الأربعاء، يناير 05، 2011

لماذا الأسلوب القصصي في القرآن؟

يسترعي انتباهنا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم هذا الاستعمال المكثف الواسع للأسلوب القصصي في أرجاء هذا الكتاب الكريم، فلا تكاد تخلو سورة منه من إشارة أو تفصيل لقصة نبي من الأنبياء، أو أمة من الأمم الغابرة، بل حتى المجالات الأخرى من الأبواب التي تطرق إليها القرآن الكريم (كمشاهد يوم القيامة، ومواقف النعيم والعذاب، والأخبار الغيبية، وبيان الآيات الكونية والطبيعية ... الخ)، فضّل القرآن الكريم أن يعرضها علينا بأسلوب تصويري هو أقرب ما يكون إلى الأسلوب القصصي، فلماذا كل هذا التأكيد على هذا الأسلوب، ولماذا كل هذا الحرص على التزامه في أغلب المجالات التي يقف التاريخ في مقدمتها؟.
إذا أدركنا أن هدف الله تعالى من إنزال القرآن الكريم هو هدف هدائي وتربوي محض، فإن تلك التساؤلات سرعان ما ستزول من أذهاننا، فالأسلوب القصصي يشكل الدعامة الأساسية للعملية التربوية والتعليمية، وبدونه تبقى هذه العملية مبتورة ناقصة يعوزها التطبيق العملي وعرض النماذج والشخوص الواقعية الحية التي تكتمل بترسيخ المفاهيم التربوية في الأذهان، وتأمين الضمانة التطبيقية والتنفيذية لها، فالنظرية تبقى نظرية وإن كانت متمتعة بمستوى عال من السلامة والصحة، ويبقى الحافز إلى تطبيقها والعمل بها كامناً في النفس ما لم يظهر النموذج العملي الداعي إلى الأخذ بها والمحرض على تحويلها إلى واقع عملي في السلوك.
وإذن فإن أسلوب دعم العملية التربوية بذكر القصص وضرب الأمثال الحقيقية التي لا يشك الإنسان في صحتها وترتفع إلى مستوى مسلماته وبدهياته يعتبر من أنجع وأنجح الأساليب التربوية على مر التاريخ، وقد فطن الإنسان وهو يشعر بمسئوليته التربوية الجسيمة إزاء الأجيال القادمة، إلى أهمية وخطورة هذا الأسلوب فأخذ به وأولاه أكبر وأشد اهتمامه، والكتب التربوية التي أنتجها الفكر الإنساني على مر العصور مشحونة بالتطبيقات المختلفة لهذا الأسلوب، بل إن القصة هي ـ بحد ذاتها ـ أسلوب من أساليب التربية وشكل من أشكال تعديل السلوك الإنساني وسوقه باتجاه معين.
ولذلك فلا غرابة أن يعتمد القرآن الكريم (القصة) أسلوباً إستراتيجيا ثابتاً من أساليبه التربوية، ولا عجب أن تحتل (القصص) مساحة شاسعة من هذا الكتاب العظيم.
عرفنا ـ لحد الآن ـ أن الهدف المحوري الرئيسي من تبني الأسلوب القصصي في القرآن الكريم هو تربية البشرية على ضوء النهج الإلهي وهدايتها باتجاه طريق الفطرة المنتهي إلى الإيمان الأكيد بالله تعالى، أما ما سنذكره من أهداف وأغراض أخرى فهي أهداف وأغراض فرعية ثانوية تصب في النهاية في الهدف الرئيسي الذي ذكرناه، وتعمل على تحقيقه والوصول إليه، وعلى هذا فإننا سوف لا نذكرها على أساس أنها أهداف مستقلة عن الهدف الرئيسي، كما أن ذكرنا لها هو من باب المثال لا الحصر، وإلا فإن أغراض القصة لا يمكن أن تحدد برقم معين ما دام السلوك الإنساني نفسه متشعباً إلى درجة عدم استطاعة الإنسان الإحاطة به.
يمكننا ـ بصورة عامة ـ تقسيم أغراض القصة القرآنية إلى مجموعتين رئيستين تنضوي تحتها الأغراض الفرعية الأخرى، هما:
أ ـ الأغراض الموضوعية:
ونقصد بها الأغراض المتعلقة بالرسالة والدعوة الإلهية من قبيل إثبات صدق الدعوة الإلهية، وإثبات كون القرآن منزلاً من قبل الله تعالى، وما إلى ذلك من أغراض نذكر بعضاً منها فيما يلي:
1 ـ إثبات إلهية القرآن ـ إن صحّ التعبير ـ أي كون القرآن وحياً إلهياً ليس للبشر ـ ومن ضمنهم النبي (ص) ـ أي دخل في وضعه، وقد تكفلت القصص القرآنية بإثبات ذلك عن طريق الأنباء والأخبار التي جاءت فيها حول الأنبياء (ع) والأمم الماضية، وقد كانت هذه الأخبار التي جاءت فيها حول الأنبياء (ع) والأمم الماضية، وقد كانت هذه الأخبار من الدقة والتفصيلية بحيث يستبعد الإنسان العاقل استبعاداً كاملاً أن يكون النبي (ص) أو أي أحد من معاصريه قد جاء بالقرآن من تلقاء نفسه، خصوصاً وإنه (ص) قد عاش في بيئة تجهل جهلاً تاماً أو شبه تام الأخبار المتعلقة بالأنبياء والأمم السابقة، وحتى لو كانوا يمتلكون قدراً من المعلومات فإنها كانت شوهاء محرفة ناقصة لبعد عهدهم عن أولئك الأنبياء وتلك الأمم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الغرض إشارة صريحة في بعض الآيات نذكر منها:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} آل عمران/ 44، {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتين} هود/ 49.
2 ـ التأكيد على وحدة العقيدة التي بعث الأنبياء من أجل نشرها ودعوة الناس إلى اعتناقها، ونحن نستطيع أن نستنتج هذا الهدف بسهولة من خلال تأمل الآيات التي تتحدث عن دعوة الأنبياء (ع) لقومهم، حتى أن البعض من هذه الآيات جاء مكروراً وبأفاظ متماثلة زيادة في التأكيد على هذا الجانب، لاحظ ـ مثلاً ـ الآيات التالية:
{لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} الأعراف/ 59، {وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} الأعراف/ 65، {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} الأعراف/ 73.
فمثل هذا التماثل الملفت للنظر في هذه الآيات وغيرها لم يأت من قبيل المصادفة وإنما جاء لتأكيد حقيقة أن الدعوات الإلهية كلها تستقي من نور واحد، وأنها جميعها مشتركة في الأصول، وأنها بمجموعها تشكل دعوة إلهية واحدة، وأن هذه الدعوات جاءت ليكمل بعضها البعض الآخر، ابتداء من أول نبي بعث إلى قومه، وانتهاءً بدعوة النبي (ص) التي هي خاتمة هذه الدعوات ومكمتلها.
3 ـ بيان بعض السنن والقوانين الإلهية والتاريخية الثابتة من خلال تقديم نماذج عملية ومصاديق حية لتلك السنن والقوانين، منها ـ على سبيل المثال ـ حقيقة كون المتبعين للحق أقلية على مر العصور، والمواقف المتشابهة ـ في التمرد على الحق والإعراض عنه ـ للأمم على مر العصور وباختلاف الأمكنة وقلة المؤمنين الحقيقيين بدعوات الأنبياء (ع).
وقلما نجد آيات تتحدث عن قصة نبي مع قومه إلا وفيها تأكيد على هذه السنة التاريخية، حتى أن القرآن الكريم عمم هذه السنة على جميع الأمم الغابرة، بل وحتى أمة نبينا (ص) من خلال قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون} الذاريات/ 52، 53. وقوله تعالى طبقاً لبعض الروايات: {والقمر إذا اتسق. لتركبنَّ طبقاً عن طبق} الانشقاق: 18، 19. أي لتحذون ذو الأمم السالفة التي أعرضت عن دعوات أنبيائها، وأنزل عليها العذاب الإلهي نتيجة لهذا الإعراض.
ومن السنن الثابتة الأخرى التي كشف القرآن النقاب عنها من خلال قصصه، انتصار الحق في نهاية المطاف، وغلبة دعوات الأنبياء رغم التكذيب والاضطهاد اللذين تتعرض لهما في بداية الأمر.
وهذه الظاهرة تشكل قانوناً تاريخياً ثابتاً لأن الحق يحمل في داخله عوامل دوامه وبقائه وانتصاره، والباطل يحمل ـ في المقابل ـ بذور زواله وفنائه رغم سيادته وانتصاره في بادئ الأمر، وجميع قصص الأنبياء تؤكد على هذه السنة من خلال تلك النهايات التي ترسمها لنا، النهايات التي تصور لنا نزول العذاب الإلهي على الكفرة والمتمردين، ونجاة الأنبياء وأتباعهم وظهور من يؤمن بدعواتهم.
وقد يسأل سائل في هذا المجال: إن مطالعة القصص القرآنية تثبت لنا أن ذلك الانتصار وقتي إذ سرعان ما يعود الانحراف عن الدعوة الإلهية بمجرد موت النبي (ص)، وسرعان ما يسود الباطل مرة أخرى، فكيف تنسجم هذه الظاهرة التي أكدت عليها الآيات القرآنية مع ما قررناه مسبقاً من أن الانتصار للحق في نهاية المطاف؟.
ونحن ـ جواباً على هذا التساؤل ـ نؤكد صحة هذه الظاهرة ونسلم بها، ومع ذلك فإن التأكيد عليها والتسليم بها لا يتنافيان مطلقاً مع حقيقة تلك السنة، فرغم تلك العودات المجددة إلى الباطل، واستئناف الانحراف عن العقيدة الإلهية، إلا أن الانتصار سيكون من نصيب الحق في النهاية.
قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} التوبة/ 33، {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} القصص/ 5.
هذا بالإضافة إلى سنن وقوانين أخرى يمكن للمتأمل في القصص القرآنية أن يستنتجها، وقد ذكرنا السنتين السابقتين كنموذج لهذا الغرض القرآني.
ب ـ الأغراض التربوية:
ونقصد بهذا النوع من الأغراض ذلك الذي يستهدف تربية الإنسان على المنهج الإلهي، وتقويم سلوكه على الصعيد الأخلاقي الشخصي والعام، وجميع القصص القرآنية تعج بمثل هذه المفردات التربوية اعتباراً من علاقة الإنسان بنفسه، ومروراً بعلاقته مع المجتمع، وانتهاءً بارتباطه مع الخالق ـ تعالى ـ ، وعلى سبيل المثال نذكر فيما يلي بعضاً من هذه الأغراض:
1 ـ تحذير الإنسان من غواية الشيطان ووساوسه من خلال عرض نماذج حية لأشخاص وقعوا في حبائل الشيطان فكانت النتيجة الندم أو الانحراف في تيار الانحرافات، والقصص من هذا النوع أكثر من أن تحصى، بل أن جميع القصص القرآنية يمكن اعتبارها ـ بالنتيجة ـ من هذا النوع لأن أصل الانحراف هو الشيطان، تعينه في ذلك الإرادة الضعيفة للإنسان، وغفلته عن ذكر الله تعالى. ولعل قصة آدم (ع) وإخراجه من الجنة، وتناوله من الشجرة التي حرمها الله تعالى عليه، وجعل عدم الاقتراب منها شرطاً لبقائه في الجنة وراحته من عناء الدنيا، لعل هذه القصة تعتبر النموذج الأفضل الذي يمكن أن يذكر في هذا المجال كمصداق لهذا الغرض، وقد أشار تعالى إلى هذا الغرض من ذكر قصة آدم وزوجه في قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} الأعراف/ 27.
2 ـ تثبيت النبي (ص) والمؤمنين وحضهم على الاستمرار في طريقهم الذي رسمه الله تعالى لهم من خلال عرض صور من صمود ومقاومة الأنبياء (ع) تجاه المحاولات التي كانت تستهدف تقويض الرسالة واحتواء الدعوة الإلهية، وإلى هذا الغرض أشارت آيات من قبيل: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب) ص/ 17، {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} الأحقاف/ 35، {وكلاّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} هود/ 120.
3 ـ تحذير الإنسان من عاقبة الشعور بالاستغناء عن الله تعالى والتكبر والغرور، كقصة قارون التي ذكرت أساساً لهذا الغرض حيث يقول ـ تعالى ـ معقباً عليها: {تلك الدار الآخرة تجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} القصص/ 83.
وكقصة أصحاب الجنة الذين خسروا كل شيء في لمحة بصر بسبب غفلتهم عن ذكر الله تعالى، واستيلاء الإحساس بالاستغناء عنه على نفوسهم، وكقصة صاحب الجنة الذي قال عنه تعالى مشيراً إلى الغرض من سوق قصته: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً} الكهف/ 35. وعشرات القصص الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها.
كانت تلك بعضاً من أغراض القصة القرآنية ذكرناها تفسيراً لظاهرة الاستخدام الواسع الملفت للنظر للأسلوب القصصي، واعتماد القرآن الكريم عليه محوراً لتحقيق هدفه الأكبر، ألا وهو هداية البشرية وتربيتها على ضوء النهج الرباني.

د. فالح الربيعي
المصدر : القصص القراني / الدار الثقافية للنشر /ط1/ 2002م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق