق بعدم مقبولية الدعوى أمامها ولم يفصل في هذا الطعن
حتى الآن، ومن ثم ليس متصورا أن تسمح هذه المحكمة بصفتها القضائية لأي أحد بزيارة
سيف ولا غيره، كما وأن الاحتجاج بصفة المحامي في هذه الزيارة ليس صحيحا، من
الناحية القانونية أو الموضوعية، بل هو تبرير واهي وغير مقبول.
كما وأن
السلطات الليبية تعي جيدا أن سيف القذافي، هو متهم في قضايا جنائية يجري التحقيق
فيها، وأنه ليس للأشخاص الأربعة، صفة المحامي أمام المحاكم الليبية، ومن ثم فإن
السماح لهم بزيارة سيف أو مقابلته على أساس تلك الصفة كان إجراء خاطئا. لأنه إذا
افترضنا جدلا صحة هذا الإدعاء، فأين هي القضية التي جاء هذا المحامي أو ذاك ليدافع
عن المتهم فيها؟ ولو دخلنا أكثر في الجانب القانوني، وافترضنا جدلا أن
هؤلاء"الزوار" محامون عن متهم معين، فإن المهمة الأولى أو الواجب
الأساسي للمحامي ليس في الالتقاء بموكله، بل بالإطلاع على ملف القضية وما تحويه من
وقائع وتهم وأدلة، فهذا الملف هو الأرضية التي يرتكز عليها عمل المحامي وليس في
الزيارة أو المقابلة!! والغريب أيضا أن لا أحد من هؤلاء طلب الإطلاع على ملف
القضية!! فدل ذلك على أن أمرا دبر بليل!!!
وقد قيل
أيضا في تبرير تلك الزيارة المشبوهة أن الأشخاص الأربعة يحملون جوازات سفر باسم
الأمم المتحدة، وأن ذلك يعطيهم الحق في الزيارة أو المقابلة. بل قيل أيضا أن
لهؤلاء الأربعة، حصانة دبلوماسية تمنع السلطات الليبية من اتخاذ أي إجراء جنائي
حيالهم. وهذا القول هو تضليل وخداع، لعدة أسباب، فليس مجرد حصول أي شخص على جواز
سفر باسم الأمم المتحدة، يعطيه حصانة دبلوماسية، فكل من يعمل في المنظمات الدولية،
يجوز له الحصول على هذا الجواز، ومن هؤلاء مثلا، الذين كانوا أعضاء في اللجان
الثورية والأجهزة الأمنية حين كان نظام القذافي يختارهم دون سواهم للعمل باسم
ليبيا لدى تلك المنظمات، ومازالوا إلى الآن!!! كمكافأة لهم على نشاطاتهم الأمنية
والثورية، وهي النشاطات التي كانت تنحصر في التطبيل أو التنكيل بالليبيين!! وليس
لأي سبب آخر.
ومن ثم
فإن الاستناد إلى كون الأشخاص الأربعة يحملون جوازات سفر باسم الأمم المتحدة هو
استناد لا محل له من الإعراب، ولا يجوز لأحد أن يثيره، لأن إثارة مثل هذا الإدعاء
الكاذب هو خداع وغش وتضليل، وهو أولا وأخيرا استخفاف بعقول الليبيين، وهو الأسلوب
الوحيد الذي كان يستعمله القذافي وعملائه ومنتفعيه طيلة حقبته المظلمة، وهو أسلوب
بات مرفوضا بعد ثورة فبراير.
والشيء
الذي يثير السخرية والاشمئزاز، أن الذي يقال أنه مندوب أو منسق العلاقة بين ليبيا
والمحكمة الجنائية يعترف بدون خجل أو حياء أنه رافق الأشخاص الأربعة لكي يتمكنوا
من مقابلة سيف!! فهل من أعمال الوظيفة المسندة له، أن يقوم بهذا الدور الذي هو
بطبيعته من اختصاص سائقي التاكسيات!!.. خاصة وأنه يعي تماما أنه ليس لأي من
الأشخاص الأربعة أي صفة رسمية بمحكمة الجنايات الدولية، حتى يظهر هذا الحرص
بمصاحبتهم ومرافقتهم والمجيء بهم إلى مدينة الزنتان، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء
الأربعة وكما قيل قد تحصلوا على إذن من النائب العام بالزيارة، فما هي دواعي حضوره
معهم؟؟!!! فالواقع يفيد أنهم ليسوا في حاجة لمساعدته أو لمعونته.. إذ كان بإمكانهم
وبعد أن تحصلوا على إذن بالزيارة، أن يتوجهوا للزنتان مباشرة.
وإذا كان
هذا الشخص تحديدا هو نفسه من كلفه مكتب الاتصال باللجان الثورية بأن يكون مندوبا
لنظام القذافي لدى المحكمة الجنائية الدولية، فهل قام بهذا الدور بالنسبة للمئات والآلاف
من الليبيين الذين كان يعتقلهم نظام القذافي بدون سبب في سجونه؟؟!! أم أنه كان
يعتبر المناضلين والشرفاء من أبناء هذا الشعب، كلابا ضالة لا اعتبار لهم!!
والأغرب
في الأمر، أن السلطات الانتقالية قد عززت وأيدت قرار مكتب الاتصال باللجان الثورية
بتكليف ذلك الشخص كمندوب لدى الجنائية الدولية، وهو ما يتعارض مع قانون النزاهة
والوطنية الذي وضع معايير محددة في تولي المهام والوظائف العامة!!! فهل عرض أمره
على هيئة النزاهة والوطنية؟؟؟ ولكننا إزاء هذا الوضع الشاذ والغريب، نضطر للتسليم
مع السلطات الانتقالية أن مكتب الاتصال باللجان الثورية كان يستهدف الصالح العام
وليس شيئا آخر!!
وفي صدد
هذه الواقعة، وبدلا من أن تقوم السلطات الانتقالية، بتوجيه الشكر والثناء لمن
اكتشف تلك المؤامرة الخسيسة، نراه يسارع بإصدار أوامره وتعليماته بالإفراج عن
المتورطين فيها دون أن تدري بحقيقة المؤامرة!! وكان يجب عليها بدلا من ذلك أن تطلب
من السلطات المعنية بإجراء التحقيقات الشاملة والواسعة في الأمر، وكشف الحقيقة،
ومعرفة ما يدبر لهذا البلد ولهذا الشعب في الداخل والخارج، وكان يجب عليها أيضا أن
تطلب حالا من الدول المعنية، الإسراع في تسليم الأشخاص الواردة أسمائهم في القضية،
لأنهم خالفوا شروط إقامتهم ولجوؤهم في تلك الدول، بما قاموا به من أعمال تهدد أمن
ليبيا، ولكن شيئا من ذلك لم يتحقق ولم يتم!!!
على أن
هذه الدسيسة المفضوحة، لم تقع فجأة، بل سبقتها، خطوات وتدابير وفق تخطيط مدبر، إذ
روج المنافقون والعملاء فبل وقوعها بأيام، شائعات وأباطيل، فقد قيل مثلا أن سيف
القذافي قد تمكن من الهروب، وأنه خارج الزنتان!! وقيل أيضا أن ثوار الزنتان
يطالبون بمزيد من الأموال كي يخلوا بين المتهم وبين السلطات الانتقالية، وقيل غير
ذلك، وكل هذه الدسائس والأباطيل تم الترويج لها قبيل قيام الأشخاص الأربعة بزيارة
سيف القذافي، كتمهيد للقيام بمخطط لا يعلم أحد حتى الآن بمخاطره وأضراره، ولكنه في
جميع الأحوال يتضمن مشروعا خطيرا يستهدف الإضرار بثورة فبراير وأمن البلاد، وليس
أدل على ذلك، من تمكن بعض الفارين المتواجدين في الخارج، من الاتصال بسيف القذافي
وهو في مكان احتجازه ولو عن طريق غير مباشر، فهذا يعد اختراقا أمنيا لا يمكن
التقليل من خطورته.
وعموما
فإن هذا الحدث الخطير، كان مفيدا، فرب ضارة نافعة، وأنه يجب ألا تتكرر مستقبلا،
وفي أي صورة من الصور، وأنه يجب علينا أن نحتاط دائما وأن نأخذ حذرنا من كل شيء
وبهذه المناسبة نرى من واجبنا أن نتوجه بالشكر والامتنان لأبطال الزنتان، فقد
كانوا مثلما عهدناهم، الأوفياء لثورة فبراير ولدماء الشهداء.
د. محمود
سليمان موسى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق