الجمعة، يناير 21، 2011

بين أركون والجابري: أين يختلف أركون عن الجابري

عندما نشير إلى هذا الالتقاء بين أركون الجابري في تحديدهما لمفهوم العقل (الإسلامي أو العربي) وفق مرجعية فوكو. إنما نهدف من وراء ذلك إلى طرح السؤال التالي:

إذا كان أركون والجابري يتفقان في المنهجية التي يمكن من خلالها تحديد مفهوم العقل الإسلامي أو العربي - بوصفهما بنية، أو إبستميه، أو نظام الفكر، أو اللاشعور المعرفي - فلماذا اختار أركون إذن تسمية العقل بـ (الإسلامي)، واختار الجابري في المقابل تسمية العقل بـ(العربي)؟ هل جاء هذا الاختيار عفوياً بدون قصد؟ أم أن هذا الاختلاف في تسمية العقل كان مقصوداً؟ وبالتالي له أثره عندهما في طبيعة المنهج والموضوع؟

يبدو في الواقع أن هذا الاختلاف في التسمية لم يكن عفوياً؛ وبالتالي فهناك فرقٌ بين طبيعة المشروع النقدي عند محمد أركون والمشروع النقدي عند محمد الجابري، ويظهر هذا من خلال المعطيات التالية:

1) أن العقل الذي يريد أركون أن يقوم بنقده ودراسته هو العقل الديني، أي "العقل حين يكون خاضعا لمعطى الوحي، ويُقر بأنه إلهي، وأن دوره ينحصر في خدمة الوحي أي فهم وتفهيم مـا ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشـاد، ثم الاستنتاج والاستتنباط" [1]. فالعقل بهذا المعنى هو موضوع أركون، بخلاف العقل العربي، الذي هو في الغالب ما "يُعبّر باللغة العربية أياً تكن نوعية المعطى الفكري الخارج عنه والذي يتقيِّد به" [2] ولذا يدخل فيه المسيحيون واليهود وغيرهم الذين أنتجوا علوماً ومعارف وأدباً وشعراً باللغة العربية وداخل محيط الثقافة العربية؛ لكنهم في نفس الوقت كانوا خارج العقل الديني الإسلامي. أي ما كانوا خاضعين لنظامه؛ لهذا السبب يقول أركون: "فضلَّتُ استعمال مفهوم العقل الإسلامي على العقل العربي" [3].

2) ولذلك كان مشروع أركون - في نظر الجابري - مشروعا لاهوتيا (عقائديا) بامتياز، فأركون كما يقول الجابري: "اهتم بنقد الأدوات المنتجة للعقيدة الإسلامية" [4] أما هو (أي الجابري) فكان: "مهتماً بنقد الأدوات المنتجة للمعرفة بشكل عام في اللغة العربية" [5].

وهذا يعني أن النقد العقائدي (اللاهوتي) ليس من اهتمام الجابري: "النقد اللاهوتي - العقائدي الكلامي ليس من مجال اهتمامي" [6].

"الأمر يتعلق بحدود طموحاتي. أنا لا أطمح إلى إحياء أو إنشاء (علم كلام) جديد ... إن موضوع عملي هو الثقافة العربية الإسلامية؛ أعني الثقافة التي تم بناؤها داخل اللغة العربية وبواسطتها ... والنقد الذي اخترته يتناول المعرفة وليس العقيدة" [7]. وبإمكان القارئ كما يقول الجابري أن يلاحظ الفرق بين مشروعه ومشروع أركون إذا عمد إلى استخراج المفاهيم المركزية في تحليلاتهما: "إذا شاء القارئ أن يتأكد فليتناول أبحاث ودراسات زميلي وصديقي الدكتور محمد أركون ... إنه سيجد مثلاً أن مفهوم اللفظ/ المعنى، ومفهوم الأصل/ الفرع؛ يحتلان عندي موقعاً مركزياً، أما الأخ أركون فقد نجد مفهوم (الأرثوذكسية) أو مفهوم (الرمز) أو (المخيال) تحتل عنده موقعاً مركزياً" [8] . مما يعني "أن هاجس (النقد اللاهوتي) حاضر عنده وبوعي ... ولذلك فالزميل أركون محق تمام الحق في اختيار عبارة نقد العقل الإسلامي كعنوان لأبحاثه ودراساته" [9].

3) إلا أن أركون له نظرة أخرى؛ فهو يرى أن ثمة تقية يمارسها الجابري: "إن الجابري تحاشى استخدام مفهوم (نقد العقل الإسلامي) واستبدله بـ (نقد العقل العربي) لكي يريح نفسه ويتجنب المشاكل والمسؤوليات. هذه حيلة لا تخفى على أحد" [10]. ذلك أن نقد العقل العربي في نظر أركون لا يمكن أن يكون إلا نقداً لاهوتياً، "لأن العقل العربي نفسه هو عقل ديني، أو قلْ لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود، فكيف يمكنك أن تنقد العقل العربي دون أن تنقد العقل الديني؟! هذا مستحيل" [11]. "أعتقد أن الجابري يُساهم في حركة الاستهلاك الأيديولوجي للتراث، بمعنى آخر؛ إنه يحاول أن يظهر مزايا الفترة الكلاسيكية، ويحاول أن يُقنع عرب اليوم بأنه كان لهم يوماً ما ماضٍ مجيد، وأنهم يستطيعون أن يعتمدوا عليه لكي يواجهوا الحداثة الأوربية" [12].

أمام هذه التقية وهذه المنهجية (الاستهلاكية!) للتراث؛ ينبري هاشم صالح مهاجماً الجابري ومدافعاً عن أستاذه أركون قائلاً: "إنه لشيء يدعو للدهشة والاستغراب أن يتنطح أصحاب المشاريع (كمشروع نقد العقل العربي) لتجديد التراث والخروج من المأزق، دون أن يقولوا كلمة واحدة عن الشيء الأساسي! أقصد عن نقد العقل الديني، أو تفكيك التراث الإسلامي من الداخل، أو تعرية الانغلاقات التراثية المزمنة ... وبالتالي فهي مشاريع للتهدئة أو للتلهية ولا تؤدي إلى أي تحرير في العمق. وحده نقد العقل الإسلامي بالمعنى الجذري للكلمة سوف يؤدي إلى ذلك" [13]. نعم؛ هكذا يكمن الحل في نظر محمد أركون، إنه "لا يكمن في الاستهلاك الأيديولوجي للتراث، أو الافتخار بالآباء والأجداد" [14] وإنما يكمن الحل في نقد الدين والتراث الديني مباشرةً: "فإن نقد العقل اللاهوتي المسيطر علينا منذ مئات السنين يشكِّل الممهمة الكبرى للثقافة العربية بمجملها وبدون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص. والدليل على ذلك ما يحصل الآن" [15].

4) وبطبيعة الحال؛ الجابري من جهته، دافع عن موقفه بشدة، واعتبر أن اتهامه بالتقيـة: "اتهام رخيص فعلاً، بل دنيء لأنه لا يمكن إرجاعه إلى شيء آخر غير سوء النية" [16]. "أنا لا أستعمل التقية ولم أتعود عليها وليس من طبعي الهروب من الموضوع بمثل هذه الآليات. إن اختيار عبارة (العقل العربي) هي بالنسبة إلي اختيار استراتيجي مبدئي منهجي" [17]. وذلك للاعتبارات التالية:

الأول: "أننا أكدنا مراراً في مختلف أعمالنا أننا نعني بـ (العقل العربي) ذلك الذي تكوّن داخل الثقافة العربية، وإذن فهو بصورة أو بأخرى عقل جميع من ينتمي إلى هذه الثقافة ويفكر بلغتها" [18]، ولذا فـ"إننا نستعمل عبارة العقل العربي في موازاة مع عبارة (العقل اليوناني) وعبارة (العقل الأوربي). فهل نشطب هاتين العبارتين ونضع بدلهما على التوالي عبارة (العقل الوثني) باعتبار أن المفكرين اليونان كانوا جميعاً وثنيين، وعبارة (العقل المسيحي) باعتبار أن المفكرين الأوربيين كانوا جميعاً مسحيين؟ هل نتهم بالتقية كل من يستعمل عبارة (العقل اليوناني) وعبارة (العقل الأوربي) ؟" [19].

الثاني: اقتناع الجابري بـ"أن أي شيء بوصف بأنه (إسلامي) إلا ويحيل مباشرة إلى الإسلام كدين، وأنا لم يكن هدفي هو البحث في شيء اسمه (العقل الديني الإسلامي)" [20]. إنما كان هدفه - كما يقول - نقد (عقل الحضارة الإسلامية) "وإذا نحن أردنا أن نعبّر عن (عقل الحضارة الإسلامية) فالواجب يقضي استعمال (العقل العربي) تجنباً للالتباس الذي ينشأ من ارتباط لفظ (إسلامي) بالدين الإسلامي في ذهن المسلم" [21].

الاعتبار الثالث: وهو أن الجابري يرى أن عبارة (العقل الإسلامي) ليست إلا "توصيف استشراقي ... والذين يلاحظون عليّ تجنّب عبارة (العقل الإسلامي) هم واقعون تحت تأثير هذا الفهم الاستشراقي للإسلام" [22].

5) إذا تفهمنا سبب اختيار الجابري لعبارة (العقل العربي) بدلا من عبارة (العقل الإسلامي) لأن الثانية تحيل إلى نقد العقل اللاهوتي. فما مشكلة النقد اللاهوتي عند الجابري؟ ولماذا يحرص أن يتجنّبه؟

يجيب الجابري عن هذا السؤال بسؤال استنكاري: "هل نحن في حاجة اليوم إلى نقد لاهوتي، أم نحن في غنى عنه؟" [23]. يقول: "أنا شخصياً أعتقد أننا في غنى عنه" [24]ويعلل ذلك: "أن من يفكر في النقد اللاهوتي على غرار ذلك النقد اللاهوتي الذي عرفته أوربا [كمحمد أركون] [25]، يتجاهل الفرق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي. الدين الإسلامي له كتاب مقدس لم يلحقه تغيير ولا تحريف منذ أنْ جمع في عهد عثمان، وليس هناك دليل قاطع على أن نوعاً من التحريف أو البتر أو التغيير قد حدث في فترة ما بين نزول القرآن وجمعه" [26]وبالتالي فنحن بحسب الجابري "أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي كان عند الصحابة زمن النبوة وزمن أبي بكر وعمر، وهذا ما يعتقده المسلمون قديماً وحديثاً، وفي هذه الحالة فلا مجال لممارسة أي نقد لاهوتي على النص القرآني. وإما أن هناك تغييرا أو بتراً وفي هذه الحالة سنكون أمام فرضية لا سبيل إلى إثباتها؛ الشيء الذي يجعل النقد اللاهوتي عملية غير ممكنة" [27].

والجابري يؤسس موقفه هذا على قضية مهمة وهي: "أن النقد اللاهوتي في الثقافة الأوربية مرتبطٌ بواقع أن المسيحية ليس لها كتاب كالقرآن وإنما لها مجموعة من الأناجيل تنسب إلى صحابة المسيح ... فالنقد اللاهوتي ينصب أساساً على نقد هذه الروايات وهي نصوص جمعت في فترة متأخرة. إن الوضعية التاريخية للأناجيل أشبه ما تكون بالوضعية التاريخية للحديث عندنا، وقد ظهرت عملية نقد الحديث منذ بداية جمعه" [28].

6) وبناء على ما سبق؛ يظهر الفارق الجوهري بين مشروع أركون ومشروع الجابري، فأركون لم يتوقف عند نقد الأنساق الفقهية والمنظومات التراثية كما فعل الجابري (أي نقد الثقافة العربية الإسلامية)، وإنما تجاوز إلى أبعد من ذلك؛ إلى العقل التأسيسي كما يسميه، إلى موضوع الوحي والقرآن ... الوحي والقرآن الذي يقول عنه علي حرب: "هو أهم مسكوت عنه عند الجابري ... وهذا السكوت هو المسؤول عما تنطوي عليه قراءة الجابري من (تلفيق)" [29]. أما أركون فإنه "يعود إلى الأصول والبدايات منقباً مستنطقاً، فيخضعها للنقد والتفكيك مبيناً لنا كيف جرت الأمور على أرض الواقع، وبكلام آخر: إنه يعود إلى طور التأسيس، أي إلى عهد النبوة، لتبيان كيفية تشكله وتجذره تاريخياً ... ومن هنا فإن أركـون لا يقتصر على نقد الأحاديث والتفاسير، بل يتوغل في نقده وتفكيكه إلى الأصل الأول، إلى الوحي القرآني" [30].

والحق أن موضوع الوحي والقرآن لم يكن مسكوتاً عنه عند الجابري كما توهم علي حرب، بل حدد موقفه منه بوضوح، وأفصح عنه بصراحة عندما قال: "النقد اللاهوتي الذي من هذا النوع لا يمكن ممارسته على القرآن، لأنه من الثابت تاريخياً أنه هو نفسه الذي نزل على النبي محمد، وليس هناك ما يبرر أي شك في هذا" [31].

7) هذا هو الفارق الجوهري بين مشروع أركون ومشروع الجابري، وهذا الذي جعل العلمانيين العرب يذهبون إلى أن مشروع أركون هو الأجرأ والأعمق والأنجع، فالجابري وإن كان قد بحث الأنظمة العقلية في التراث الإسلامي، فإن أركون - كما يقول كمال عبداللطيف [32]- قد بحث نظام الأنظمة الذي انبثقت منه الأنظمة الثلاثة عند الجابري. وكما يقول علي حرب: "مشروع أركون يمتاز على المشاريع الأخرى بكونه مشروعاً جذرياً يطال بالنقد والتفكيك الأصول والفروع، المرحلة التأسيسية والمراحل التي تلتها، الخطابات القديمة والخطاب المعاصر ... هكذا فإن أركون يحاول الدخول إلى مناطق يستبعدها المثقفون العرب والمسلمون من دائرة البحث والنقد ... إن أركون هو الأجرأ على هذا الصعيد ... بذلك يفضح أركون ما ينطوي عليه التأسيس الإسلامي من علميات الحذف والتهميش أو القهر والكبت والنسيان" [33].

عبد الله بن محمد المالكي


[1]محمد أركون، أين الفكر الإسلامي، .
[2]نفس المصدر .
[3]نفس المصدر .
[4]العقلانية والمشروع العربي، حوار مع الجابري، مجلة الوحدة، العدد 26/27، 1986.
[5]نفس المصدر .
[6]محمد الجابري، التراث والحداثة، ص 331 .
[7]المصدر السابق : ص 330 .
[8]نفس المصدر : ص 331 .
[9]نفس المصدر .
[10]محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 330 .
[11]نفس المصدر .
[12]نفس المصدر .
[13]الفكر الإسلامي واستحالة التأصيل، الحاشية الأولى، ص 168 .
[14]محمد أركون، قضايا في نقد الديني، ص 330 .
[15]نفس المصدر، ص 331 .
[16]محمد الجابري، التراث والحداثة، ص 131 .
[17]نفس المصدر، ص 132 .
[18]نفس المصدر 133 .
[19]المصدر السابق .
[20]محمد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، ص 277 .
[21]نفس المصدر، ص 278 .
[22]نفس المصدر .
[23]نفس المصدر .
[24]نفس المصدر
[25]يقول أركون: "لا ينبغي أن يكون هناك فرق في المعاملة، فما ينطبق على المسيحية ينبغي أن ينطبق على الإسلام، وهذا ما أبرهن عليه شخصياً من خلال كتاباتي وتدريسي" انظر: الإسلام أوربا الغرب، ص145 .
[26]محمد الجابري، المسألة الثقافة في الوطن العربي، ص 279 .
[27]نفس المصدر .
[28]نفس المصدر .
[29]علي حرب، نقد النص، ص 97 .
[30]نفس المصدر، ص 62 .
[31]محمد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، ص 280 .
[32]كمال عبداللطيف، قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة، ص 80 .
[33]علي حرب، الممنوع والممتنع، ص 131 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق