تأتي
الذكرى الحادية والستون ليوم السابع من أكتوبر، يوم الدستور، هذه السنة، في ظروف
مختلفة، ومن وجوه كثيرة، ولهذا فإن ما سبق وأن كتبناه في الأعوام الماضية عن ذكرى
الدستور، حتما كان مختلفا، عما نسطره اليوم في الذكرى الحادية والستين.
ولعل سبب
هذا الاختلاف، يرجع إلى إن هناك الكثير والكثير من المتغيرات الكبيرة والجذرية قد
طرأت، وأن أحداثا قد وقعت، وجميعها يدل بوضوح أن الحاجة إلى العودة لدستور السابع
من أكتوبر صارت اليوم ضرورة أكثر من ذي قبل، وأن تجاهل هذه الحقيقة أو نكرانها
والابتعاد عنها، هو وضع شاذ.
أن ذكرى
الدستور في عيده الحادي والستين، تجيء وقد رد الليبيون الاعتبار للدستور بدمائهم
وتضحياتهم الكبيرة، فكانت ثورة 17 فبراير المجيدة، إعلانا شعبيا ووطنيا صريحا في
رد الاعتبار للدستور، وكانت من أولى نتائجه المباشرة وأهدافه الرئيسية، إسقاط تلك
الطغمة الباغية التي اعتدت على الدستور وعلى مؤسساته في 1 سبتمبر 1969.
ولعل أوضح
تعبير عن هذا المعنى العميق، أن الشعب الليبي وفي مختلف ربوع البلاد، ومنذ اللحظات
الأولى لقيام الثورة، رفع علم الدستور، شعارا ورمزا لثورته وانتفاضته المباركة
التي عمت كل أرجاء الوطن من أقصى شرقه إلى أقصى غربه، وعلى نحو تلقائي، وكأنه ظل
كامنا في أعماق وجدانه، رغم مرور السنوات الإثنتي والأربعين المظلمة.
بل وكأن
شيئا من هذه السنوات الطوال لم يمر ولم يكن شيئا مذكورا، سوى ما وقع خلالها من
كوارث ومآسي فظيعة، نعرف القليل منها، كالإعدامات والتصفيات الجسدية والمجازر
البشرية والاعتقالات والانتهاكات المهينة للشرف والكرامة، ولكننا مع ذلك نجهل عن
الكثير مما ارتكب في حق الشعب الليبي، وعن المقابر الجماعية. وعن الألغام المزروعة
في القرى والمدن والطرقات وعن.. وعن...!!
وكل هذه
الكوارث والنكبات التي حلت بالشعب الليبي، ما كان لها أن تقع إلا بعد أن تمكنت
عصابة من السفهاء واللقطاء من الاعتداء على دستور السابع من أكتوبر!!!
وليس هناك
وسيلة أو عمل لرد الاعتبار لدستور السابع من أكتوبر 1951، أعظم وأسمى مما قدمه
وبذله الليبيون من أجل تحقيق تلك الغاية النبيلة، فقد كان الذي قدمه وبذله
الليبيون، مخضبا بدماء الشهداء ونضالات الشرفاء وتضحيات الأحرار، وأن ما قدمه
وبذله الليبيون في هذا السبيل، يعادل في أهميته ومكانته وضرورته وتاريخيته، لما
بذله جيل الأباء والأجداد من نضال وجهاد وجلاد في سبيل الوصول إلى إرساء قواعد
الدستور وقيام الدولة الحرة المستقلة.
لهذا فإن
الذكرى الحادية والستين للدستور، تأت هذه الأيام، في ظروف جد مختلفة عما سبق،
فليبيا اليوم لم تعد ليبيا الأمس، فقد تلاشت وتهاوت العصابة التي أجرمت في حق
الأمة الليبية، وفي حق الدستور،
وقد قامت
سلطات انتقالية مؤقتة بفعل الثورة، لمواجهة الظروف الاستثنائية المترتبة على
الإطاحة بالنظام المنهار، كالمجلس الانتقالي والمؤتمر الوطني، وهي سلطات نشأت
وتكونت استنادا إلى ثورة فبراير، وما كان لأحد أن يتصور قيام هذه السلطات لولا
وقوع ونجاح هذه الثورة.
وكان من
الواجب ومن الطبيعي أن تعكس هذه السلطات، إرادة الأمة الليبية التي جسدتها وعبرت
عنها ثورة فبراير، سواء في أهدافها أو مبادئها أو مسبباتها. غير أن الذي حدث كان
أمرا غريبا وعجيبا !! وقد أثار حفيظة الكثير، فالمجلس الانتقالي السابق، يصدر
إعلانا دستوريا معيبا في صياغته ومحتواه، ولا أحد من اللبيين يعرف الطريقة أو
السبب الذي من اجله صدر ذلك الإعلان المعيب الذي جاء منعزلا عن مبادئ ثورة
فبراير!!!
ولكن
الشيء الوحيد الذي عرفه الليبيون ومنذ اللحظة الأولى لصدور ذلك الإعلان، أن المجلس
الانتقالي والإعلان الذي صدر عنه، يشاركان نظام القذافي الذي اسقطته ثورة فبرار في
نظرته العدائية لدستور السابع من أكتوبر!!! وأن الإعلان الصادر عنه يتفق في
النتيجة لذلك البيان الذي أذاعه القذافي يوم 1 سبتمبر 1969 الذي أعلن فيه سقوط
الدستور ومؤسساته الشرعية!!
والمعنى
الوحيد لذلك، أن الرؤية التي كونها المجلس الانتقالي عن ثورة فبراير – إذا افترضنا
أن له رؤية - أنها مجرد امتداد لنظام القذافي، وأنها فقط قامت لتصحيح هذا النظام
لا إسقاطه!! والتصحيح الذي آمن به المجلس ودلت عليه الوقائع أنه تصحيح يقتصر على
شخص القذافي وأسرته.
وأنه متى
تحقق ذلك وأزيل القذافي وأبنائه، فإن ثورة فبرار تكون بهذا قد حققت أهدافها !!!
وترتيبا على هذه الرؤية المعيبة، بقت منظومة القذافي مهيمنة على مفاصل الدولة وعلى
نحو يثير الغثيان، وهو الأمر الذي أوجد حالة من الاضطراب وعدم الرضا.
وحتى
المؤتمر الوطني وإلى هذه اللحظة يبدو مكبلا بما ورثه عن المجلس الانتقالي، فلم يأت
بجديد، وليس في الأفق ما يشير أنه قادر على أن يفعل شيئا في إطار التغيير الجذري
الذي قامت ثورة فبراير لإحداثه في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والإدارية
والقضائية والسياسية والاجتماعية.
ومع مرور
الفترة السابقة، ورغم نجاح ثورة فبراير المجيدة، مازلنا نحكم وفق تشريعات القذافي
وتوجهاته العبثية!!! ومازلنا نحكم أيضا وبنفس الطريقة والأسلوب من قبل عملاء
القذافي وطباليه !! وهذا هو الواقع الآن !! وهو واقع يرفضه الليبيون وبقوة، ولن
قبلوا به على أي حال من الأحوال.
ونحن
اليوم، وفي الذكرى الحادية والستين، نتذكر بكل الإجلال والفخر، المناضلين الذين
شاركوا في صياغة وإعداد ووضع الدستور، أعضاء جمعية الستين، وفي مقدمتهم السادة:
محمد أبو الإسعاد العالم والمنير برشان وعمر فائق شنيب وعبد العزيز الزقلعي ومحمد
المنصوري والطائع البيجو ومحمد الهنقاري وعبد المجيد كعبار وأحمد عون سوف ومحمود
المنتصر ومحمد عثمان الصيد وخلل القلال وإبراهم بن شعبان وأبي الربيع الباروني.
ونذكر
أيضا في هذا المقام وبكل الاعتزاز والتقدير، مولاي الملك الراحل محمد إدريس المهدي
السنوسي مؤسس ليبيا الدستورية المستقلة في العصر الحديث، وأول ملك دستوري في
التاريخ العربي المعاصر.
وإذا كنا
اليوم وبعد مضي إحدى وستون سنة على يوم الدستور، نحتفل به إعلاء لشأنه، فقد كان
الجيل السابق، جيل الرواد، يفعل الشيء نفسه، ذلك لأن يوم السابع من أكتوبر يعتبر
من أهم الأيام التاريخية المجيدة، إن لم كن أهمها على الإطلاق، فهو منشأ الدولة
الليبية الحديثة التي ولدت وأعلن عن قيامها في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951،
وكانت ولادة الدولة الليبية مستندة إلى دستور السابع من أكتوبر، ومن ثم كانت ولادة
شرعية، ولم تكن بناء على غزو أو حرب أو إكراه أو احتلال أو مقايضة.
ودستور
السابع من أكتوبر لم يفرضه حاكم ولا سلطان، ولم تضعه سلطة حاكمة أو مستبدة، بل
وضعته الإرادة الوطنية للأمة الليبية ممثلة في لجنة الواحد والعشرين وجمعية
الستين. وقامت ركائزه وقواعده على أسس الديمقراطية الحقة واحترام حقوق الإنسان
والمواطن، ولهذا، فإنه لم يقتصر على وضع الجوانب السياسية والملامح العامة للدولة
الوليدة فقط، بل تضمن أيضا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن
الليبي الفرد. وهذا ما جاءت به نصوص دستورية عديدة تناولت وجوب مراعاة وتوفير
المستوى المعيشي اللائق للفرد، وحماية الأسرة، وكفالة العمل، وحرية المعتقد
والتفكير والرأي، وكان دستورنا يعتبر أن هذه الأسس والقواعد هي الأرضية السليمة
لتحقيق الاستقرار السياسي والتدرج بالجماهير في اتجاه تحقيق الشخصية الوطنية
وتأكيد السيادة وتحقيق التطور.
ولهذا
السبب، جاءت نصوص الدستور غاية في الوضوح والتركيز على هذه المثل والقيم، وذلك
بالرغم من أن منطقة الشرق الأوسط التي كانت في تلك الفترة على وشك تفجر البركان
الذي ما لبث أن تفجر وغابت على أثره الحياة الدستورية في معظم بلاد الشرق الأوسط،.
الأمر
الذي يؤكد أن هذا الدستور إنما هو في الواقع كان ثمرة العقل الليبي وحده،
واستفادته من خبرات الشعوب المتحضرة وحرصه الدؤوب على توفير الحرية السياسية
والأخذ بنظام الديمقراطية. وأن ما أضر الشعوب والبلدان العربية، وجعل منها أرضا
رطبة سهلة الانتكاس، هو تفشي النظم غير الدستورية والنظم الفاشية.. التي فشلت في
إعداد المواطن الذي يمكنه الوقوف والصمود والثبات إزاء المصاعب، وفشلت أيضا في
تربية الشعوب وتحقيق مناعتها الذاتية وكفاءتها الخلقية في الذود عن حياض الأوطان
وحياض كل شيء مقدس وشريف.
وكانت
النتيجة المنطقة لهذه الأوضاع الشاذة، أن قامت ثورات الربيع العربي، ضد الأنظمة
العبثية والقمعية، واقتلعتها من جذورها، بهدف بناء دولة القانون والدستور وإرساء
قواعد الشرعية.
وإذا كان
عيد الدستور هذه السنة يأت في ظروف مختلفة، ورغم مضي أحد وستون عاما على صدوره،
فإنه مازال في أوجه شبابه وعنفوانه وشرعيته، فمبادئه وقواعده لا تزال أكثر تقدما
ورقيا من نظيراتها في الدول العربية والأفريقية، لا سيما تلك المبادئ التي تتعلق
بالحريات العامة والفردية، أو تلك القواعد التي تحكم النظام السياسي في الدولة، أو
التي تتعلق بمبدأ الفصل بن السلطات، أو تلك التي ترسي قواعد السلطة القضائية على
الاستقلال والنزاهة والحياد.
ألم تكن
في ليبيا الملكية، سلطة قضائية فعالة ومستقلة ونزيهة في ظل دستور السابع من أكتوبر
؟ ألم تصدر هذه السلطة أحكاما تلغي بها مراسيم صادرة عن ملك ليبيا لصالح أفراد من
الشعب؟
ألم
تتلاشى هذه السلطة وتزول في ظل حكم القذافي العبثي القمعي؟
وهل هناك
عاقل يتصور وجود مثل هذه السلطة في جماهيرية القذافي؟ وهل كان في ليبيا قضاء
يستطيع النظر في توجيهات أو أعمال القذافي العبثية أو الإجرامية؟
بل أن
المحكمة العليا لجماهيرية القذافي وبكامل قضاتها قرروا في أكثر من حكم لهم أن
القذافي هو مصدر التشريعات !! وأنه هو فوق سلطة الشعب الذي لا سلطة لسواه!!!؟؟
وهذا النوع من القضاء الصوري لم تعرفه ليبيا زمن الاحتلال الإيطالي !! وإنما عرفته
وعانت منه عندما جرى السطو على الدستور وتغيب مؤسساته الشرعية.
ولعل
منتهى غاية وأماني العديد من الشعوب والأمم المجاورة لنا أن يكون لها دستور مماثل
لدستور السابع من أكتوبر، أو حتى قريب منه!! ولعل التعديلات والإصلاحات الدستورية
التي تسعى القوى الحزبية والسياسية والنقابية إلى إقرارها في المغرب والأردن
وسوريا وغيرها من الدول الأخرى، في هذه الأيام، هي في الواقع، دون مستوى القواعد
والمبادئ والأحكام التي يتضمنها الدستور الليبي الصادر منذ ستين عاما!!، يكفي
الليبيون فخرا واعتزازا بدستورهم، أنه الدستور العربي الوحيد الذي لا يعرف ولا
يعترف بالسلطة المطلقة، ولا بالنظم الشمولية،ولا بالتشريعات الاستثنائية،ولا
بالمبررات أو المسوغات أو الشعارات الزائفة أو المزيفة.
ومما
يزيدنا فخرا واعتزازا بهذا الدستور، أنه وعلى خلاف كافة الدساتير العربية، جاء
تعبيرا عن إرادة الأمة، وليس هبة أو منحة أو عطية من أحد، وآيا كان هذا الأحد.
وإذا كان
هذا الدستور قد تعرض للاعتداء الأثيم، وتعرضت مؤسساته للسرقة والسطو يوم 1 سبتمبر
1969، فإن شرعية الدستور لا تسقط ولا تزول بالسرقة أو السطو أو الغدر أو بأي سلوك
غير مشروع، اللهم إلا إذا طبقنا أو استسلمنا لشريعة الغاب!!!! بل أن كبير العصابة،
وفي أول خطاب له بعد اندلاع الثورة المباركة، وفي محاولة منه لإجهاضها، قرأ على
الليبيين، نصوصا من قانون العقوبات الليبي الصادر سنة 1953 على سبيل التهديد
والإرهاب وهي النصوص التي تقضي بمعاقبة كل من يعتدي على المؤسسات الدستورية
الملكية بالإعدام " وجميعنا يعلم أنه كان أول المعتدين على تلك المؤسسات!!!!
فالقذافي نفسه يعترف علنا وعلى مرأى ومسمع الأشهاد بشرعية المؤسسات الدستورية
وبالدستور الليبي!!!!
فلماذا لا
نعود إلى الدستور وإلى مؤسساته الشرعية؟ وإذا فعلنا ذلك، فما أعظمه من فعل و ما
أعظم العودة والرجوع إليه. فهي إقرار بالحق والحقيقة، وهي فضيلة وشهامة وسمة من
سمات الأحرار، وكلنا يعلم تماما أن ثورة السابع عشر من فبراير قد رفعت أعلام
الدستور، نهارا جهارا، وتغنت بنشيده الوطني، سرا وعلانية، وكم من شهداء سقطوا من
أجل ذلك!!! وهل هناك من ينكر هذه الحقائق؟؟!!
وهل نحن
الآن في حاجة إلى دستور آخر؟أو حتى إلى إعلان دستوري مؤقت أو انتقالي؟؟ وهل يمكن
لنا أو حتى لغيرنا أن نصل إلى دستور يماثل أو يعادل دستور السابع من أكتوبر؟؟!!
وما أكثر الأسئلة في هذا المجال؟؟؟!!!!
وإذا كانت
هناك قوى أو تيارات تشكك في شرعية أو رقي دستور السابع من أكتوبر، فإنها بهذا
التشكيك تعترف عن قصد أو جهل أو غباء بشرعية نظام القذافي،!!! وهذا في حد ذاته
يناقض ويخالف إرادة وكفاح الشعب الليبي خلال أربعة عقود، وهو الكفاح الذي توج
بانتصار ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة. ولهذا فإن مجرد الحديث عن دستور جديد،
هو أمر مخالف لروح الدستور وحقيقته المجردة وطبيعته السامية، لأن لدينا دستورا
قائما لم يلغ ولم يعدل بالطريقة الشرعية والطبيعية المسلم بها والمتعارف عليها.
وليس معنى
ذلك أن الدستور هو قرآن كريم لا يلغى ولا يعدل، بل العكس من ذلك هو الصحيح،
فالتغيير والتعديل سنة كونية وطبيعة بشرية، وضرورة من ضرورات الحياة، ولكن بشرط أن
يقع هذا التغيير والتعديل في الإطار الطبيعي والشرعي، وليس بطريق الغدر والسطو
والعنف والترويع والخداع، أي ليس بطريقة الانقلابات العسكرية والخيانة.
وترتيبا
على ذلك فإن من يريد دستورا جديدا، فليكن ذلك ولا بأس، ولكن في إطار من الشرعية
الدستورية، بمعنى أن نعود لدستور السابع من أكتوبر أولا، وأن يعرض أمر هذا الدستور
على الشعب الليبي الذي له أن يقبل به أو يعدله جزئيا أو يلغيه كليا، وفي هذه
الحالة يكون الحكم للأمة الليبية ولا معقب لأحد على هذا الحكم.
د. محمود
سليمان موسى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق