السبت، يناير 08، 2011

عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان، الشهير بالجاحظ

من رسالة الى محمد بن عبد الملك الزيات
"والله ما عالج الناس داء قط أودى من الغيظ ولا رأيت شيء هو أنفذ من شماتة الأعداء ولا أعلم بابً أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثى له فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر بالمعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، ولا مشيت في الهوى ، ولا مقسم الأمل، على تقصير احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإذلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان، وحسن الحال، متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، ولوت هذا الدهر وجهده، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابهة من الإنسان، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابهة من الأزمان.
 
ما جاء في القناعة
كان   يقال أروح الروح القناعة، وهي أقصى رتبة الفقير كما أن أقصى رتبة الغني الشكر. وقال الحسن بن سهل: ما رأيت رجلا قط مقصرا في مطالبة الظفر بالفضل إلا وسعت عليه العذر وإن كان عظيم التفريط، إذا كانت الأنفس مطبوعة على حب السعي في حواية الفضل. وذلك دليل على أن اقتصار هذا على ما قل منه دون ما كثر لما وقف عليه من القسم وميلا إلى راحة القناعة. أنشدني بعضهم للعطوي:
الحر يد نس بين الحرص والطلب       فاخلـع لباسهم بالعلم والأدب
أقبح بوجـه يسـار كان قائــده       وجها رعت كنفيه ذلة الطلب
مـا كـان قائـده ذلا وسائقــه       منا فأكرم منه لوعـة السغب

وأنشدت لمحمد بن حازم الباهلي.
ما كان مال يفوت  دون غـد        فليس بي حاجة إلى أحـد
إن غنى النفس رأس كل غنى       فما افتقار إلا إلى  الصمد
رب عديم أعـز مـن أسـد       ورب مثر أقل مـن نقـد
الناس صنفان في زمانك ذا        ، لو تبتغي غير ذين لم تجد
هـذا بخيـل وعنـده سعـة       وذا جواد بغير ذات  يـد
قرأت في كتاب كليلة ودمنة: إن من صفة الناسك السكينة لغلبة التواضع وإتيان القناعة ورفض الشهوات ليتخلى من الأحزان وترك إخافة الناس لئلا يخافهم. وفيه إن الرجل ذا المروءة يكرم من غير مال كالأسد الذي يخاف وإن كان رابضا. والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب وإن كان جوالا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق