كثر
الحديث مؤخراً عن القانون رقم 37 لسنة 2012، وأغلب الحديث عنه كان نقداً وذماً
للقيود التي يضعها هذا القانون على حرية التعبير. ولكنني أرى أنه قانونٌ رائعٌ
جداً! ويجب تطبيقه فوراً، اليوم قبل الغد... ولكن، فكرتي عن القانون وعن تطبيقه
ليست متفقةً مع (الغاية) من وراء إصدار هذا القانون...
بدايةً لا
تهمني قصة تجريم (تمجيد) الطاغية؛ فأي شخص يُمجد الطاغية المقبور يُجرِّم نفسه
بنفسه، وكلنا على ثقة بأنه سيُحاكم ويُعاقب في مكانه؛ فلم يتحجج أي شخص، في يوم من
الأيام، لأي قانون يمنحه الحق في ضرب شخص (طريحة)! أما الحوارات التي تدافع عن
حرية التعبير وتنتقد الحد منها، ولو كان ذلك بمنع تمجيد الطاغية، كلها حوارات
سليمة ومنطقية، فقد علمتنا التجربة العربية أن وضع أول حلقة من قيود هذه السلسة
ينتهي عاجلاً أم أجلاً بحبل مشنقة لحرية التعبير.
ولكن
دعونا نفكر في بقية هذا القانون أولاً، ربما نطالب فقط بتعديله!
القانون
رقم 37 ينص على التالي: تجريم إذاعة أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو مغرضة في
أثناء الحرب. تجريم القيام بدعاية مثيرة من شأنها: إلحاق الضرر بالاستعداد الحربية
للدفاع عن البلاد، أو إلقاء الرعب بين الناس، أو إضعاف الروح المعنوية للمواطنين.
كما ينص القانون على أنه يعتبر في حكم الحرب: الظروف التي تمر بها البلاد. ويوضح
القانون أنه يعد من الدعايات المثير: الثناء على القذافي، ونظام حكمه، وأفكاره،
وأولاده، وتمجيدهم... وكذلك قلب الحقائق وتضليل الناس حول تصرفاتهم وما ارتكبوه في
حق البلاد، أو الدعاية لذلك النظام وأفراده بأي شكل من الأشكال. ولا ينسى القانون
تجريم إهانة الدين الإسلامي، أو هيبة الدولة، أو مؤسساتها النظامية والقضائية، أو
إهانة الشعب الليبي أو شعار الدولة أو علمها.
إذاً،
تمجيد الطاغية هو فقط نتيجة (فرعية)، أو تفسير للمادة الأساسية التي تجرم (الدعاية
المثيرة). وأنا شخصياً لا أريد أن أضيع أي وقت في التفكير في تجريم تمجيد الطاغية،
بينما لدي مجال واسع للتفكير في بقية القانون الذي يُدين المجلس الانتقالي!!!
بدايةً،
المجلس الانتقالي وقع في شر أعماله حين ظن أنه بتضمين نص (يعتبر في حكم الحرب
الظروف التي تمر بها البلاد) بأن هذا الحكم سيكون بمثابة إعلان حالة طوارئ تمنحه
صلاحيات غير محدودة وحصانة من التجاوزات، بينما أنه في الحقيقة قد حكم على نفسه
بتهمة (إذاعة أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو مغرضة في أثناء الحرب) فوفقاً
لهذا القانون، أي تصريحات يلقيها قداسة المستشار مصطفى عبدالجليل، أو أي بيانات
يصرح بها أي متحدث رسمي، أو أي أخبار كاذبة يحاولون خداعنا بها، كل هذه الأمور،
حكموا هم بأنفسهم، أنها تحدث اليوم (في أثناء الحرب)! وبالتالي، حين يكذب رئيس
المجلس الانتقالي أكثر من مرة (نعم، وبكل صراحة يكذب، لم يعد هنالك أي مجال للتعذر
بأنه راجل بركة أو بأنه ساذج أو لا يعرف شيئاً) وحين تُصدر بيانات كاذبة حول إصدار
القوانين وتعديلها، وحين تطفو على السطح بين الحين والآخر شائعات حكومية هدفها جس
نبض الشعب أو السيطرة على سخط الشعب، فإن هذه التصرفات تدخل تلقائياً في نطاق
القانون 37؛ فهم الذين أعلنوا هذه الفترة (فترة حرب)!
ولذلك لا
يستطيع أحدٌ منهم التهرب من جريمة أن تؤدي هذه الأخبار أو البيانات أو الشائعات
إلى إلقاء الرعب بين الناس أو إضعاف الروح المعنوية للمواطنين. فمَن مِنا لا
يُمزقه الرعب حول مستقبل بلادنا، ولم تضعف روحه المعنوية حين يكتشف كذب وخداع رئيس
المجلس الانتقالي وأعضائه؟! لا داعي لأن نحاول البحث عن أمثلة لكذبهم؛ فهي كثيرة،
كثيرة إلى حد إلقائنا نحن في أيدي الرعب واغتيال الروح المعنوية تماماً في داخلنا:
اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس، أعضاء المجلس الانتقالي الغامضين والراسخين في
مقاعدهم، إصدار القوانين وتعديلها وراء الأبواب المغلقة دون أي اعتبار لإرادة
الشعب، الميزانيات التي تختفي بينما نشكو من قلة السيولة، بقاء أعوان النظام
السابق في مناصبهم، عدم المتابعة لأي من أركان النظام السابق الهاربين وعدم المطالبة
الجدية بهم (عائلة القذافي، موسى كوسا، عبدالسلام جلود، التريكي، نوري المسماري،
قذاف الدم، الخويلدي...) عدم محاكمة أركان النظام المسجونين (سيف القذافي،
الخروبي، ضو، دوردة...) هروب أركان النظام وكأنهم سواح! (بشير صالح، بشير صالح،
بشير صالح يا سيادة المستشار... بشير صالح!!!) الخلافات الداخلية في الحكومة،
تهديدات الإقالة، وتهديدات الاستقالة، توزيع الصلاحيات، توزيع الميزانيات،
المسؤولية المعدومة، الهروب من المحاسبة... يا إلهي ما أكثر الرعب والفزع، ويا
إلهي كم نشتاق للروح المعنوية!
ولا ننسى
تُهم إهانة الشعب والدولة والمؤسسات النظامية والقضائية... لا أجد إهانةً أقوى
للشعب من ضحك المسؤولين علينا، خداع الشعب بوقاحة: ليست لدى الحكومة سيولة، لكنها
تستطيع إسكات الشعب والثوار بالمكافآت! الحكومة لا تبرم أي اتفاقات، ولكنها أبرمت
اتفاقات جديدة وأكدت عقود قديمة لا تخدم مصالح الشعب! الحكومة ستفتح تحقيقات في
هروب أركان النظام، لكنهم هربوا باتفاقات مع الحكومة!!! ولا ننسى إهانة المؤسسات
النظامية: احتكار الصلاحيات التنفيذية وشل بعض الوزراء، أليس إهانةً للسلطة
التنفيذية؟! الشبهات التي علقت بالمجلس الانتقالي من كثرة خطاياهم، أليست إهانةً
للسلطة التشريعية؟! أما إهانة المؤسسات القضائية، فيجب أن يكون لها وجود قبل أن
نستطيع إهانتها!!!
يجب أن
نطالب بتطبيق هذا القانون على الحكومة، على كل شخص ألقى الرعب بين الشعب وأضعف
روحنا المعنوية بالكذب والخداع، كل شخص أهان الشعب والدولة برعونته وأنانيته
وإخفاقاته... لا داعي لإلغاء القانون كلياً، فقط تعديله...
ولكن حتى
تهمة تمجيد الطاغية ونظامه يمكننا محاكمة الحكومة الحالية بها؛ فأعمالهم،
تصرفاتهم، إخفاقاتهم هي التي تمجد القذافي ونظامه، فهم الذين يُروجون لذلك النظام
ويدعون له بإخفاقاتهم، فيدفعون الشعب لأن يفكر مطولاً في أن يقول (يا يوم من أيام
معمر...)، هم الذين يقلبون حقائق الثورة ويُضللون الحقيقة، فيدفعون الناس إلى
المقارنة بين هذا الوقت وبين وقت الطاغية، وهي مقارنة بشعة ومؤلمة، ولكن أين المفر
حين نقف حائرين ولا نعلم لماذا ضحى الشهداء بحياتهم؟! لا نعلم ما الذي تغير؟
الفساد مازال مستوطناً حكومتنا، الشفافية مازالت في عداد المفقودين، الحقيقة
مدفونةٌ في قبرٍ غير معلوم، الصلاحيات يحتكرها شخصٌ واحد، ويُوزعها على من يدين له
بالولاء (ونعم، أقصد هنا سيادة المستشار الفاضل...) حرية التعبير أصبحت جريمةً
وخيانة، القضاء كما هو: أطلالٌ لصرح العدالة، القانون بقيَّ كما هو لعبة، فما هو
الذي تغير يا سادة؟! ما هو الذي تغير؟! ألا تُمجد تصرفات الحكومة وإخفاقاتها
النظام البشع السابق؟!!!
سأعترف
بأن هذه المقالة هي مجرد هلوسات شخص يائس... أعلم ذلك، وأعلم أنه لا مجال لتطبيق
هذا القانون بهذا الشكل... لا أعني من الناحية العملية، فهذا، على حد علمي، أمر
سليم قانونياً، وأدلة إثباته موجودة بوفرةٍ مؤلمة... ولكنني أعني أنه لا يمكن
تطبيقه من ناحية تعارض النصوص القانونية.
فكأن
المجلس الانتقالي تنبه للمأزق الذي وضع نفسه فيه حين أصدر القانون 37، ربما أحسوا
بوخزٍ في ألسنتهم حين ذكرهم هذا القانون بكثرة كذبهم وخداعهم! ولهذا نجد أنهم
ألحقوا بالقانون 37 القانون 38، والذي ينص على إصدار عفو شامل عن كل ما استلزمته
ثورة 17 فبراير من تصرفات تهدف إلى إنجاح الثورة وحمايتها. وكما كانت لنا حرية
تفسير القانون 37 لاتهام الحكومة الحالية بما فيه من جرائم، فالحكومة لها أيضاً
حرية تفسير القانون 38 بما يمنحها عفواً شاملاً عن أي جرائم...
هل كذبت
على الشعب؟ نعم، ولكن لحماية الثورة والحفاظ على الوحدة الوطنية... هل أصدرت
تصريحات غير صحيحة؟ نعم، ولكن للحفاظ على وحدة الصف وضمان نجاح الثورة... هل سرقت
أموال الدولة أثناء عملك مع النظام؟ نعم، ولكن لتشجيع الشعب للانتفاض على الفقر...
هل قتلت وذبحت الشعب أثناء الثورة؟ نعم، ولكن لشحذ عزيمتهم وتشجيعهم على النضال
والكفاح باسم الثورة... أي شيء، أي شيء يمكننا تفسيره على أنه لإنجاح الثورة
وحمايتها، والنتيجة لهذا واحدة: مبروك عليك العفو... ولا داعي لأن نظن بأن هذا
مستحيل، أو لا يقبله العقل؛ فلقد حدث كثيراً، كلمات مثل: (اللحمة الوطنية)، (وحدة
الصف)، (العمل مع الثورة من داخل النظام)، (مصلحة البلاد)، (تفادي وقوع الفتن)...
وغيرها الكثير من الأعذار، كلها تم رميها في وجوهنا المصدومة وكأنها صكوك غفران
إلهية...
تطبيق
القانون رقم 37، وإلغاء القانون رقم 38، هذا ما أرجوه الآن... فليس من المعقول أن
تكون للحكومة حصانة من هذه الجرائم، بينما الشعب المنهك، الشعب الذي يُدفع يوماً
بعد يوم نحو الحافة، يكون مُجرَّداً من أي حصانة...
ولكن...
ألا يمكننا اعتبار إسقاط هذه الحكومة المنحرفة تطبيقاً للقانون 37؟ ألا ينشرون
الرعب بين الناس ويذبحون الروح المعنوية للمواطنين؟ ألا يُمجدون بإخفاقاتهم النظام
السابق؟ ألا يُهينون الشعب والدولة ومؤسساتها بتصرفاتهم المخزية؟! إذاً إسقاطهم
يجوز قانوناً! ثم إن إسقاط الحكومة الحالية، بهدف إنجاح الثورة وتصحيح مسارها،
وحمايتها من الانحراف، هذا الإسقاط يحظى إذاً بحمايةٍ قانونية، وحصانة كاملة من أي
ملاحقة قضائية، مهما كانت الوسيلة المستخدمة!!!
يبدو أن
الأمر يحتاج للمزيد من التفكير؛ فقد ظهرت به بوادرٌ إيجابية في صالح الشعب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق