الاثنين، يناير 10، 2011

المضاربة في الأوراق المالية

تختلف المضاربة في بورصة الأوراق المالية عن المضاربة في الفقه الإسلامي، والتي تُعْرف في لغة أهل الحجاز بالقراض والمقارضة[1] والتي تُعَّرف بأنها: "دفع مالٍ معينٍ معلوم قَدْرهُ، لمن ينَجَّز؛ فيه بجزء معلوم من ربْحه". [2]
فالمضاربة في الفقه الإسلامي تعتمد على دفع مالٍ لمن يضارب بهذا المال، فيشتري سلعاً ويستلمها ثم يبيعها بعد وقت، فما زاد عن رأس المال المدفوع، فهو بينهما على ما شرطاه.

أما المضاربة في أسواق المال فهي عمليات بيع وشراء، يقوم بها أشخاص؛ لا بقصد تسلُّم وتسليم السلعة، أو تسلم السهم لمحتواه، ولا بقصد شراء السهم رغبةً في الاشتراك في موجودات الشركة للانتفاع بما يعود عليه من ربح من أعمال الشركة[3]، وإنما لجني ربح من الفروق التي تحدث في أسعار الأسهم بين وقت وآخر.

ثم إن المضاربة في الأوراق المالية إنما تتم في مكان معيَّنَ مخصَّص لإبرام صفقات تجارية كما سبق أن ذكرنا ذلك عند ذكرنا لاختلاف سوق الأوراق المالية عن الأسواق العادية، والمضاربة في البورصة هي ترجمة للكلمة الإنجليزية (speculation)، والواقع أن هذه الكلمة تعني: التنبؤ أو التخمين، وليست بمعنى المضاربة، ويفضل بعض الاقتصاديين استعمال كلمة المجازفة بدلاً من المضاربة في البورصة[4].

ولا يوجد تعريفٌ محددٌ للمضاربة في أسواق المال؛ متفق عليه عند الاقتصاديين بناءاً على الخلفية المسبقة عند بعضهم، في اعتبار بعض التداولات من أعمال المضاربة المشروعة، أو غير المشروعة.

ومن تلك التعاريف:
1- المضاربة في الاقتصاد: "عملية بيع أو شراء، يقوم بها أشخاص خبيرون بالسوق؛ للانتفاع من فروق الأسعار، ويقال: ضارب في الأسواق: اشتر في الرخص، وتربّص حتى يرتفع السعر ليبيع، وقد يهبط فتحدث الخسارة"[5].
2- ومن التعاريف أنها: "عملية بيع أو شراء، يقوم بها أشخاص، بناءاً على معلومات مسبّبة للاستفادة من الفروق الطبيعية لأسعار السلع، سواء كانت أوراقاً مالية، أو بضائع"[6].
3- ومن التعاريف أيضاً أنها: "عملية بيع وشراء صوريين؛ للاستفادة من فروق الأسعار"[7].
4- ومنها: "بيع أو شراء صوريين؛ لا بغرض الاستثمار، ولكن الاستفادة من التغيرات التي تحدث في القيمة السوقية للأوراق المالية في الأجل القصير جداً، حيث ينخفض بشدة معدل الارتباط بين القيمة السوقية للأوراق المالية من ناحية، وبين القيمة الاسمية والدفترية من ناحية أخرى"[8].

ويلاحظ على هذه التعاريف:

أولاً: أنها اتفقت على أن كلَّ من يقتني السهم؛ للانتفاع والاستفادة من فروق أسعار الأسهم ـ دون أن تكون لـه الرغبة في الإفادة من العائد على السهم ـ فإنه يكون مضارباً، ويسمى عمله مضاربة.

ثانياً: أن في التعريف الأول والثاني قَيْدٌ، وهو أن الذي يقوم بهذه العملية أشخاص لهم خبرتهم ومعلوماتهم المسببة لنزول السهم أو ارتفاعه ؛ اعتماداً على تقديرهم للعوامل المؤدية لصعود الأسعار أو هبوطها، وقدرتهم الشخصية على تمحيص تلك العوامل، وتحليل نتائجها من الاسترشاد بالتجارب الماضية، والاعتبارات النفسية[9].

وهذا ما يسمى بالمضارب المحترف، الذي يتعامل في الأوراق المالية بناءً على معلومات مسبّبة[10].

ولم يُذكر هذا القيد في التعريف الثالث أو الرابع.

ثالثاً: أن في التعريف الثالث والرابع قيد الصوريّة، ولعلّهم ذهبوا إلى أن عمليات تداول الأسهم ـ بيعاً أو شراءاً من أجل المضاربة ـ عمليات غير حقيقية، فيوجد صورة العقد ومظهره الخارجي ولا يوجد مقصوده وحقيقته[11].

فكأن إرادة الطرفين في بيع وشراء الأسهم؛ ليس المقصود منه استلام المشتري ما اشتراه، ولا تسليم البائع ما باعه، وإنما القصد الحقيقي هو دفع الفرق بين سعري الشراء أو البيع[12].

رابعاً: ويظهر في التعريف الثالث والرابع؛ أيضاً أن البحث عن الأرباح من فروق أسعار الأسهم إنما هو من خلال الاعتماد المحض على الحظ والمصادفة، بصرف النظر عن ماهية الشركة وعملها، والقوائم المالية لديها، وأرباحها وخسائرها، بل وليس لديهم القدرة على تمحيص وتحليل العوامل المؤدية لصعود الأسعار أو هبوطها، وهذا هو غالب تعامل جمهور المضاربين مع الأسف، مما جعل بعض الاقتصاديين يرون "أن المضاربة قد تحيد عن غرضها الأصلي؛ فتنقلب إلى مقامرة، إذا كان القائم عليها لا يعتمد على مسببات حقيقية، بل اعتمد على مجرد الحظ، فالمضاربة عملية محكومة بقانون خاص، لا يجب أن يكون للصدفة أي دخل فيها، فدراسة الأمور السياسية، والاقتصادية والمالية أمر لا بد منه، حتى تكون مضاربةً سليمةً مسببة، وإلا كانت مقامرة"[13].

والواقع أن التفريق بين المضاربة والمقامرة ـ أو بين المضارب والمقامر ـ ليس بذاك الوضوح الذي ذكره بعض الاقتصاديين، لأننا إذا قلنا: إن السهم حصة مشاعة من صافي موجودات أو مكونات الشركة[14]، فإذا اشترى المرء سهماً ـ لأنه يرى إن ثمنه قليل ويتوقع ارتفاعه ـ أو باع سهماً يغلب على ظنه أنه سيهبط، فمثل هذا لا يُعدَّ قماراً عند الفقهاء؛ لأن القمار هو: أن يدخل بين الغُرْم المتحقق والغنم المتوقع[15].

ثم إن التفريق بينهما ليس مبنياً على طبيعة عقد البيع أو الشراء الذي يبرمه المضارب أو المقامر، وإنما لوجود الشبه بين الذي لا يعتمد في اتخاذ قرار البيع أو الشراء على دراسة الأمور الاقتصادية والمالية، وبين المقامر، بجامع الإقدام لكلٍّ منهما على التعامل الخطر الكبير، وهو إما الربح و إما الخسارة[16].

ومع هذا التشابه البسيط إلا أن ثمة فرقاً بينهما؛ إذ أن المقامر يغلب على الظن غرمه وخسارته، وأما المتعامل بالحظ والتخمين في سوق المال ـ إذا كان السوق مستقراً فإنه إما أن يربح وإما أن يخرج بلا خسارة ولا ربح.

ومع ذلك فإن بعض الباحثين لا يرى ثمة فرقاً بين المضاربة والمخاطرة (المقامرة) بالمصطلح الاقتصادي؛ لأن "التوظيف مهما كان ثابتاً، فهو لا يخلو من عنصر المخاطرة، التي هي أساس عمليات المضاربة"[17].

التعريف المختار للمضاربة:

نلاحظ أن بعض هذه التعاريف أظهرت جانباً من تعامل المضاربين، وحقيقة المضاربة، وأغفلت جانباً آخر.

ولعلّنا نذكر تعريفاً جامعاً لغالب تعاملات المضاربين وأغراضهم، ولم نشأ أن نذكر تعريفاً بناءً على التصور الشرعي للمضاربة في أسواق المال؛ لأن هذا سيكون له حديث آخر في بحث مستقل[18]، ولأن ذلك لا علاقة له بماهية المضاربة ، وتعامل المضاربين.

وعليه فيمكن تعريف المضاربة بأنها: "عملية بيع أو شراء ، يقوم بها أشخاص؛ بناءً على معلومات مسبّبة أو على مجرد الحظ والتخمين والتنبؤ؛ لا بغرض تسلُّم السهم لمحتواه، والانتفاع بما يعود عليه من ربح، وإنما الاستفادة من فروق الأسعار بين وقت وآخر".

د. عبد الله السلمى - "التغرير فى المضاربات فى بورصة الأوراق المالية - توصيفه وحكمه"
--------------------------------------------------------------------------------

1- ينظر : لسان العرب مادة (قرض)(7/217).
2- هذا تعريف الحنابلة ، وقد عُرِّفت بتعاريف عديدة ، بناءاً على اختلافهم في بعض شروط المضاربة. ينظر : شرح منتهى الإرادات (2/327) ، تبيين الحقائق للزيلعي (5/52) ،حاشية الدسوقي (3/454) ،حاشية قليوبي وعميرة (3/52-53).
3- وهو ما يسمى بالمستثمر وهو الذي لا يشتري الأسهم بقصد الانتفاع والتربُّح من ريعها وأرباحها، ويعرف الخبير الاقتصادي كينز الاستثمار بأنه: " التنبؤ بالغلاّت المتوقعة للأصول المالية طوال فترة بقائها". ينظر: مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز بجدة عدد(1) مجلد (2) ص22. في حين يرى بعض الاقتصاديين أن الحد الفاصل بين مفهومي المضاربة والاستثمار يصعب تحديده، لأن النظام النقدي المعاصر الذي يسيطر عليه رأس المال الغربي، جعل من العسير جدّاً الفصل بين الاستثمار بالمعنى الإنتاجي والاستثمار بالمعنى المضاربي ـ كما هي نظرة د / سيف الدين إبراهيم في مقال: نحو نموذج إسلامي لسوق الأسهم. ينظر: مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي . مج (3/68) العدد (1) .1985 م.
4- ينظر: نحو سوق إسلامية من مجلة ودراسات اقتصادية إسلامية العدد(1) (ص14) للدكتور محمد عيد القرني.
5- ينظر: الممارسات غير مشروعة في بورصة الأوراق المالية (ص278) والمعجم الوسيط (2/537).
6- ينظر: الأسواق والبورصات لمقبل الجميعي (ص122).
7- ينظر: السياسية المالية في الإسلام لعبد الكريم الخطيب (ص183).
8- ينظر: أسواق الأوراق المالية وآثارها الإنمائية في الاقتصاد الإسلامي، د/ أحمد محي الدين أحمد (ص- 484).
9- ينظر: بورصات الأوراق المالية والقطن، لإبراهيم محمد أبو العلا (ص29-30)، والممارسات غير الشرعية في بورصة الأوراق المالية (ص279).
10- ينظر: أسواق الأوراق المال وآثارها الإنمائية في الاقتصاد الإسلامي(ص482).
11- العقد الصوري مصطلح حديث الاستعمال، ولا يُعْرف عند فقهاء الإسلام بهذا الاسم، وإنما بحثوا الصورية في العقود تحت مسمى عقد التلجئة، وعقد الهزل.وقد عرفت الصورية في العقود بأنها: "إنشاء العاقدين العقد في الظاهر على صفة ما مع إبطانهما، أو إبطان أحدهما عدم إرادة التعاقد لسبب من الأسباب"، وعرّفت أيضاً بأنها: "إظهار تصرف قصداً، وإبطان غيره، مع إرادة ذلك المبطن" ينظر: صيغ العقود في الفقه الإسلامي (ص370)، ومعجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء (ص216).
12- ينظر: عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية (263).
13- الأسواق والبورصات. لمقبل الجميعي (131)، ويطلق الفرنسيون هذه المقامرة التي تتم دون استناد إلى حسابات ودراسات صحيحة وإنما على الصدفة والحظ مصطلح "jeu " ويسمى فاعلها "joueur" أي المقامر وهو الذي يرغب في الثراء السريع عن طريق التعامل في البورصة دون علم أو خبرة خاصة، معتمداً على الحظ و الصدفة، وليس لها أيّ هدف إيجابي أو دور اقتصادي في الاقتصاد العام، بل تعد خسارة بالسوق لما تحدثه من إرباك للسير والأسعار. ينظر: الممارسات غير الشرعية في بورصة الأوراق المالية (ص279)، بورصة الأوراق المالية، علي شلبي (ص70).
14- ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (63)، والشركات للخياط (2/90).
15- ينظر: الغرر وأثره في العقود (ص-40).
16- ينظر: أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة (2/675).
17- ينظر: أسواق الأوراق المالية وآثارها الإنمائية (ص-487).
18- لدى الباحث بحث بعنوان "حكم المضاربة في أسواق المال وآثاره الاقتصادية والاجتماعية".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق