عانى
الليبيون والعالم من شطحات وتفيّقهات وخزعبلات وطرّهات وسخافات وحماقات القذافي،
وتندّروا وتسلّوا بمسخه اللاّ فكري عقودا من الزمن، وفي الوقت الذي كان الكثيرون
يتوقعون أن تدخل ليبيا بعد الثورة المباركة مرحلة جديدة من الحكمة والتعقل
والبصيرة، آخذة بأسباب ومقومات الحياة المدنية الجديدة، ومستفيدة من تجارب الآخرين
في صنع المؤسسات وبناء الدول الحديثة القائمة على القانون والعدالة والشفافية،
وذلك من خلال اختيار نخبها الواعية والمثقفة لقادة ومسؤولين على قدر عال من الخبرة
السياسية والإدارية ولهم من مقومات القيادة الرشيدة ما يؤهلهم لذلك، ولكن ليبيا
كعادتها أبت إلاّ أن تؤكد مرة أخرى صدق نبوءة " هيرودت " بأن من ليبيا
يأتي الجديد، فأخرجت لنا " حكماء جدد " لينقلونا من مرحلة التفيقه
ويدخلوننا في مرحلة الدروشة، وليست الدروشة بمفهومها الاصطلاحي كعلم للتصوف، بل
بالمعنى الدّارج لها المتمثل في اغتيال العقل والتّصرّف بما يشبه الأشخاص المرفوع
عنهم القلم، رغم أننا وفي أحسن الأحوال لم نكن نطمح بأكثر من أن نكون في مستوى
جارتنا تونس ليس إلاّ، أو حتى شكل قريب من أشكال المسخ الديمقراطي في العالم
الثالث،
فقارنوا بالله عليكم بين العلاّمة منصف المرزوقي الذي ألقى خطابا في
الجلسة البرلمانية التي نصّب فيها رئيسا مؤقتا لتونس جديرا بأن يُدرّس في كليات
العلوم السياسية وبين خطب مسئولينا الجدد، وقارنوا بين الدكتور برهان غليون رئيس
المجلس الوطني في سوريا الذي يضيف بين الحين والآخر مفردة ومصطلحا جديدا لقاموس
ولغة السياسة وبين المفردات والعبارات التي يتلفّظ بها مسئولينا،
وإذا كانوا هؤلاء
الحكماء الجدد قد سوّلت لهم أنفسهم وأقنعتهم بأوهام من نسج خيالهم بأن ما يقومون
به "ساس ويسوس" ولا يندرج في خانة الدروشة السياسية، وأنه يمكن إطلاق
صفة سياسي أو قيادي على أيا منهم فهذا شأنهم وشأن تلك النفس التي أوهمتهم بذلك،
فقد غررت تلك النفس الأمارة بالسوء بمعلّمهم من قبل وأوهمته بأنه صانع التاريخ
وحكيم حكماء العالم وملهم البشرية، في حين كان محل تندّر وسخرية من الجميع،
لذا
يكون من الصعب عليهم بل من المستحيل أن يقنعوا أحدا في العالم سواء بما يقومون به
من ممارسات، أو بأن لهم من القدرات ما يمكّنهم ليس من بناء وإدارة دولة تفتقر لأي
مؤسسات حقيقية، وما يتطلب ذلك من مهارات سياسية عالية بل حتى تدبير شؤون نجع
تدبيرا صحيحا،
وقد يتعامل الآخرون مع مسئولين من هذا النوع فقط من زواية سهولة
الضحك عليهم واستغلال سذاجتهم لا أكثر ولا أقل، خاصة أن الجميع يعرف حجم الاستباحة
التي تعيشها ليبيا اليوم والتي لم تعرف دولة قط مثلها في العالم، بما في ذلك دولة
الصومال التي عاشت لسنين بدون حكومة، أو العراق بعد السقوط المريع لنظام صدام، فلم
نسمع ولم نر أن معارض تُقام في الخارج لمقتنيات دولة سلبت ونهبت منها في وضح
النهار، ولم نر وثائق ومستندات وملفات بأكملها سرية وغير سرية تنشر على شاشات
الفضائيات وصفحات الانترنت بعد هتك عرض كل مؤسسات الدولة، وبالطبع ما خفى كان
أعظم،
كما أن العالم بصحفييه وجواسيسه المنتشرين في طول البلاد وعرضها تحت مسميات
شتى يرقبون ويرصدون حركاتنا وسكناتنا ليل نهار، ولم يتركوا مكانا إلاّ وصوّره، ولا
جحرا إلاّ ودخلوه، ولا مسئولا إلاّ وأربكوه بكثرة المقابلات والتصريحات واللقاءات
على الطالعة والنازلة كما يقول السوريون، والتي هي في أكثرها أقرب إلى الدروشة
منها إلى الأقوال السياسية المعتبرة، وبذلك أصبحت التصرفات والإجراءات اللاحقة
سواء من قبل المجلس الوطني الانتقالي أو الحكومة مكشوفة ومفضوحة ومحللة تحليلا
صحيحا من قبل هؤلاء، ومرسلة إلى وجهتها عبر تقارير دقيقة،
وبالتالي عندما يقول أحد
هؤلاء الحكماء الجدد مثلا بأن الحكومة الانتقالية شُكّلت على أساس الكفاءة لا غير
ولم تقص أحدا فإن العالم يعرف صدق هذا القول من عدمه، ويعرف أنها حكومة "تل
فريك" وليست "تكنوقراط"،
وعندما يختبئ المجلس الوطني الانتقالي
وراء إصبعه ولا يعلن عن أعضائه، ولا عن نواياه، ولا يفسّر ماذا يعني النكث
بالوعود، وعدم احترام الإعلان الدستوري السيئ السمعة والمحتوى والصياغة، وأنه أصبح
كفاقد الطهورين لا شرعية ولا قبول له، فإن العالم يعرف إجابات ذلك بكل دقة،
وعندما
لا يتم الكشف عن حقيقة مقتل الشهيد عبد الفتاح يونس، أو الممارسات الأخرى التي حدثت
واستنكرتها دولا ومنظمات عدة، فإن العالم يعرف من وراء كل ذلك ويعرف الرواية
الصحيحة والكاملة لكل تلك الأحداث،
وعندما يرى العالم ويسجل عمليات النهب
والاستيلاء على الأموال والممتلكات العامة والخاصة، والتجارة في السلاح فإنه من
الصعب نكران ذلك،
وعندما يقرأون ويتابعون كل ما ينشر ويكتب من قبل جميع أطياف
المجتمع الليبي حول استغلال المسئولين الجدد وبشكل فاضح لوظائفهم بمستوى من الفساد
الإداري والمالي لا يقل عما كان زمن الطاغية إن لم يكن قد تفوّق عليه وتجاوزه
بمراحل، ويسمع أنفاس الشعب تردد:
يا بائع
الفجل بالمليم واحدة
كم للعيال
وكم للمجلس الوطني
هل يريد
المجلس الوطني أو الحكومة الانتقالية بعد كل ذلك والعالم يراقبنا لحظة بلحظة أن
يقنعاه بأنهما يقومان بخطوات جادة وحقيقية على درب بناء دولة ديمقراطية حديثة
قائمة على العدل والمساواة وسيادة القانون؟ وهل المجلس والحكومة يعتقدان أن العالم
ساذج وغبي إلى درجة أن يقبل هذه الدروشة حتى يفرج لهما عن مليارات الدولارات لمجرد
تصريحات " لا بتودي ولا بتجيب " أو إرسال رسائل من هنا أو هناك، هم
يعرفون جيدا أن الحكومة لا تمثل إلاّ جزءاً يسيراً من مدن وقرى ليبيا، وأن المجلس
الوطني لم يعد يملك الشرعية الكافية للاستمرار بعمله بهذه الطريقة، وأن مستوى
أدائه أقل من ضعيف، وأن هناك غياب كامل للشفافية، وبالتالي لو أرسلنا ألف رسالة
إلى الأمم المتحدة وغير المتحدة فلن يفرجوا عن الأموال إلاّ بقدر إطعام الأفواه،
فهم يعرفون " الليّ فينا فينا ولو حجّينا وجينا "، ونحن نقول لمجلسنا
الموقر:
ياعابد
الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك
في السياسة تلعب.
فالعالم
مستمر في التعبير عن عدم اطمئنانه للأوضاع في ليبيا الجديدة لعلمه اليقيني بحقيقة
ما يجري، فالأعمال الديكورية المشوهة والممسوخة لن تحقق شيئا سوى إضاعة فترة أخرى
من عمر الليبيين، وكأن الذي ضاع ليس كافيا، فهم يعرفون أن المجلس والحكومة يريدان
من الإفراج عن الأموال التغطية على مآرب أخرى لهما بتقديم بعض الحسنات والصدقات
التي تلهي هذا الشعب الطيب عن حقوقه ومستقبله السياسي، متناسين هؤلاء الحكماء أن
ثورة الليبيين لم تكن من أجل بطونهم بل من أجل الكرامة والحرية، وأنا على يقين بأن
الذي يستخف بالقوانين وينكث بالعهود ويراوغ ويمارس الوساطة والمحسوبية ويدوس على
القانون ليل نهار هو أبعد ما يكون حتى عن إشباع هذا الجوع الذي ستقدم من أجله
الأموال، وليس القيام بإصلاحات في مستوى الحلم الذي يتطلع له الشعب الليبي، وأفضل
من شبّه انتظار المستحيل من مثل هؤلاء الحكماء هو الأديب الراحل توفيق الحكيم
عندما قال:
ياطالع
الشجرة ـ هات لي معك بقرة
تحلب
وتديني ـ بالملعقة الصيني
ونقول
للمجلس الوطني الانتقالي والحكومة:
يا راقد
الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث
قد يطرقن أسحارا
فاتقوا
غضب الشعب فغضبه وقد رأيتموه وهو يقتلع الأصنام من أساساتها كما تقتلع الرياح
العاتية الأشجار من جذورها، ولا تدخلوا ليبيا في نفق مظلم إرضاء لمصالحكم
الأنانية، واستفيقوا واستبينوا الأمر قبل فوات الأوان.
أمرتهم
أمري بمنعرج اللوى
فلم
يستبينوا الرشد إلاّ ضحى الغد
موقع ليبيا المستقبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق