الاثنين، أبريل 30، 2012

من هو الأحق بمحاكمة سيف القذافي؟ .... د. علي أبو شنة الغرياني

عندما وقعت انتفاضة الشعب الليبي في السابع عشر من فبراير 2011، وخرج أبناء هذا الشعب في مظاهرات سلمية يطالبون بحقوقهم المسلوبة، ويعلنون إصرارهم على بناء دولة القانون والمؤسسات، ورفضهم القاطع للواقع الذي فرضه عليهم نظام القذافي لأكثر من أربعة عقود من الزمن، وهو واقع يعتبر أكثر انحطاطا وتخلفا وبؤسا من الواقع الذي كانت تعاني منه كثير من الشعوب، تحت نير الاحتلال الأجنبي!! غير أن القذافي لم يكن مستعدا للاستجابة لمطالب الشعب الليبي وتطلعاته المشروعة في إقامة دولة ديمقراطية، واعتبر ذلك جنونا وهلوسة، وخروجا على الطبيعة!! فمن أنتم حتى تطالبوا بالحقوق والحريات؟؟!! أنا ربكم الأعلى الذي صنعكم وأوجدكم!!! وكنتم من قبلي موتى لا حياة لكم!!! فهل نسيتم أنفسكم!!! ألا تعلمون أني أنا المجد والمجد أنا!!!

لهذا شهر سيفه وسلاحه وأعلن الحرب على الشعب الليبي، كما هي عادته، وكما سبق له أن فعل في مرات ومناسبات عديدة!! غير أن هذه المرة كانت مختلفة، ومختلفة من كافة الزوايا والوجوه، سواء على الصعيد الداخلي، أم على الصعيد الدولي.. فما كان جائزا عمله وفعله فيما مضى، لم يعد الآن كذلك، ولن يعود كذلك في المستقبل. غير أن القذافي لم يدرك هذه الحقيقة!! فظل معتقدا أنه هو القائد العبقري والمعبود الأوحد وصانع الأمجاد!! وإن ما عداه هم في عداد الحمير أو الكلاب.. أو الجرذان!! ولهذا لا يجوز لأي من هؤلاء، الحق في مواجهته، ولا في نقده، ولا في الانقضاض عليه، إلا من أراد الانتحار منهم، فتلك موقعة أو مجزرة أبو سليم ماثلة للعيان، فليتذكر كل من له قليل من العقل والإدراك، ومن ثم كان يجب على كل ليبي، أن يرضى بحاله ويقبل بكل ما هو عليه!! بل عليه أيضا أن يحسد الشعوب الأخرى، لوجود "القائد الأممي" بينهم وقبوله بهم!! فهذا يكفيهم فخرا وعزا!! وعليهم أن يعلموا أن الأمم والشعوب تتمنى أن يكون ذلك"الصقر الوحيد" هو زعيمهم!! وهكذا كانت هذه هي طريقة وأسلوب القذافي في تعامله مع الشعب الليبي، طريقة الإهانة والاحتقار والإذلال والبطش، فهو يرى في نفسه، أنه الأعظم وفوق البشر، ولهذا فهو يفعل ما يريد، ويقول ما يشاء وكيفما يشاء، وما على الآخرين إلا التهليل والتكبير لما يفعل ويقول!! وهذا هو ما كان يجري وما كان يحدث، في ليبيا باعتباره نظام حياة!! وقد أدمن عليه القذافي وأجبر غيره على الإدمان عليه، وسخر كل شيء في البلاد لأجل ذلك.
ولهذا كله كانت مواجهه القذافي لثورة فبراير، شديدة العنف والقسوة، استعمل فيها كل ما هو محظور، حتى الاغتصاب والاعتداءات الجنسية لجأ إليها!! كما استعان بالمرتزقة الأجانب مثلما استعان بعملاء الداخل، فضلا عن أن التقتيل والتعذيب والتنكيل والتهديد الذي مارسه القذافي، كان متجاوزا كل منطق وكل معقول!!، بل لا وجه هنا للمقارنة بين ما قام به الرئيسان زين العابدين في تونس ومبارك في مصر عند قيامهما بمحاولة وأد الثورة في البلدين، وبين ذلك الذي مارسه وفعله القذافي وكتائبه المسلحة في محاولة وأد ثورة فبراير. وإذا كانت مواجهة القذافي قد أتسمت بالعنف والجنون والخسة، فإنه وفي المقابل، قد طرأ حدث جديد لم يكن متوقعا، وربما كان خياليا في هذه المواجهة، وكان هذا الحدث الجديد، أن الشعب الليبي اظهر عزما أكيدا على إسقاط القذافي والتخلص منه،على نحو لا رجعة فيه، غير أن الجديد الأبرز في هذه المواجهة تمثل في أن جرائم القذافي وممارساته الوحشية، كانت ترتكب علنا وعلى مرأى ومسمع من العالمين، فلم يعد الأمر، كما كان في الماضي، يتم سرا وفي الخفاء، بل أن بني البشر جميعا كانوا يشاهدونها، في كل مكان عبر القنوات الفضائية، وهو ما أثار القلق والرعب والفزع في نفوس كل من كان يتابع الأحداث الجارية في ليبيا، حتى أن مستشارة ألمانيا، السيدة أنجيلا ميركل، وصفت ما كان يقوم به القذافي ضد شعبه الأعزل المطالب بالحرية والديمقراطية، بأنه،" شيء مرعب ". ولم يعد ممكنا قبول ما يحدث في ليبيا من فظائع مروعة وجرائم شنيعة، لأن ما يرتكب هو جرائم ضد الإنسانية، وتخضع لأحكام القانون الدولي الجنائي، ولهذا لم تمض سوى أيام عشرة، من بداية مسلسل القتل والتشريد والاغتصاب، إلا واضطلع المجتمع الدولي بمسؤولياته تجاه الشعب الليبي الذي كان يتعرض وقتئذ، للإبادة، فقرر مجلس الأمن وبالإجماع، إحالة الوضع في ليبيا إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق في الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي وقعت وتقع ضد هذا الشعب. وهو ما فعلته هذه المحكمة وقامت به، حيث ثبت لدى مدعي عام هذه المحكمة من خلال ما أجراه من تحقيقات ومتابعات، إن جرائم دولية خطيرة ارتكبت في ليبيا، وهي جرائم تختص بنظرها محكمة الجنايات الدولية، وقد تم توجيه الاتهام لثلاثة أشخاص، بسبب مسؤولياتهم الرئاسية والقيادية وهم (معمر القذافي، عبدالله السنوسي، سيف معمر القذافي)، وقد صدرت في شأنهم أوامر اعتقال دولية من الدائرة التمهيدية.
ومازالت المحكمة في سبيلها لتنفيذ هذه الأوامر إلى الآن. وعندما تم القبض على سيف القذافي وعبد الله السنوسي، سارعت المحكمة بطلب تسليم الاثنين إليها، لمحاكمتهما عما هو منسوب إليهما، ولكن حتى هذه اللحظة لم يتم التسليم، بل أن السلطات الليبية ترفض هذا التسليم بحجة أنها هي الأحق بمحاكمة القذافي، وليس محكمة الجنايات الدولية، وتستند في ذلك إلى أنها ليست طرفا في نظام روما الأساسي.
ومازال مدعي عام المحكمة الجنائية يواصل تحقيقاته وإجراءاته حتى الآن، ولعل آخر ما تم في هذا الأمر، قيامه بجمع أدلة ومعلومات عن حالات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية منذ أيام قليلة في مدينة مصراتة، بمعنى أن المحكمة الجنائية الدولية لم تتوقف عن مواصلة التحقيقات والإجراءات القضائية والجنائية في الحالة اللببية، وفي سبيل استكمال تلك الإجراءات طالبت المحكمة تسليم سيف القذافي المتهم الثاني في الدعوى الدولية، لمحاكمته، ولكن السلطات الليبية امتنعت عن التسليم بحجة أنها ليست ملتزمة ولا معنية بأحكام محكمة الجنايات الدولية، معللة ذلك أنها ليست طرفا في معاهدة روما من جهة، ولأن الجرائم المتهم بها سيف وقعت في ليبيا وكان ضحاياها أيضا من الليبيين، فليبيا بذلك تعتبر الأحق والأولى بأن تتولى محاكمته، وذلك من وجهة نظر السلطات الليبية!!
على أن هذه الأسانيد التي يتمسك بها الجانب الليبي، ومازال، هي من الوجهة القانونية البحتة، ضعيفة وهزيلة، وذلك على النحو الذي بيناه تفصيلا في الموضع السابق، ذلك لأن اختصاص محكمة الجنايات الدولية في الحالة الليبية، إنما يستند إلى قرار صادر بالإجماع من مجلس الأمن، وبذلك ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية طبقا لنص المادة 12 -2 من النظام الأساسي.
وعندما جاء مدعي عام محكمة الجنايات الدولية إلى ليبيا منذ أيام لمواصلة تحقيقاته، اجتمع به عدد من مسئولي الحكومة والمجلس، وظنوا أن الرجل هو " الكل في الكل"!!! في محكمة الجنايات الدولية، وتعاملوا معه على أساس من هذا الاعتقاد!! وأعلنوا أمامه أن "تسليم سيف لمحكمة الجنايات الدولية يتعارض مع سيادة الشعب الليبي"، وطلبوا منه أن يقرر ويوافق على ذلك، أثناء زيارته الأخيرة لليبيا، وأن يعلن أن سيف وغيره من المتهمين الآخرين، لن تتم محاكمتهم في لاهاي، وإنما ستتم في ليبيا!!! وأمام القضاء الليبي!! وكأن الأمر مجرد تصورات أو مناقصات أو مزايدات!! أو حتى علاقات!!
ولا أحد يلوم المسئولين الليبيين في ذلك، لأنهم مازالوا يعيشون في جماهيرية القذافي!! ومازالوا متأثرين بعقليته وبطريقته، وبما رسخه في أذهانهم من مفاهيم بالية!! وبما كان يجري في ليبيا قبل ثورة فبراير وعلى كافة المستويات من سخف وتخلف وبلادة!!
وإزاء هذا الوضع المشوب بالقصور في الفهم والإدراك لدى مسؤولي السلطات الانتقالية، أبلغهم أوكامبو، صراحة، أنه لا يملك من أمر المحكمة شيئا، وقال لهم أنه ".. مجرد مدعي عام في هذه المحكمة، وأن طلباتهم هي من اختصاص قضاة المحكمة، وليس من اختصاصه!! وأنه لو كان يملك ما يطلبون، لاستجاب لهم ولبى ما يأملون!! ويبدو أن الرجل أحس بهزالة وضحالة التفكير لدى الجانب الليبي، وربما تساءل السيد أوكامبو عن ذلك، وهل هو بسبب الجهل واللامبالاة؟؟ أو لعدم الشعور بأي قدر من المسؤولية !!! فالمسألة بالنسبة لأوكامبو وللمجتمع الدولي، في غاية الأهمية والخطورة، فالأمر يتعلق بجرائم ضد الإنسانية وقد وقعت ضد أبناء الشعب الليبي، وكان ينبغي أن يكون التعامل مع هذا الأمر،من جانب السلطات الليبية، بدرجة تتناسب مع أهميته وخطورته!! وهذا أيضا ما عكسته وجسدته نوعية الاتهامات الواردة في لائحة المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك نظرا لطبيعة وجسامة الجرائم والانتهاكات الواقعة على مئات بل ألآلاف من الضحايا والمجني عليهم في الفترة الزمنية المحددة والمبينة في قرار مجلس بالأمن، ولكن ورغم كل ذلك، لاحظ أوكامبو، أن المسؤولين الليبيين، لا ينظرون إلى هذه المسألة الكبيرة والخطيرة " جدا " بالنسبة للمجتمع الدولي والضمير الإنساني، بالجدية التي تقتضيها الظروف والأحوال المرتبطة بها!!! وفوجئ الرجل أن السلطات الليبية لم تفعل شيئا يذكر فيما يجب فعله!! بل أن الذي تفعله هو عرقلة وتعطيل سير العدالة الجنائية الدولية، لكن أوكامبو، ربما برر ذلك بالجهل والقصور الذي لاحظه من تصرفات ومواقف الجانب الليبي!! لهذا نصحهم بوجوب الاستعانة بمحامين، لأن المسألة تتعلق بجوانب قانونية بحتة!! وليس بالسيادة الشعبية ولا بالوطنيات ولا بالشعارات ولا بالتمنيات ولا بالأقاويل!!! فكل هذه الأشياء لا تعني شيئا، بالنسبة للمسألة المثارة، ويبدو أن الجانب الليبي استسلم للأمر واقتنع بما أشار إليه أوكامبو، فتعاقدوا مع أحد مكاتب المحامين في بريطانيا لكي يتولى القضية الليبية أمام محكمة الجنايات الدولية، بعد أن وصلت _ أي هذه القضية - إلى مرحلة غاية في الصعوبة، والدقة وقد يكون الأمر فيها ميؤوس منه، والسبب في ذلك ليس لعامل قانوني أو قضائي أو موضوعي، بل لعامل الوقت، وما ينبئ عنه من دلالات، أي عامل الزمن، فقد انقضى من الوقت، ما تعتبره المحكمة، وقتا طويلا، وتنظر إليه على أنه تأخير غير مبرر، بينما الوقت والزمن لدى الجانب الليبي ليس له أدنى اعتبار، ولهذا فإن صراع المحامين، - إذا قبلوا القيام بهذه المهمة - إنما ينحصر في تبرير "حالة الشلل" التي انتابت السلطات الليبية في محاكمة سيف القذافي وغيره، ذلك لأن هذه السلطات ملزمة بموجب القانون الوطني والدولي، بالبت في مثل هذه القضايا، وعدم التأخير فيها، فإن لم تكن لديها القدرة أو الرغبة، في ذلك، كان عليها أن تحيلها إلى محكمة الجنايات الدولية، ولا تثريب عليها في ذلك، فلا تكليف بمستحيل!! وذلك لأن مضي مدة تقارب سنة من وقوع تلك الجرائم، دون أن تقوم السلطات الليبية بإجراء التحقيقات الضرورية، يعني بداهة أن هذه السلطات غير راغبة في إجراء هذه المحاكمة، كما ويدلل في الوقت نفسه أنها غير قادرة على الاضطلاع بمسؤوليتها في هذا الجانب، وهو الأمر الذي جعل المحكمة الجنائية الدولية تتصرف طبقا لما يقتضيه الضمير ونظامها الأساسي، وذلك باعتبار أن حالة الشلل تلك التي تتسم بها معالجة الجانب الليبي للمسألة، غير مبررة، ولا تفسير لها، ولهذا كان رفض المحكمة الجنائية الدولية للمسلك الذي اتبعته السلطات الليبية، صارما وواضحا، وهذا الرفض أيضا هو ما تقتضيه وتقرره أحكام معاهدة روما بشأن تشكيل المحكمة الجنائية الدولية،على نحو صريح، ‘إذ عالجت المادة 17 هذه المسألة بصورة مفصلة وواضحة بقولها"
1.      مع مراعاة الفقرة 10 من الديباجة والمادة 1 تقرر المحكمة أن الدعوى غير مقبولة في حالة:-
‌أ.   إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقاً غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك.
‌ب. إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، ما لم يكن القرار ناتجاً عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقاً على المقاضاة.
‌ج. إذا كان الشخص المعني قد سبق أن حوكم على السلوك موضوع الشكوى، ولا يكون من الجائز للمحكمة إجراء محاكمة طبقاً للفقرة 3 من المادة 20.
‌د.  إذا لم تكن الدعوى على درجة كافية من الخطورة تبرر اتخاذ المحكمة إجراء آخر.
2.      لتحديد عدم الرغبة في دعوى معينة، تنظر المحكمة في مدى توافر واحد أو أكثر من الأمور التالية، حسب الحالة، مع مراعاة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي:-
‌أ.  جرى الاضطلاع بالإجراءات أو يجري الاضطلاع بها أو جرى اتخاذ القرار الوطني بغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة على النحو المشار إليه في المادة 5.
‌ب.  حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يتعارض في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
‌ج.  لم تباشر الإجراءات أو لا تجري مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو بوشرت أو تجري مباشرتها على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
3.  لتحديد عدم القدرة في دعوى معينة ، تنظر المحكمة فيما إذا كانت الدولة غير قادرة ، بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني أو بسبب عدم توافره على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها ".
ويعتبر هذا النص، هو الفيصل في مسألة قبول الطعن الليبي من عدمه، أمام محكمة الجنايات الدولية، فإذا أثبتت السلطات الليبية أنها راغبة حقا في محاكمة سيف، وأنها قامت فعلا بالاضطلاع بمسؤولياتها القانونية والقضائية على نحو ملموس وفعال ومباشر، ليس فقط بالنسبة لقضية سيف، بل بالنسبة لغيره أيضا من المتهمين الآخرين، إذ لا يجوز الانتقاء من بين المتهمين، فإن محكمة الجنايات الدولية، ستعلن في حكم يصدر عنها أولوية القضاء الليبي بإجراء تلك المحاكمة، عملا بنص المادة الأولى من النظام الأساسي.
أما إذا رأت المحكمة أن الموقف الليبي من القضية، يتسم بالا مبالاة، أو بعدم الاهتمام، وأن تأخيرا غير مبرر يشوب هذا الموقف، حيال الإجراءات الواجب اتخاذها، أو ثبت للمحكمة أن الدولة الليبية غير قادرة على الاضطلاع بمسؤولياتها، بسبب انهيار نظامها القضائي كليا أو جزئيا، أو كانت غير قادرة لأي سبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها، فإن الطعن المقدم من السلطات الليبية في هذه الحالة، يصبح لغوا لا طائل من ورائه، ومن ثم كان مصيره الرفض، ومعنى ذلك أيضا أن القول الفصل في مسألة قدرة أو عدم قدرة الدولة الليبية في محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم منصوص عليها في المادة 5 من النظام الأساسي، يرجع إلى قضاة محكمة الجنايات الدولية، وليس لأي سلطة أخرى.
وفي جميع الأحوال، فإن الطعن الليبي في اختصاص أو مقبولية الدعوى أمام محكمة الجناي ات الدولية، وحتى لو افترضنا ثبوت قدرة ورغبة السلطات الليبية بالاضطلاع بمسؤولياتها، فإن المسألة مع ذلك تبقى صعبة ودقيقة ومعقدة، وذلك لأن الدعوى موضوع الطعن، محالة إلى محكمة الجنايات الدولية من مجلس الأمن، وهذه الإحالة في حد ذاتها قرينة على عدم قدرة السلطات الليبية على مباشرة مسؤولياتها حيال هذه القضية، وهذه القرينة غير قابلة لإثبات العكس، ومع ذلك يبقى طريق وحيد متاح أمام السلطات الليبية، في هذه الحالة، وذلك بالتقدم بطلب إلى مجلس الأمن، والحصول منه على قرار بإرجاء التحقيق أو المقاضاة عملا بالمادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة، ويكون التأجيل لمدة سنة قابلة للتجديد.
يضاف إلى ذلك أن التهم الواردة في لائحة محكمة الجنايات الدولية، تتعلق بأفعال غير منصوص عليها في القانون الليبي بذات الوصف الوارد في النظام الأساسي لمعاهدة روما، كالجريمة المرتكبة ضد الإنسانية مثلا، وهنا يصعب قبول الطعن الليبي في اختصاص محكمة الجنايات الدولية، حتى لو أثبتت السلطات الليبية أنها أصدرت " قانونا جنائيا " يتضمن الجرائم والأفعال المرتكبة ضد الإنسانية، لأنه حتى بصحة هذا الفرض، فلن تتم إدانة أي متهم ولو ثبت ارتكابه تلك الجرائم قبل صدور القانون الجديد والعمل به بعد نشره بمدة معلومة، وهذا مبدأ نص عليه قانون العقوبات الليبي الصادر سنة 1953 في مادته الأولى.
إن تناول السلطات الليبية ومعالجتها للجرائم المرتكبة ضد الليبيين، سواء قبل قيام ثورة فبراير أو أثنائها أو بعد التحرير، مشوب بالركاكة والهزالة والغموض!! وهناك من اعتبره تقصيرا متعمدا، بل أن تعطيل عمل المحاكم والهيئات القضائية، يشكل في حد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون الليبي الصادر سنة 1953، والتعطيل هنا ليس من العاملين أو أعضاء هذا المرفق، فهؤلاء لا يتصور منهم ذلك، إذ أنهم سبق وأن عملوا في ظل نظام عبثي فوضوي، فمن باب أولى أنهم لن يمتنعوا عن العمل في ظل النظام الجديد الذي لن يكون في درجة السؤ التي كان عليها النظام السابق، بل أنه إذا لم تكن في ليبيا قدرات فنية على صعيد القضاء، فلا بأس من الاستعانة بالخبرات والكفاءات العربية والأجنبية، وهذا ليس أمرا جديدا، فقد كان أغلب أعضاء الهيئة القضائية اللبيبة في السنوات العشرين التي تلت الاستقلال هم من الأجانب، وعرفت فيها العدالة، عصرها الذهبي في هذه الفترة!!
وتجب الإشارة هنا إلى أن كثيرا من الإجراءات والمواقف الدولية والإقليمية ستتحدد وتتبلور بصورة نهائية في ضوء الحكم الذي ستصدره محكمة الجنايات الدولية بشأن الطعن الليبي، فإذا كان هذا الحكم لمصلحة ليبيا، فإن الدول التي يتواجد بها عدد ممن يشتبه في ارتكابهم جرائم دولية، سوف يتم تسليمهم إلى ليبيا بصورة آلية، أما إذا حدث العكس، ورفضت المحكمة الجنائية الدولية، الطعن الليبي، فإنه وفي هذه الفرضية، لن تقبل أي دولة بتسليم أي شخص متواجد في أراضيها للسلطات الليبية، حتى لو كان من عتاة الإجرام والإرهاب، ومن هنا يجب على السلطات الليبية، بذل جهودا مخلصة في هذا السبيل، وذلك إذا كانت فعلا جادة وصادقة فيما تسعى إليه، ويقتضي الأمر منها، الشروع حالا في التحقيقات مع المتهمين، وإحالتهم للمحاكم المختصة التي يجب أن تعكف على متابعة هذه القضايا وعلى سبيل التفرغ، والمسألة في غاية السهولة واليسر من الناحية القانونية والعملية، فأغلب الجرائم المرتكبة موثقة ومسجلة، كما وأن الضحايا والمجني عليهم معلومون، وحالات الاغتصاب ثابتة على وجه الجزم، كما وأن الدمار والتخريب الذي لحق المدن والقرى شاهد على ذلك، وهذا كله لا يحتاج الأمر في إثباته والتدليل عليه، جهودا استثنائية من جهات التحقيق، وكان ينبغي القيام بكل ذلك، منذ شهور عديدة مضت، حتى نستطيع أن نثبت أمام العالم، أحقية القضاء الليبي في ممارسة سلطاته!!
والشيء العجيب الذي يثير الدهشة هنا، أن جميع مسؤولي السلطات الليبية عندما يتحدثون في أي شأن من الشؤون، يبدؤون حديثهم بالترحم على أرواح الشهداء، والتمني للجرحى بالشفاء، والدعاء للمفقودين بالعودة سالمين، ولكنهم في الجانب الآخر، لا يفعلون شيئا لمن تسبب في قتل الشهداء ولا في إيذاء الجرحى ولا في تشريد المفقودين، بل ولا يريدون لغيرهم أن يفعل شيئا من ذلك!!
ولو أن السلطات الليبية، قامت اضطلعت بمسؤولياتها، وقامت بخطوات ولو بصورة ظاهرية وجزئية ولكن في الوقت المناسب، ما كان لمحكمة الجنايات الدولية أن تطالب بإعمال إختصاصها التكميلي في الحالة الليبية، ولتركت الأمر للمرجع الطبيعي الأول، وهو القضاء الليبي، متى ما أثبت قدرته ورغبته على ذلك، وهذا هو ما حدث فعلا بالنسبة لقضايا مماثلة، إذ أحالت محكمة الجنايات الدولية بعض المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في منطقة دار فور السودانية إلى القضاء الوطني السوداني للفصل في تلك الجرائم، إيمانا من المحكمة الجنائية الدولية بإن القضاء السوداني يتمتع بقدرة وبوجود يؤهلانه للقيام بدوره في هذا الشأن.
وهنا نعود للسؤال الرئيس وهو من الأحق والأولى بمحاكمة سيف القذافي ؟؟ والإجابة بكل بساطة هو للقضاء الليبي متى كان قادرا وراغبا في ذلك، باعتباره القضاء الوطني للدولة المعنية، ولكن بشرط أن يثبت قدرته ورغبته وبأدلة ملموسة ووقائع ثابتة على ذلك. وإلا... كان الأولى والأحق بمحاكمة سيف، هو محكمة الجنايات الدولية، لأنها في هذه الحالة لا تستطيع أن تقف موقف المشلول أو المتفرج أمام الرأي العام العالمي إزاء جرائم هزت ضمير ووجدان المجتمع الإنساني كله، ومن ثم ستطلب فورا وبعد صدور الحكم مباشرة من السلطات الليبية التعاون معها، في كل ما له علاقة أو صلة بإجراءاتها وأعمالها، بما في ذلك تسليم سيف القذافي، وليبيا ملزمة بالاستجابة لطلب التعاون مع المحكمة، وإلا... فإن محكمة الجنايات الدولية، وعملا بالمادة (87-7) من النظام الأساسي ستحيل المسألة إلى مجلس الأمن لاتخاذ ما يلزم من إجراءات حيال امتناع السلطات الليبية عن التعاون مع المحكمة، وربما تتسبب السلطات الليبية، سواء كانت متعمدة أو عن جهل في تعريض المصالح الوطنية للخطر والضرر، بلا مبرر أو داعي، خاصة وليبيا مازالت إلى هذه اللحظة خاضعة للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ومن ثم، ينبغي على السلطات الليبية، أن تتعامل مع المسألة بالجدية والاهتمام، وفي إطار القانون والعقل والحكمة، وأن تدرك جيدا أنها هي "المسؤول الأول" فيما يترتب على موقفها السلبي وغير الصائب من نتائج، رغم التنبيه عليها مرات عديدة، لكن لا حياة لمن تنادي!! وربما لا يقتصر الأمر على تسليم شخص بعينه، أو حتى عشرة أشخاص، بل قد يطال الأمر أشخاصا آخرين بتهم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وحتى جرائم النقل أو الإبعاد القسري للسكان، فكل هذه الصور والنماذج الإجرامية، منصوص عليها في المواد5 و6و7 من النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، وهي جرائم، تعترف السلطات الليبية بمختلف مستوياتها بوقوعها، وهي بدلا من الالتزام بالقانون والخضوع له وتطبيقه التطبيق الأمثل، نراها وللأسف، تحاول معالجة الأمر عن طريق لجان الصلح وفض المنازعات القبلية وخارج نطاق القانون!! وبطريقة لا تتفق مع أقل وأبسط المعايير المعترف بها في مجال العدالة، وربما كان المبرر الوحيد لهذه السلطات، أنه لا وجود لمؤسسة القضاء في ليبيا، وأنه بافتراض صحة هذا المبرر، والتمسك به، ينفتح الطريق على مصراعيه، ليس فقط أمام محكمة الجنايات الدولية، بل لمختلف أشكال التدخل الأخرى.
فهل لا يوجد في ليبيا رجال دولة في وزن السيد محمود المنتصر أو في حجم السيد حسين مازق، أو في مستوى السيد عبد الحميد البكوش؟؟؟ وغيرهم ممن قادوا البلاد في أحلك الظروف وأسوأ والأوقات؟؟!! وصنعوا لنا من "العدم"، دولة مكتملة الأركان.. والحديث في ذلك يطول ولا ينتهي..
المحامي الدكتور علي أبو شنة الغرياني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق