السبت، يناير 01، 2011

الرزق

وأَمَّا مسألة الرزق فإِن الآيات الكثيرة القطعية الدلالة لا تدع مجالاً لمَنْ يؤمن بالقرآن الكريم أن الرزق بيد الله يعطيه مَنْ يشاء. ومسألة الرزق غير مسألة القدر فإن القدر هو أن الله يعلم أن الأمر الفلاني سيقع قبل وقوع ذلك الأمر لأنه مكتوب ومُقَدَّر مسبقاً، أمَّا الرزق فإنه ليس فقط أن الله يعلم أن فلاناً سيُرْزَق فيكون مكتوباً ومقدراً بل هو إلى جانب ذلك مرتبط بحقيقة أخرى وهي أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى وليس العبد. وهو ما تدلُّ عليه الآيات {لاَ نَسْئَلُكَ رِزقاً نَّحنُ نَرزُقكَ وَالعَاقبةُ لِلتَّقوَى} (سورة طه/ 132). {وَكُلوا مِمَّا رَزقكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤمنُونَ} (سورة المائدة/ 88)، {اللهُ لَطيفٌ بِعبَادهِ يَرزُقُ مَن يَشاءُ} (سورة الشورى/ 19)، {إِنَّ اللهَ يَرزُقُ مَن يَشاءُ بِغيرِ حِسابٍ} (سورة آل عمران/ 37)، {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لهُ مَخْرجاً وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لاَ يَحْتسبُ} (سورة الطلاق/ 2-3)، {وَكَأَين مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحملُ رِزْقهَا اللهُ يَرزُقهَا وَإِيَّاكُم وَهُو السَّميعُ العَليمُ} (سورة العنكبوت/ 60)، {اللهَ يَبسطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدرُ إِنَّ فِي ذَلكَ لأَياتٍ لِّقومٍ يُؤمنُونَ} (سورة الروم/ 37) {وَلاَ تَقتُلُوا أَوْلاَدكُم خَشيَةَ إِملاقٍ نَّحنُ نَرزقُهُم وَإيَّاكُم} (سورة الإسراء/ 31) {وَلَوْ بَسطَ اللهُ الرِّزقَ لِعباده لَبَغوا فِي الأَرضِ وَلَكِن يُنزِلُ بِقدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعبادهِ خَبيرٌ بَصيرٌ} (سورة الشورى/ 27).{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتلاَهُ فَقَدرَ عَليهِ رِزْقهُ فَيقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (سورة الفجر/ 16)
فهذه الآيات السابقة قطعية الدلالة بأن الله الرزاق وحده وأنه يرزق مَنْ يشاء وأنه هو الذي يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر له في كتاب مبين أي في لوح محفوظ. فهذه الآيات كلّها نسبت الرزق إلى الله وأن لا رازق غيره مما يدلُّ على أنه هو الذي يرزق حقيقة، والمراد منه فعل الرزق وليس خلقه، لأن الأصل في الإسناد الحقيقة ولا ينصرف إلى المجاز إلاَّ بقرينة ولا توجد قرينة تصرف الإسناد عن معناه الحقيقي فتكون نسبة الرزق إلى الله نسبة حقيقة.
وعلاوة على هذا فإنه لم ترد نسبة الرزق إلى الإنسان بأنه هو الذي يرزق نفسه لا في آية ولا في حديث، بل جاءت دوماً نسبة الرزق في كل النصوص إلى الله تعالى، وأَمَّا ما وَرَدَ من نسبة الرزق لإنسان يعطي غيره {وَارْزقُوهُم فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (سورة النساء/ 5)، فإن المراد منها ادفعوا لهم المال وليس المراد فعل الرزق، ويؤيّد ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَضرَ القِسمةَ أُولُو القُرْبَى وَاليتَامَى وَالمَساكِينُ فَارْزُقوهُم مِّنهُ} (سورة النساء/ 8)، أي فأعطوهم منه. ولم ترد نسبة الرزق بمعنى فاعل الرزق إلاَّ لله تعالى، مما لا يقبل التأويل أن الله وحده هو الرزَّاق وأن الرزق بيده دون سواه.
هذه هي مسألة الرزق من حيث الإيمان ومن حيث الدليل غير أن الله تعالى إلى جانب أمره بالإيمان بأنه هو الرزَّاق أمر الإنسان بالسعي لتحصيل هذا الرزق. قال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِ} (سورة الملك/ 15). وقال تعالى {فإِذَا قُضيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِروا فِي الأَرضِ وَابتَغُوا مِن فَضلِ اللهِ} (سورة الجمعة/ 10). فالأمر صريح في هاتين الآيتين بالسعي لطلب الرزق وقرن هذا الأمر بالسعي لطلب الرزق بالآيات التي تنصُّ على أن الله هو الرزَّاق يتضح معنى كون الله هو الرزاق ويظهر معنى الإيمان بأن الله هو الرزَّاق. فالآيات الأولى تقطع كلها بأن الله هو الرزَّاق يعطي الرزق وهاتان الآيتان تأمران بالعمل للحصول على رزق الله.
ولهذا فمسألة الرزق لها جانبان: الرزق نفسه، وطريقة الحصول عليه.
فالإيمان بأن الله هو الرزَّاق لا يعني الإيمان بأنه هو الذي يباشر توصيل الرزق للخلق ليحصلوا عليه منه، بل معناه أن ما يحصل عليه الخلق من رزق إنما يحصلون عليه من الله لا من غيره، ولا من أنفسهم. فالخلق لا يرزقون أنفسهم، بمعنى أنهم لم يوجدوا الرزق لأّنفسهم بل الله هو الذي أوجده لهم أي هو الذي رزقهم، بعد أّنْ قاموا بالطريقة التي يحصلون بها على رزقهم من الله، فالتاجر حين يباشر التجارة ويحصل على الربح قد قام بالطريقة التي من شأنها أن تأتي بالرزق، أَمَّا الرزق وهو الربح فإِنه ليس هو الذي أَوجده بل مارس الحالة التي من شأنها أن توصل الرزق والذي أَعطاه الربح هو الله تعالى. ولذلك تجد أن بعض الخلق ممَّنْ لم يشأ الله رزقهم يسعون جاهدين وراء الرزق ويقومون بكافة الوسائل للحصول عليه لكن لا يحصلون على شيء وقد يخسرون الجهد والمال دون فائدة، مما يثبت أن الرزق ليس من صنع البشر بل أوجده الله سبحانه وتعالى يعطيه مَنْ يشاء من عباده.
وأيضاً فإِن الوارث للمال قد يأتيه الرزق من دون أن يسعى إِليه، فلو أَن السعي هو سبب الرزق لما حصل المال دون سعي لأن المسبب لا ينتج إلاَّ عن سببه الذي يتسبب عنه. فحصول المال بالميراث دون سعي دليل أيضاً على أن السعي ليس سبباً للرزق إذ حصل الرزق دون السعي. وكذلك مَنْ يأخذ اللقطة أو الهبة أو الزكاة أو الصَدَقَة قد حصل له الرزق دون سعي، وأيضاً مَنْ يُحْكَم له بالنفقة على مَنْ عليه النفقة ويقبضها يكون قد حصل له الرزق دون سعي، وكذلك المقعدون وأصحاب العاهات والعاجزون حين تقوم الدولة بكفالتهم، ومَنْ تمنحهم الدولة الأرضي.. الخ، كل هؤلاء قد حصل لهم الرزق دون سعي. فهذا كله يثبت بشكل قطعي أن السعي لطلب الرزق ليس سبباً للرزق، أي ليس هو الذي جاء بالرزق، فهو ليس كالسكين التي هي قد فعلت القطع، وليس كالنار التي هي قد فعلت الحرق، فلا يكون هو الذي جاء بالرزق لأنه ليس سبباً له. ومع ذلك فإن بعض الناس قد شُبِّه لهم أن السعي هو الذي أتى بالرزق حين شاهدوا حوادث عديدة قد أنتج فيها السعي الرزق وشاهدوا أنه لولا السعي لما حصل الرزق، فظنّوا أن السعي هو سبب الرزق. ولكن الحقيقة أن هناك حوادث عديدة حصل فيها السعي ولم ينتج عنه الرزق، وهناك حوادث عديدة حصل فيها الرزق دون أن يحصل أي سعي مما يدلُّ دلالة قطعية على أن السعي ليس سبب الرزق، ولم يأتِ به.
والسؤالان اللذان يردان الآن هما:
أولاً: إذا كان السعي ليس سبباً للرزق مع أنه ثبت بالمشاهدة من وقائع الحياة أن السعي هو الذي ينتج الرزق وأنه لولا السعي لما حصل الرزق فماذا يكون السعي إذن؟
ثانياً: إذا كان السعي ليس هو الذي جاء بالرزق والرزق لا يأتي من نفسه، فكيف يجيء الرزق إذن؟.
والجواب على السؤال الأول هو أن السعي حالة من الحالات التي يأتي عادة بها الرزق، لكنه قد لا يأتي. وبمعنى آخر أن السعي هو ظروف وأوضاع قد ينتج عنها رزقٌ وقد لا ينتج، إِنما يمكن وصفها بأنها أوضاع من شأنها أن ينال مَنْ يقوم بها رزقاً لكنها ليست موصلة للرزق حتماً، فقد توصل وقد لا توصل. ويمكن تشبيهها باستعانة الضعيف بالقوي لقضاء حاجة له يقدر على قضائها القوي، ولكن قد يستعين بالقوي ولا تُقضَى حاجته وقد تُقضَى حاجته من غير استعانة بقوي. وكتجهيز جيش قوي في الحرب لكي يأتي النصر. لكن قد يأتي النصر وقد لا يأتي، بل قد يحصل لمَنْ هو أقل قوة {كَم مِّن فِئةٍ قَليلَةٍ غَلبتْ فِئةً كَثِيرةً بِإِذْن اللهِ} (سورة البقرة/ 249). وهكذا سائر الحالات فهي أوضاع وظروف تعمل على توفيرها لتحقيق أمر ما، لكنها ليست أسباباً فإنها قد تؤدّي إلى تحقيق ذلك الأمر أو قد لا تؤدي، وقد يتحقق الأمر من غير توفيرها. والسعي لطلب الرزق ما هو إلاَّ حالة من هذه الحالات لكنها ليست سبباً للإتيان به، إنما هو يهيئ الظروف والأوضاع والوسائل التي يأتي عادة معها الرزق لكن مجيء الرزق في النهاية يبقى في علم الغيب وحسب ما كتبه الله.
والجواب عن السؤال الثاني: هو أننا نرى أن الحالات التي أنتج فيها السعيُ الرزقَ، والحالات التي لم ينتج السعي فيها الرزق، والحالات التي جاء فيها الرزق من غير سعي، نرى فيها كلها من تتبع واستقراء جميع أنواعها أن هناك قوة وراء هذه الحالات تتحكمَّ في مجيء الرزق من عدمه. وهذه القوة يدرك الحس وجودها من وجود أثرها كإدراك وجود الله من وجود مخلوقاته، فالتحكم بالرزق مشاهد محسوس في اختلاف النتائج مع وحدة الحالات كما هي الحال في السعي لطلب الرزق وفي حصول الرزق من غير وجود السعي. فأثرها هذا التحكم مشاهد محسوس من النتائج نفسها المستقلة عن الحالات. وهذا التحكم لم يأتِ من وجود الحالات قطعاً ولم يأتِ من نفسه إِذْ هو فعل مستقل ولابدَّ له من فاعل يفعله، وهو الفاعل هو الذي يعطي الرزق وهو الذي يمنعه، ولا يعتمد ذلك على طريقة الحصول على الرزق. فطريقة الحصول على الرزق ما هي إلاَّ حالة وليست سبباً، ولا تجلب الطريقة الرزق ولا تمنعه إنما تقوم بذلك القوة التي وراء هذه الطريقة أو الحالة.
أَمَّا ما هي هذه القوة، فإن الآيات القطعية الثبوت القطعية الدلالة تقول إن الرزَّاق هو الله تعالى فتكون هذه القوة بلا شك هي الله سبحانه وتعالى. فهذا هو واقع أن الرزَّاق هو الله تعالى، وهو ما يؤيده أيضاً المشاهد المحسوس بأن هناك تحكماً في الرزق وراء الحالات التي يحصل فيها، وأن الذي يتحكَّم في الرزق هو الذي يعطيه ويمنعه وهو الله تعالى. ويدلُّ على ذلك الدليل القطعي مما يلزم الإيمان بأن الرزَّاق هو الله تعالى إيماناً جازماً مطابقاً للواقع عن دليل. ولقد صحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة في الرزق أنه بيد الله وحده وأنه مكتوب في لوح محفوظ مثل قوله عليه الصلاة والسلام "لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجَلَها وما قُدِّر لها..." رواه ابن ماجه، وقوله للفضل ابن عباس "يا بني إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وأعلم أن أهل الأرض لو أجمعوا على أَن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، وإِنْ أجمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف.." رواه الترمذي. فالرزق بيد الله وهو مسجل في علمه بلوح محفوظ وكتاب مبين وإمام مبين (وكلها بمعنى واحد، وهو علم الله).
والسعي واجب على الإنسان رغم أن الرزق مقسوم ومعلوم عند الله. أمَّا ما ورد من أحاديث صحيحة بأن الله يطيل عُمْرَ ويزيد برزق مَنْ يَصِل رحمه وأمثال ذلك، فإن هذه الأحاديث لا تعني بأن الله يغير ما هو باللوح المحفوظ أو يزيده أو ينقصه، فما هو مكتوب كُتِب قبل الأَزَل، لكنه تعالى قد علم بعلمه الأزلي أن فلاناً سيكون من واصلي الرحم ويكون رزقه وفيراً، وأن فلاناً سيكون مَنْ واصلي الرحم ويكون عمره طويلاً، فالأرزاق لا تتغير ولا تتبدّل عمَّا هو في علم الله تعالى.
ونظرة واحدة إلى واقع الحياة تبيّن مدى تأثير الإيمان بأن السعي هو الذي يأتي بالرزق على الرزق وكيف يؤدّي ذلك إلى ضيق الأفق وجعل الرزق شحيحاً على مَنْ يعتقد بمثل ذلك. ومن الجانب الآخر نرى مدى تأثير الإيمان بأن الرزَّاق هو الله تعالى وأن السعي حالة من حالات الرزق لا سبباً له وكيف أن ذلك يؤدّي إلى اتساع الأفق بالنسبة للرزق وجعله كثيراً مع أمثال مَنْ يعتقد بهذا الاعتقاد. فالموظفون الذين يظنون أن السعي هو الذي يأتي بالرزق يعتقدون أنهم إذا خرجوا من وظائفهم ماتوا جوعاً ولذلك يعيشون في أفق ضيق بالنسبة لكسب المال، ويحيون حياة ضيقة ضنكة مهما بلغت وظائفهم من رفعة. والتجار والزرّاع وأصحاب المصانع وأمثالهم ممَّنْ يدركون أن سعيهم هو حالة من الحالات التي يأتي بها الرزق، ويؤمنون بأن الرزَّاق هو الله سبحانه وتعالى ويدركون أن هناك قوة إلهية تتحكَّم في أرزاقهم وراء الحالات التي يحصلون فيها على الرزق، هؤلاء هم من أوسع الناس أُفقاً بالنسبة للرزق، وهم مهما شحَّت مواردهم أكثر رزقاً ممَّنْ يعتقدون بأن رزقهم مرتبط بوظيفة معينة أم حالة محددة. وعلى ذلك فإن الإيمان بأن الرزَّاق هو الله سبحانه تعالى إذا وجد إلى جانب العمل بالطريقة التي بيَّنها الله للحصول على الرزق ليس مدعاة للكسل ولا للتواكل بل العكس من ذلك فهذا الإيمان يوسع الأفق بالنسبة للرزق ويجعل المال كثيراً بأيدي هؤلاء المؤمنين عندما يعتقدون بأن الرزَّاق هو الله سبحانه وأن العمل واجب شرعاً.

بقلم المحامى: منير الشواف
المصدر : تهافت القراءة المعاصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق