أحمد الله
أني لم آتك في خصام حول طلاق زوجة، أو عقد قران بأخرى فأنت كقاض شرعي غالبني لا
محالة، ولكنني أعلم أنك لن تعدم وسيلة لتفنيد اتهاماتي حينما يتعلق الأمر
بالقانون، فأنا فيه جاهل حتى الثمالة، فقد قضيت جلّ عمري أتعثر بين الحائط وبين
حافة الطريق كي أمشي في طريق مستقيم، رغم أننا نحن الذين ولدنا في الدروب الوعرة
نتنسّم الطريق بين وهدة وعلوة، لا ننفكّ نناكف الحكومة تلو الحكومة رغم هيبتها..
ولم يكن في يوم من الأيام مطلبنا أكثر من أن تنصفنا وتعطنا نصف حقنا.
يبدو أنني
كعادتي أسرفت في الغموض ولم أبيّن لك سبب طرقي لبابك هذا الصباح بقوة غير معتادة..
أقول لك يا سيدي أنني قد انتظرت، ثم صبرت، ثم تأففت، ثم يئست، ثم قنطت، ثم انفجرت
أشلاء مبعثرة تلملمت فوق أيادي البسطاء الذين خيّروني بين أن يتركوني أو أتركك..
ولعل فطنتك تدلّك أني قررت أن أعمل بالرأي الثاني.
منذ اليوم
الأول للثورة التونسية ونحن نحلم بخيال "البوعزيزي" يحوم في ربعنا..
جلسنا فوق نار "المناذير" الملتهبة نبكي لمرأى طفلة محرومة، ونهلل لشاب
قال "لا" في ضوء الظهيرة.. تململنا، وقمنا، وقعدنا، وأدمنّا مراقبة الطريق
من شقوق الباب لعلّ صوت الدبيب يصلنا حتى انهمر السقف علينا، وبانت السماء حمراء
كألسنة جهنم فوقنا.
أنتفض
الشعب العظيم لأول مرة.. قام المارد الغافي فوق ركبة أمه، فطم نفسه بنفسه.. رمى
بقنينة الحليب المخدر وزحف لوهلة، ثم حبا، ثم مشى، ثم ركض في يوم واحد.. لهذا
الشعب يا سيدي خصلة لا يعرفها الكثير.. تحسبه ميتا ثم تراه يتنفس.. تظنه مغميا
عليه ثم تراه يتمدد، وتراه قاعدا وهو يمشي، وإذا ما بدأ المشي فهو لن يقف. لشعبنا
طباع البراعم: تغفو فتهمد، ثم تصحو فتنهد.
أظنك
كمواطن لعق من ملح هذا البلد، وخطا فوق ثراها العذب تعرف ما يعنيه المشي عند هذا
الشعب.. فلماذا إذن تريد أن تفرض عليه أن يمشي من هنا إلى هناك في وسط دائرة؟.
لماذا تحاول منعه من ممارسة حقه في الصعود من الأسفل إلى الأعلى؟. إن كل ما نريده
هو أن نطلّ برأسنا من الحفرة التي وضعتمونا فيها كي نرى العالم حولنا.
أسمح لي
يا سيدي أن أكون فضّا بعض الشيء فأبتعد عن لمس الزجاج بالقطن وأمسّك مباشرة.. لقد
رضينا بك حين نصّبوك علينا، وامتنعنا حتى عن لمسك بأعيننا.. كتمنا كل ما فينا
ومددنا أيادينا نحملك على شعاع من نور.. لم نسمح حتى أن نسمع لمن قال شيئا فيك.. اعتبرناك
البطل الذي سيعبر بنا إلى هناك حيث للحقول خضرة النماء، وحيث للبحار زرقة السماء.
وكما يحدث
يا سيدي في الأفلام الهندية تبعناك دون وعي إلى حيث أردت.. كنا نغلق أعيننا، ونضع
سدادة على آذاننا، وكمامة على أفواهنا ونحن نراك تنحدر وتنحدر حتى وصلت بنا إلى
قاع البئر. ضحالة المياه الراكدة مسّت أصابع أقدامنا، وعتمة الوسط تكاثفت فوقنا،
فنزعنا عن أعضائنا ما ألبستنا إياه الأيام، وتنشقنا ريح العطن، قفلنا من حيث
أتينا.. صحنا فيك أن تأتي معنا فأبيت، ورجوناك أن تتسلق الحبل الذي تدلى إليك
فرفضت وصممت على أن تتبع غيرنا.
ولأننا
نعلم أن كل الدروب ستكون مسدودة على كل من أبى أن يخرج معنا، خرجنا إلى الشوارع
هادرين كي تسمعنا، وكتبنا فوق كل حوائط المدينة أسمك بالمقلوب كي ترانا، وحين
رأينا أعوانك مصرّين على القراءة من الشمال إلى اليمين رفعنا المصاحف كي يروا حروف
الله الناصعة، ولكن ظلمة العيون لم تر ما أضاء فوقنا.
خطيرة،
ولكنني لن أتطاول عليك لأنك قد دونت يوما ما في سجل بلادنا قصة جميلة.
سيدي
مصطفى عبد الجليل قد أخرج إلى الشارع راكضا فوق دموعي كي أرثي أيامك، وأبيّن للناس
أحلامك الضائعة بين الولاءات المبعثرة، والوعود المنتثرة، ولكني لن أهجوك لأنك حتى
حينما سرت بنا خلف ظهرك لم تكن تعرف موقع الشمس.
سيدي
مصطفى عبد الجليل.. لقد أزف موعد الرحيل.. أعلنها وأنا أعدو خلف الجموع مناديا في
الشوارع والأزقة كل سكان البلدة الآمنة.
رحيلك
الآن رحمة لنا ورحمة لك.. نريد أن نحتفظ بصورة جميلة لك وأنت تبتسم.. لا نريد أن نشم
الدماء المنسابة من تحت كرسيك، ولا نريد أن نرى الخراطيش الفارغة تنصبّ تحت
قدميك.. لقد سئمنا أزيز الرصاص، وكرهنا منظر الوحوش الحديدية تركب فوق ظهور
شوارعنا.. ارحل سيدي ففي رحيلك نجاة، والعاقل من يعرف أين تغطس المرساة.
علي عمر
التكبالي
طرابلس
20-12-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق