شجرة الزيتون
قصة قصيرة
صامد كشجرة الزيتون، ثائر كأطراف أغصانها الجافة المتشابكة، ناضر كخضار أوراقها السميكة المدببة والداكنة على مدار العام، ثابت كساقها الغليظ كأنه صخرة منحوتة متفردة لاتتشابه مع غيرها من الأشجار، صافي كزيتها المعصور الخام بكل مكوناته الطبيعية، ناضج كحبات ثمارها الملساء المنتفخة.
كان الشيخ محمد قد التحق بالقوات المسلحة يافعا وعاصر ازدهارها وسقوطها، ورأى بأُم عينيه كيف تتحلل المؤسسة العسكرية في مستنقعات أفريقيا وكيف تأكل التماسيح رفاقه في أدغال أوغندا، كيف لا تكفي المرتبات الشهرية قوت الجنود، وكيف يعمل هؤلاء بالسخرة في مزارع بعض الضباط واستراحاتهم. خَبُر المشاريع الوهمية لصناعة الصواريخ واسلحة الدمار، والمعسكرات المنتفخة بالأسلحة حد التخمة دون قدرة على استخدامها. رأى الطائرات الحربية المفككة على مدارج الطائرات والقطع الحربية الصدئة في الحظائر البحرية، بينما المستندات تقول عكس ذلك، ومكاتب المشتريات العسكرية تستورد لها قطع الغيار، ولم يعد قلبه ليحتمل.... وحين ضاق القائد الأعلى بجيشه، وقرر الإستغناء عن أفراده الضعفاء منهم والأقوياء سرحهم واستخدم لذلك تعبير "الانفكاك" وكأنه يرغب في أن "يفتك منهم" كما يقول التعبير الشعبي... فك الشيخ محمد نطاقه و خلع البدلة العسكرية الخضراء وأقسم أن لا تلامس بدنه أبداً، غادر المكان إلى غير رجعه، إلى مسقط رأسه "الزنتان" ارتدى السروال الأبيض و"السورية" الطويلة و"الفرملة" صيفا، وتدثر "بالحولي" الصوف شتاءً.. إتخذ من جامع في وسط البلدة مستقراً، يؤم المصلين، قيما عليه، حياته وادعة.. هادئة، ينقصها الكثير حد الكفاف احيانا، يملأ رئتيه كلما ضاقت شعيراتها بهواء الصحراء النقي المتاخمة للزنتان.
لايعرف الليبيون عن "الزنتان" الكثير، وهي التي انتفضت ما أن وصلتها صرخة الشرق الجريح بيوم واحد، وخرجت تنادي وتهتف "بالروح... بالدم نفديك يابنغازي". هي المدينة الوادعة حد القلق، التي لا يقطع رتابة الحياة فيها إلا ضجيج السيارات الصحراوية المحملة بالسياح والمتجهة جنوبا نحو الصحراء بين الفينة والأخرى. تقع "الزنتان" على مشارف الحمادة الحمراء التي هي جزء من الصحراء الكبرى المنسكبة والمكدسة رمالها والمنحوتة صخورها ما بين محيط هائج وبحر مرجاني وادع... والحمادة ارض قاحلة، مستوية في بداياتها مليئة بالحصى تميل تربتها إلى الإحمرار، كما وأنها تحوي بالإضافة إلى الذهب الأسود، نبة "الترفاس" الغنية بالبروتين. ما أن تهبط قطرات المطر النادرة على حقول التراب، حتى تتورم حبة الترفاس تحت الأرض الرملية المائلة للحمرة، وتشق الأرض من حولها.
جثم غيم البطالة على "الزنتان" فأمتهن بعض شبابها جمع "الترفاس" في مواسمه، يخرجون جماعات إلى "الحمادة"، يبحثون عنه، يتخفى تارة تحت الرمال المعجونة بالحصى، أو يبزغ سطحه الأبيض من بين التشققات التي يحدثها. يحفرون بأظافرهم بعناية من حوله، ثم يضعونه بتربته الحمراء العالقة به في صندوق بلاستيكي، يقفون على ناصية الطريق الرئيسي، يعرضونه للبيع... يحتفظون ببعض الحبات يطبخون بها "مكرونة أمبكبة" على الفحم في الهواء الصحراوي الجاف. إلا أن حتى جمع الترفاس نافسهم فيه الأجانب من دول الجوار، فضاق الخناق على "الزنتان" واشتد عليها وعلى بلدات الجبل الغربي، حتى أزرقت وجوهها وشحبت.
لاتملك "الزنتان" ما تخاف عليه، سوى رجالها.. شحت المياه، واصابها التصحر في معظم مناطقها، ولم يعد أحد يعبأ بها، لم تطأها قدم أي مسؤول حكومي مرموق منذ زمن.... تخطتها كل المشاريع حتى الوهمية منها، ولولا بعض المباني التي بنيت في الستينيات والسبعينيات لما اختلفت عن الحمادة الحمراء القاحلة... حتى السياحة الصحراوية الموسمية التي استبشر بها شبابها تبخرت كالسراب رغم درايتهم وخبرتهم التي لاينافسهم فيها أحد بخبايا الصحراء، وإثرها، ومخاطرها. السياحة تحتاج إلى المهارة والمال، وهم ثعالب الصحراء لايملكون حتى سيارات صحراوية مخردة، يملكها من له علاقة بالأجهزة الأمنية، يستغلونهم ويمتصون رحيق خبراتهم ثم يناولونهم القليل... وهم المتعففون، مرحين وصبورين صبر الصحراء وشجرة الزيتون.... يعيشون الكفاف في كل شي إلا في كرامتهم وشهامتهم ورجولتهم...
وحين اشتعل الشرق، فزعت له "الزنتان" وحدها.... اشتعلت كالشمعة البيضاء دون أية محسنات للرائحة أو اللون.... هكذا على طبيعتها، اجتمع اهل البلدة، ثم اتجه الشيخ محمد إلى الجامع الذي سكن اليه وكبّر.. ثم كبّر... وانتفضت الزنتان...
نزع الشيخ "محمد" حوليه وبدلته العربية، بحث في خزانته عن البدلة التي نزعها واقسم ألا يضعها... ووضعها، تفاجأ انها ما تزال تناسبه رغم السنين، ابتسم، خرج بها إلى الجموع التي بُحت حناجرها من الهتاف... وهكذا قررت الزنتان الثورة لوحدها وهي على أعتاب الصحراء، تفتقر إلى التحصينات حتى الطبيعية منها... مستوية ومكشوفة، خبئوا لهم المرتزقة بين شجر "غابة الكشاف"، وزحفت نحوهم ارتال العربات والراجمات وحاملات الصواريخ، التي تساقطت عليهم وليس لهم من حماية سوى اجسادهم وشجاعتهم، حاصروهم وجوعوهم، قطعوا عنهم الكهرباء والمياه، ولأنهم يعيشون الكفاف منذ سنوات تحملوا... وتحملوا، ثم فكوا الحصار وهاجموا.
تحررت البلاد التي فزعوا لها، بينما ظلوا هم تحت الحصار والقصف لأشهر، وبعد أن طهروا بلدتهم، شاركوا اخوانهم في الجوار حتى تمكنوا معا من تحرير أغلب الجبل... خسرت الزنتان أعز شبابها ، تودعهم شهداء في جماعات وقوافل يتساقطون كحبات الزيتون الناضجة على أراضيها وخارجها، تجهز الأكفان والتوابيت بالجملة، يدفنوهم في أعراس من البكاء والتكبير، ينزلون إلى اللحود ويعمقونها، ثم يسوونها ويرشون عليها الماء، يضعون شهداءهم في مثواهم الأخير مواجهين للقبلة، يهيلون عليهم التراب بأياديهم، يقرأون الفاتحة، يمسحون دموعهم وهم يحتضنون بعضهم البعض، ينحنون لأخذ بنادقهم ثم يرحلون إلى الجبهات، يتقدمون الصفوف إلى الموت يستدعونه.
خبروا نزع الألغام سلاح الجبناء الذين يتقهقرون ويخلفون أوعية بلاستيكية مفخخة جاهزة للإنفجار بمجرد السير عليها أو ملامستها، يحفرون بعناية من حولها كما يحفرون من حول الترفاس، والفارق أن الألغام من صنع البشر وتدبيره والحَفر من حولها محفوف بخطر الموت، بينما الترفاس هبة من السماء و الحَفر من حوله ضاج بالحياة والرزق الكريم.
"الزنتان" التي لم يعرف عنها الليبيون إلا القليل، تصدرت اخبارها الصحف العالمية، ونقلت الفضائيات صور أبطالها وجسارتهم في المعارك، واستراحتهم ما بين القتال، ودموعهم العزيزة وهم يودعون شهداءهم، وخطب شيوخها المدثرين حتى قمة رؤوسهم بالبياض يعلنون رفضهم الوعود بالأموال وطي صفحات أعوام من الإهمال... وأن دماء الليبيين لا تشترى بل أنهم يبيعون أرواحهم فداء ليبيا.
كان الشيخ محمد قائدهم الميداني، يكّبر فيهم، ويحمسهم، ويضع الخطط.... يدرب أصابعهم التي دأبت على جمع الترفاس، على الضغط على الزناد، ببنادق قديمة ورثوها عن اجدادهم أو بنادق صيد الغزلان، يعلمهم أخلاق الإسلام في القتال أن لاتقطعوا شجرة، ولا تقتلوا شيخا أو صغيرا ولا أسيرا أو مدبرا، يوعي مداركهم ويشعل فيهم الشجاعة المتأصلة فيهم، ويغرس الثقة التي بدأوا يستطعمونها... يتقدم صفوفهم يصحبه ابنه وبعض من اهله.
ما يجعل الشيخ محمد قائدا عال القامة، أنه رغم هول المصاب، يسعى لحقن الدماء حتى وإن كان عدوه مرتزق جاء يحارب بني وطنه ويقتلهم ويعتدي على حرماتهم من أجل المال... يناديهم، يدعوهم للأمان، لنزع فتيل القتال مقابل سلامة أنفسهم...
حتى كان ذلك اليوم... وقف بقامته الفارعة كشجرة الزيتون، وهو يرتدي زيا عسكريا للصاعقة، يحمل في يده مكبرا للصوت بدلا من البندقية، قرأ بعض من الذكر الحكيم وصلى على الرسول الكريم، ثم نادى على المعتدين المحاصرين في احدى الأبنية المحطمة، وطلب منهم الخروج دون اسلحة ووعدهم بالأمان.. وبدلا من أن يستسلموا انطلقت رصاصة الغدر من المبنى المتهالك فأصابت شجرة الزيتون في مقتل، يبست الشجرة النقية لكنها لم تسقط، أسقطت ثمارها اللامعة الناضجة التي تدحرجت بخضارها وسوادها حتى تباعدت عن الصحراء وهي تتجه شمالا، تنبت أشجار زيتون اخرى على طول الطريق.
عزة كامل المقهور
25. 7. 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق