الخميس، نوفمبر 29، 2012

انتخابات لجنة الـ60 محل دراسة وتقييم.... د. عادل عبد الحفيظ كندير

الباعث على كتابة هذه الأسطر هو الجدل القائم حاليا داخل وخارج أروقة المؤتمر الوطني العام بشأن الخطوة القادمة الواجب اتخاذها وفق خارطة الطريق، ويتمحور هذا الجدل أساسا حول الطريقة التي سيتم بها تشكيل اللجنة التأسيسية (لجنة الـ60) المكلفة بكتابة مسودة الدستور الليبي، وعوضا عن الاتجاه نحو التعبئة والتوعية الإعلامية، والتجهيز العملي والميداني لإقامة انتخابات جديدة، ووضع خطة منهجية لتوعية المواطنين وترشيدهم، من خلال ندوات وورش عمل، يشرف عليها نخبة من المتخصصين والمثقفين، يكون الهدف منها تلافي العيوب والأخطاء التي صاحبت التجربة الانتخابية الأولى ( نتيجة نقص الخبرة، بعد أكثر من أربعة عقود من الحرمان) ـ عوضا عن ذلك اتجهت سياسة المؤتمر الوطني العام نحو إقامة ندوات وورش عمل هدفها تقييم العملية الانتخابية، ومعرفة أيهما الأصلح للحالة الليبية عند تشكيل السلطة التأسيسية هل هو التعيين أم الانتخاب؟

والملاحظة الجديرة بالإشارة إليها في مقدمة الحديث عن هذا الموضوع، هي أنه - وبعيدا عن آراء فقهاء القانون بشكل عام، والقانون الدستوري بشكل خاص حول ما تمثله الانتخابات كأسمى صورة للديمقراطية في العصر الحديث – نجد أن الأمر في ليبيا على خلاف - بل على نقيض - ما تقدم؛ ففي ليبيا فقط كانت ولا زالت نظرة صانعي القرار السياسي نحو الانتخاب مختلفة عن باقي دول العالم؛ فبعد أن كان منظروا الفكر السياسي في النظام البائد يطعنون في الانتخابات كطريقة ديمقراطية، بل يصفونها بأنها تزييف لها، ظهر علينا بعض منظري المؤتمر الوطني العام ليقول بضرورة إخضاع طريقة الانتخابات للتقييم فيما يتعلق بتشكيل لجنة الـ60! ومعنى ذلك أن القناعة بوصف العملية الانتخابية بأنها ديمقراطية لم تكتمل بعد لدى عدد من أعضاء المؤتمر، ونسوا أو تناسوا بأنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا من خلال انتخابات نزيهة، ما كانت لتجري في ليبيا لولا رعاية الله، ثم دماء شهداء ثورة 17 فبراير المجيدة، وجهود المخلصين من الليبيين الأحرار.
وبالعودة إلى فقه وفلسفة القانون، نجد أن الجدل – كل الجدل - ينحصر حول ذلك التعديل الذي أقره المجلس الوطني الانتقالي السابق على المادة 30 من الإعلان الدستوري المؤقت، الذي نتج عنه استبدال الانتخاب بالتعيين كأداة قانونية لتشكيل لجنة الـ60 التأسيسية، وقد تم الطعن في هذا التعديل، بل وصل الأمر إلى الطعن فيه أمام أعلى جهة قضائية في ليبيا ألا وهي المحكمة العليا، فهل يتطلب هذا التعديل (من الناحية القانونية) طعنا وجدلا كبيرين؟
يمكن القول وبباسطة إن ما أحدثه المجلس الوطني الانتقالي من تعديلات ما هو إلا خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن العودة إلى ما قبل التعديل هو ما يستوجب الطعن فيه، ذلك أن المادة 2 من الإعلان الدستوري نصت وبصريح العبارة بأن الشعب هو مصدر السلطات، وفي ذلك إشارة صريحة إلى أن الإعلان تبنى ما يطلق عليه في فقه القانون الدستوري (نظرية سيادة الشعب) [1]، القاضية بأن الشعب هو مصدر كل سلطة، تأسيسية كانت أو تشريعية أو تنفيذية بل والقضائية أيضا، ولا يمكن التنازل عن هذه السيادة لأي سلطة أو جهة أو هيئة أيا كانت، وكل ما يخالف ذلك يعد باطلا وغير دستوري.
وعليه، لما كان نجاح كل عمل ديمقراطي يتوقف على مبدأين:مبدأ توزيع السلطة ومبدأ تداولها (كي لا تنحصر السلطة في يد فرد أو جهة واحدة ولأمد طويل) فإن أي توزيع أو مداولة للسلطة لا يُراجع الشعب فيها، أو لا يوافق عليها هو توزيع أو مداولة غير دستورية. ولذلك وعلى الرغم من أن أسبابا سياسية كانت وراء تعديل المادة 30 مرتين، إلا أن هذه الأسباب ساعدت المجلس الوطني الانتقالي - من وجهة نظر دستورية - على تدارك التناقض الذي وقع فيه عند صياغته للمادتين 2 و30 من الإعلان، فبينما قضت الأولى بأن الشعب هو مصدر السلطات، قضت الأخيرة - قبل تعديلها - بأن للمؤتمر الوطني العام سلطة تشكيل لجنة الـ60، وبذلك كان المؤتمر وليس الشعب من يملك سلطة اختيار اللجنة التأسيسية. ومقتضى هذا القول أن المؤتمر لا يمتلك السلطة التشريعية فحسب، بل التأسيسية والتنفيذية معا (باعتبار أن تشكيل كل منها يتوقف على موافقة المؤتمر، وعلى مدى منحه الثقة لهما).
ولذلك فإن حصر جميع هذه السلطات في يد كيان سياسي واحد ألا وهو المؤتمر، لا يعد إخلالا بمبدأ توزيع السلطة فقط، بل واعتداء على نظرية سيادة الشعب المنصوص عليها في المادة 2 من الإعلان، وهو ما يجعل من التعديلات التي أقرها المجلس الوطني الانتقالي تعديلات تتفق ومبادئ القانون الدستوري، لأنها ـ بالإضافة لإقراره مبدأ توزيع السلطة (كي لا تنحصر جميعها في يد كيان سياسي واحد) ـ جعلت نظرية سيادة الشعب محل تطبيق عملي. فالتعديل وإن سلب المؤتمر سلطته التأسيسية، إلا أنه أعادها إلى صاحب الشرعية والسيادة الحقيقي، وهو الشعب الليبي؛ ليتمكن من اختيار ممثليه عبر اقتراع عام ومباشر.
وبناء على ما تقدم، فإنه لا يُقبل قانونا الطعن في دستورية هذا التعديل؛ لأن المجلس الوطني الانتقالي لم يقم بسحب السلطة التأسيسية من كيان سياسي لصالح كيان أخر كالحكومة مثلا (السلطة التنفيذية)، بل سحبها من كيان سياسي لصالح صاحب الاختصاص الأصيل؛ ألا وهو الشعب، بحسب نص المادة 2 من الإعلان الدستوري سابقة الذكر.
فهل يتطلب الأمر أن يخضع الاقتراع المباشر الذي نص عليه التعديل الدستوري لعملية دراسة وتقييم من خلال ندوات وورش عمل تقام لهذا الغرض؟!، والإجابة هي أنه لا يتطلب ذلك، ويكون من الأولى توجيه مثل هذه الندوات وورش العمل نحو توعية وتعبئة المواطنين نحو إقامة انتخابات جديدة يُتفادى من خلالها أخطاء التجربة الأولى. ويكفي القول: بأن كافة المواثيق والصكوك الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية تنص على أن ممارسة الحقوق السياسية - ولاسيما حق المواطن في المساهمة في الشؤون العامة لدولته - يكون عبر الاقتراع المباشر، أي عن طريق الانتخابات؛ فحق المساهمة في الشؤون العامة للدولة هو من الحقوق الطبيعية للإنسان في كل زمان ومكان، والنتيجة القانونية هي أن ممارسة هذا الحق عبر الاقتراع المباشر (الانتخابات) هو حق دستوري غير قابل للتنازل عنه، وليست وظيفة قابلة للتعديل والسحب، تمارس في ظل علاقة تنظيمية، أي أن الانتخابات هي حق وليست وظيفة. وأما القول بأن الدافع نحو التخلي عن الانتخاب هو مخرجات التجربة الانتخابية الأولى للمؤتمر الوطني العام، فهذا القول سبق تفنيده في بحث سابق بعنوان "المفاضلة بين التعيين والانتخاب كأداة قانونية لتشكيل لجنة الـ60)، حيث جاء فيه: أن العيب لا يكمن في العملية الانتخابية ذاتها بقدر ما يكمن في كيفية ممارستها، ولاسيما فيما يتعلق بحق الترشيح؛ حيث إن ضوابط ومعايير الترشيح لعضوية المؤتمر لم تكن بالدقة الكافية للحصول على مخرجات عالية الجودة، وبالتالي فإن الأمر يتطلب وضع معايير وضوابط للمرشحين أكثر دقة فيما يتعلق بعضوية لجنة الـ60 التأسيسية، حتى نضمن أن تكون المخرجات على قدر المسئولية، وذات جودة العالية.
والخلاصة أن نظرية سيادة الشعب المرتكزة على مجموع الإرادات الفردية لأبناء ليبيا شرقا وغربا وجنوبا هي المُكوّن الأساسي لإرادة الشعب الليبي ككل واحد، وليست إرادة أعضاء المؤتمر الوطني العام، هذه الإرادات الفردية لا تقبل التقييم أو الدراسة لأجل التنازل عنها لصالح أي كيان أو جهة، ولو كانت سلطة تشريعية منتخبة مباشرة من الشعب، كالمؤتمر الوطني العام، لأنها إرادات تقوم على حقوق ملتصقة بطبيعة الإنسان الفرد. ولا يمكن لأي دراسة أو تقييم أن تجبر المواطن الليبي على أن يتنازل عن إداراته لصالح كيان سياسي تتجاذبه أجندات وأيدلوجيات مختلفة ومتباينة، فالسيادة كل السيادة لأفراد الشعب الليبي.

عادل عبد الحفيظ كندير
كلية القانون –جامعة طرابلس







[1]على الرغم من أن مصطلح (سيادة الشعب) هو مصطلح سياسي قانوني عالمي في فقه القانون الدستوري، فإن في التعبير به محذورا شرعيا؛ ذلك لأن السيادة لله لا ينازعه فيها أحد، والنص عليه في هذه المقالة هو للتأكيد فقط على أن فقه القانون الدستوري ينص على أن الشعب هو مصدر كل سلطة

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق