الخميس، أبريل 05، 2012

الشهيد محمد فرج حمي.. مشهد انتصار... د. فتحي الفاضلي

يبدوا أن النضال السياسي، من اجل الوطن، كان قدرا من أقدار السيد محمد فرج حمي


في شهر مارس من عام 1980م، وعندما كان النظام في أوج تعنته وجبروته وطغيانه، وقف السيد محمد فرج حمي، في قلب مدينة طرابلس، يؤبن الشهيد عامر الدغيس، الذي قُتل تحت التعذيب، في معتقلات الطاغية معمر القذافي. السيد عامر الدغيس يُعتبر، في ذلك الوقت، العدو الأول للنظام المنهار، ولذلك يعتبر موقف السيد محمد حمي، من أعظم المواقف تحديا لأعتى الطغاة وأكثرهم بطشا وعنفا وتنكيلا.




بعض من أفراد أسرة الشهيد محمد حمي، من اليمين السيدة سلوى، السيدة يسرى، والسيد مروان حمي ودرع التكريم للشهيد، استلمه أفراد الأسرة أثناء احتفالية الشهيد عامر الدغيس في مدينة طرابلس
وبعد اثنين وثلاثين عاما، من الموقف الذي صنعه السيد حمي، وبالتحديد في شهر مارس من عام 2012م، شاركت كريمتان من كريمات السيد حمي (سلوى ويسرى)، ونجل من أنجاله (مروان)، في احتفالية الشهيد عامر الدغيس، في مدينة طرابلس أيضا. وقف أفراد أسرة السيد محمد حمي مشاركين ومساهمين ومتحدثين في احتفالية الشهيد عامر الدغيس، بل واستلم أفراد الأسرة درعا، تكريما لوالدهم السيد محمد حمي... جسدت مشاركة أسرة السيد حمي، في احتفالية الشهيد عامر الدغيس، معاني العبرة والوفاء والانتصار، انتصار لشعب، وهزيمة لطاغوت، وبينت، هذه المشاركة التاريخية، وبوضوح، كيف يرد الوطن الاعتبار، لمن ضحى من اجل الوطن.

صورة تاريخية جمعت أفراد من أسرتي الشهيدين عامر الدغيس ومحمد حمي التقطت أثناء احتفالية الشهيد عامر الدغيس في شهر مارس من عام 2012م. ويظهر على اللوحة في الخلف صور الشهيد عامر الدغيس

فمن هو السيد محمد فرج حمي؟ من هو الرجل الذي تعرض للاعتقال السياسي في عهد الإدارة الانجليزية، وفي العهد الملكي، وفي العهد الطاغوتي، ولنفس السبب: حبه للوطن وأهل الوطن.
ولد الأستاذ محمد فرج حمي، في مدينة بنغازي في عام 1921م، وعاش في نفس المدينة. التحق منذ طفولته بإحدى المدارس القرآنية، فحفظ أجزاء من القرآن الكريم، ودرس منذ صغره، اللغة العربية والفقه والحديث. التحق بعدها بالمدارس المدنية الابتدائية. وبذلك يكون السيد حمي قد تعرض، ومنذ نعومة أظافره، إلى نور كتاب الله وآياته وأحاديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكانت لهذه الحقبة تأثيرها الكبير الايجابي على حياة السيد حمي، خاصة وان والده السيد فرج حمي، كان شيخا لأحدى الطرق الصوفية وللزاوية العيساوية ببنغازي. تزوج السيد محمد فرج حمي من السيدة شهوير جلال طاطاناكي، والتي أنجبت له كل من السادة: أحمد وجلال وعلي ومروان، والكريمات: سلوى ويسرى ومبروكة.
نماذج من حياته المهنية:
مارس السيد حمي العديد من اشرف المهن والوظائف والأعمال. وكان حريصا على اختيار المهن التي تيسر له الاتصال والتعامل المباشر مع الناس. كان وبكل اختصار يختار المهنة التي تعود بالفائدة على الوطن، قبل أن يختار المهنة التي تعود عليه وعلى أسرته بالفائدة. وكان لا ينظر إلى العمل أو المهنة أو الوظيفة، كمصدر للرزق وحسب، بل كان ينظر إليها كمسؤولية ورسالة وواجب وأمانة، مما جعله يبدع ويتقن ويوفي حق جميع المهن والوظائف والأعمال التي مارسها.
التحق السيد محمد بمجال التربية والتعليم، فعمل كمدرس ومشرف في مدارس بنغازي، ثم ابعد عن مدينة بنغازي، بسبب نشاطاته السياسية، فعمل كمشرف في مدارس الأبيار. وكعادته، نظر السيد حمي إلى مهنة التعليم، ومجال التعليم بصفة عامة، كرسالة، فكان متميزا في أدائه، وكان اقرب إلى الأب والمربي والأخ، منه إلى المدرس الذي يُلقن الدروس الجافة، وينصرف عند انتهاء الدوام، بل كان، مرة أخرى، أبا يغرس في النفوس القيم.
التحق السيد حمي بعد ذلك بالديوان الملكي بمدينة طبرق، كأمين لمكتبة الملك محمد إدريس السنوسي رحمه الله. وفعلا استحق لقب "الأمين"، فلم يكن أمينا على المكتبة والكتب فقط، بل كان أمينا أيضا، مع الملك محمد إدريس السنوسي (رحمه الله)، بالرغم من الاختلافات السياسية الهائلة بين رؤى الملك السياسية، ورؤى السيد محمد حمي - بالرغم من تلك الاختلافات - كان السيد حمي ينافح عن الملك إدريس (رحمه الله)، ويدافع عنه في أمور ومواقف وسلوك رائها بأم عينيه، وكان في مقدوره أن لا يفعل، انتصارا لمدرسته السياسية، فجسد بذلك قيم العدل والأمانة والإخلاص.
وعين السيد محمد حمي كمسجل عام للجامعة الليبية، بمدينة بنغازي في عام 1957م، فكان بذلك أول مسجل للجامعة الليبية ببنغازي. ولم يختلف أداء السيد حمي في عمله كمسجل، فقد حول مكتبه، إلى منصة لخدمة أبناء ليبيا، حيث قدم من خلال موقعه كمسجل، السند والدعم والعون لطلبة وطالبات ليبيا. قدم العون لأبناء ليبيا، بدون من أو أذى، بل بكرامة ورحابة صدر وتكريم.
افتتح السيد حمي بعد ذلك، مكتبا قانونيا لتحرير العقود، فكان مرة أخرى، أمينا، مبدعا، متقنا لعمله، حافظا لخصوصيات وأسرار الناس، وحيثيات أمورهم وأعمالهم وقضاياهم. بل حول السيد حمي مكتبه القانوني إلى موقع أخر، من مواقع البذل والإتقان والعطاء.

شيء من مساهماته الثقافية والاجتماعية:
عبر رحلة حياته، والتي ازدحمت بشتى التجارب والمواقف الصعبة والمحن، حرص السيد محمد حمي ـ عبر هذه الرحلة ـ على التزود بشتى المعارف والمعرفة والعلوم. فغرف من شتى منابع الثقافة أينما وجدها. استمر السيد محمد في الجهاد الثقافي، حتى أصبح من رواد الثقافة في ليبيا، فامتزجت فيه صفات القيادة، مع الثقافة، مع حب الناس وحب الوطن. فأصبح بذلك من الشخصيات القيادية المؤثرة في الأفراد والمجتمع. كما أتقن، عبر جهوده الذاتية، اللغة الايطالية، والتي نجح في توظيفها في الاطلاع على مصادر الثقافة الايطالية، بل كان السيد محمد حمي، على اتصال مع الكاتب الايطالي العالمي، البرتو مورافيا.
ومن نشاطاته الثقافية والصحفية أيضا، أن ساهم السيد محمد حمي، في إصدار صحيفة "الأيام"، في عام 1964م، والتي كانت تمثل، في ذلك الوقت، الخط القومي التقدمي في ليبيا. كما ساهم السيد محمد فرج حمي، بجانب السيد مصطفى بوستة، في تأسيس نادي الهلال الرياضي الثقافي الاجتماعي، بل وأصبح، في فترة من الفترات، رئيسا لمجلس إدارة النادي. ويعتبر نادي الهلال احد المعالم الحضارية الرئيسية لمدينة بنغازي. فالنادي يعتبر وبدون شك، صرحا ثقافيا ورياضيا واجتماعيا، وجزء من ماضي وحاضر ومستقبل مدينة بنغازي. ومن إبداعات السيد حمي، أثناء ترأسه لمجلس إدارة النادي، أن أسس مدرجا خاصا بالنشاطات الثقافية، واعتبر العديد من المثقفين والكتاب والأدباء، إن هذه الخطوة أو البادرة تعتبر سبقا تاريخيا في تاريخ النوادي الرياضية في ليبيا. فساهم هذا الصرح (نادي الهلال) في نشر الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي في ليبيا، وذلك من خلال العديد من الأنشطة الثقافية كالندوات والمحاضرات والأمسيات الأدبية والشعرية والمسابقات والمسرحيات ومختلف النشاطات الثقافية الأخرى. كما نشر السيد حمي أعماله الأدبية والثقافية، ومقالاته السياسية، في مجلات وصحف عديدة، من بينها: الضياء، وليبيا، والنور، وغيرها من المطبوعات والصحف والمجلات.
نذكر من أعماله الراقية، على سبيل المثال، مقالا بعنوان "للفكرة البقاء"، نُشر في عام 1957م، في العدد الخامس من مجلة "النور"، والذي صدر بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد شيخ الشهداء عمر المختار، وسيجد القارئ الكريم، النص الكامل لهذا المقال مع هذا العرض.
ولكي يدرك القارئ الكريم، وزن ومستوى وقيمة ومدى تأثير مجلة النور، ورقي كتابها وجدية المواضيع التي تم تغطيتها في ذلك العدد، الذي شارك فيه السيد محمد حمي بمقاله المذكور(للفكرة البقاء)، لكي يدرك القارئ الكريم كل ذلك، نورد فيما يلي عناوين المقالات وأسماء الكتاب، الذين ساهموا في العدد المذكور، وهم جميعا، وكما سيلاحظ القارئ الكريم، من عمالقة الحركة الوطنية في ليبيا. فنجد من المقالات ومن الكتاب، في ذلك العدد، ما يلي: افتتاحية العدد بعنوان: مع الجهاد الليبي والثورة الجزائرية كتبها (السيد محمد بشير المغيربي)، مقال عمر المختار- ترجمة حياته (محمد مصطفى بازامة)، إيديولوجية عمر المختار (علي محمد عميش)، قصيدة من اجل الشعوب (خالد زغبية)، نظرات في البطولة (م.م.ب)، حركة الجهاد الليبي (عبد المولى دغمان)، حصاد المعركة (سالم ابوقعيقيص)، شخصية عمر المختار وأثرها (احمد محمد العنيزي)، للفكرة البقاء (محمد حمي)، قصيدة في ذكرى عمر المختار (محمد محمد المطماطي)، الأدب الشعبي في المعركة (مفتاح أمبارك الشريف)، عمر المختار الزعيم الثائر (محمد دغيم)، الظروف الدولية والحلقة الأخيرة من الجهاد (منصور رشيد الكيخيا)، الحرب الليبية الايطالية أسبابها ونتائجها (محمد محمد مهلهل)، عمر المختار وجراسياني (إبراهيم ادهم الرفاعي)، نم قرير العين يا عمر (يوسف الدلنسي)، من أثار المختار: الشهيد الكبير يرد على رسائله (ترجمة).
لم يتوقف نشاط السيد حمي الثقافي والاجتماعي عند هذا الحد، فما سبق ذكره، كان قطرة في بحر، فقد كان السيد حمي من أعمدة الحركة الكشفية في ليبيا، بل كان من مؤسسى الحركة الرئيسيين، واحد أعضاء أول مجلس إدارة للحركة الكشفية الليبية. جاء في صحيفة "الوطن"، الصادرة في السادس عشر من شهر أكتوبر، من عام 1947م، على لسان المركز العام لجمعية عمر المختار، بخصوص تكليف أعضاء مجلس إدارة حركة الكشافة الليبية، جاء في الصحيفة المذكورة، ما يلي:
~ رأى المركز العام لجمعية عمر المختار، استجابة لرغبة كثير من الشبان، أن يقوم بتأسيس الكشاف الليبي، أو بالأصح أن يعود إلى فكرة تأسيس الكشاف، بعد أن حاول ذلك في منتصف 1944م، ولكن ظروفا خاصة حالت دون ذلك، وقد دعا السكرتير العام كثيرا من الشباب إلى الاجتماع به في قاعة المركز العام، حيث شرح لهم فكرة الكشاف، فلاقت الفكرة كل قبول، وبإشراف الجمعية في الإعداد والتنظيم، لإخراج الفكرة إلى حيز الوجود، فبعثت بإشعار الإدارة العسكرية، وتلقت ردا منها تحبذ الفكرة، واستعدادها لتقديم مساعدتها. وقد أرسلت جمعية عمر المختار، إلى المركز العام للكشاف العالمي في لندن، يطلب انتساب كشافها إليه، وينتظر أن يصل الرد قريبا. وقد اجتمع المنتسبون واجروا انتخابا لمجلس إدارة الكشاف، أسفر عن انتخاب السادة: علي أفندي بوقعيقيص. محمود أفندي الشريف. محمد أفندي حمي. سالم أفندي مخلوف. الصالحين أفندي زواوه. خليفة أفندي بسيكرى. ومن المقرر إن يعين المركز العام الرئيس وعضوين في مجلس الإدارة.} ذلك كان غيض من فيض من مساهمات السيد حمي في المجال الثقافي والاجتماعي.
بعض من أرائه ونشاطاته السياسية ومواقفه الوطنية:
كان السيد محمد حمي من المطالبين بإطلاق الحريات العامة، ومن الداعين إلى حفظ وحماية حقوق الإنسان كاملة، كما كرمه الله تعالى. وكان أيضا من الداعين إلى الدفاع عن وحدة البلاد، واستقلالها، ومناصرة القضايا العربية أينما كانت (ليبيا، الجزائر، فلسطين..). ومكافحة الاستعمار، والدعوة إلى وحدة الأمة العربية، والعمل من اجل حرية أمته، وترسيخ الأمن والعدل والعدالة والأمان.
لقد بدأ السيد حمي نضاله السياسي منذ الثلاثينات، أي منذ شبابه، فقد كان عضوا بارزا في جمعية عمر المختار، والتي تأسست في عام 1942م. وكان من أهدافها القضاء على النفوذ الأجنبي، وتحقيق الاستقلال، والوحدة الليبية، والانضمام إلى الجامعة العربية. صعد السيد محمد حمي نضاله السياسي، من اجل استقلال ليبيا، فتعرض للاعتقال أثناء حكم الإدارة العسكرية البريطانية (1943م-1951م) بسبب وطنيته ونشاطه وقوة تأثيره على الجماهير.
وفي بداية الستينيات، انتسب السيد محمد حمي، إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، بل وكان من عناصره القيادية البارزة. وقد تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في ليبيا في أوائل الخمسينيات، وكان من ابرز مؤسسيه الأستاذ عامر الدغيس والأستاذ منصور الكيخيا وقادة بعثيون آخرون.
ولم تكن مسيرة الحزب في ليبيا مسيرة سهلة ميسرة. فقد تعرض الحزب لانتكاسات وحملات تصفوية دموية عنيفة، استهدفت الحزب وقادته ومنتسبيه أثناء العهد الملكي وأثناء العهد العسكري. فقد ضُرب الحزب في عام 1961م (أثناء العهد الملكي) واعتقل مؤسسوه وقياداته وأعضاؤه وسجنوا لفترات مختلفة. ثم جُمد الحزب عام 1966م، وتوقف عن ممارسة نشاطه لأمور داخلية، تتعلق بمسيرة الحزب. وتعرض الحزب بعد ذلك إلى حملة رئيسية أخرى عام 1980م (أثناء العهد الطاغوتي العسكري) تعرض قيادات الحزب فيها إلى تصفية دموية عنيفة، سنتحدث عنها فيما بعد.
اعتقل السيد محمد فرج حمي ضمن حملة الاعتقالات التي استهدفت حزب البعث في عام 1961م (في العهد الملكي). وتمت محاكمته مع باقي أعضاء الحزب. ونشر منطوق الحكم في صحيفة "الرقيب"، وهي صحيفة سياسية وطنية جامعة. نشر منطوق الحكم، تحت عنوان "صدور حكم محكمة الجنايات بطرابلس على المتهمين بالانتماء إلى حزب البعث". ونورد فيما يلي، جزء من منطوق الحكم، كما ورد في العدد المذكور، تقول الصحيفة:
"صدر يوم السبت الموافق 3 فبراير1962م، عن محكمة الجنايات بطرابلس الغرب، الحكم في قضية الاتهام الذي وجه إلى بعض الشباب، بإدارة نظام حزب بعثي في ليبيا. واعتبرت الواقعة جنحة وليست جناية. هذا وقد كانت أقصى عقوبة بالسجن هي التي نزلت بحق كل من عامر الدغيس، صالح الصيد الشريف، تاج الدين موسى، وهي بالحبس مع الشغل لمدة سنتين وثمانية أشهر، كما حكمت المحكمة على عبد الله شرف الدين، إبراهيم الهنقاري، سعدون حمادي، فريد اشرف، محمد حمي، ناصر العوري، بالحبس مع الشغل لمدة سنة واحدة". واصلت الرقيب بعد ذلك، نشر باقي منطوق الحكم، فذكرت منطوق الأحكام، في حق باقي المتهمين.
كما لعب السيد حمي، دورا مركزيا تجاه قضية التحرير الجزائرية، وتجاه القضية الفلسطينية. وكان له دورا فعالا في إحياء القضيتين في ليبيا، ودورا رئيسيا في تشكيل هيئات أهلية خيرية، من اجل توعية الجماهير وتعبئتها في صالح الشعبين والقضيتين، بالإضافة إلى نضاله السياسي من اجل ليبيا والليبيين. وكان السيد احمد بن بلا، احد قادة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، على علاقة وطيدة بالسيد محمد حمي، بل وتواترت الأخبار بان السيد احمد بن بلا، عضو جبهة التحرير الجزائرية، ثم رئيس الجزائر السابق (1962م-1965م)، كان يقيم في بيت السيد حمي، عند تواجد الأول في مدينة بنغازي، وذلك أثناء حرب التحرير الجزائرية. كما كان السيد محمد حمي، على علاقة وطيدة أيضا بقادة حركة التحرير الفلسطينية (فتح).
لم يتوقف السيد حمي عن أداء دوره الوطني السياسي، تجاه ليبيا، وتجاه وطنه العربي، على ما سبق، بل يبدو أن النضال السياسي، من اجل الوطن، كان قدرا من أقدار السيد محمد حمي، فقد وقف ضد النظام العسكري الفاشي، وتصدى لترهات معمر القذافي مبكرا، وكان من رواد المقاومة السياسية، ضد النظام المنهار، فاُعتقل في حملة ابريل من عام 1973م (أثناء العهد العسكري)، وبالتحديد عقب خطاب زوارة في 15 ابريل 1973م، وقضى في السجن بضعة شهور. تعرض أثنائها وبعدها إلى شتي صنوف الترغيب والترهيب، من اجل أن ينضم إلى النظام الطاغوتي، لكنه رفض جميع الإغراءات وقاوم جميع صنوف الإرهاب، وثبت على مواقفه الوطنية.
شيء من مواقف الشهيد:
صنع السيد حمي عشرات المواقف الوطنية والاجتماعية والسياسية، سأذكر منها بعض الأمثلة التي تضمنت كم هائل من التحدي الاستفزاز والتصدي للنظام الطاغوتي المنهار. مواقف نسوقها، فقط، على سبيل المثال لا الحصر، مواقف نلمس فيها وبوضوح جراءة الرجل ووفاؤه وشجاعته. ونلمس فيها أيضا، وبكل سهولة، عناده في الحق، من اجل الحق.
فعندما كان زبانية النظام، يلقون بالقنابل المسيلة للدموع على الطلبة، أثناء مظاهرات الطلبة في عام 1976م، في مدينة بنغازي، تلك المظاهرات السلمية التي تصدت لها قوات الصاعقة، وتصدى لها الحرس الجمهوري، ورجال الأمن. في تلك الأيام العصيبة، فتح السيد حمي بيته للشباب المتظاهرين، والذين تضرروا من مؤثرات القنابل المسيلة للدموع، ووفر لهم كميات هائلة من المياه في بيته، وذلك لمعالجة وإزالة أثار الغازات المسيلة للدموع. فكان الشباب المشاركين في تلك الصدامات، مع الحرس الجمهوري، يتقاطرون على بيت السيد حمي، ينطلقون بعدها إلى المظاهرات لمواصلة احتجاجاتهم ضد الطاغوت. وللقارئ الكريم أن يتخيل حجم التحدي الذي جسده هذا الموقف بالنسبة لنظام ارعن أحمق إرهابي جبان.
لم يكن هذا الموقف، الذي جسد صفات الشجاعة والجراءة والوفاء، الموقف اليتيم للسيد حمي، بل فتح السيد محمد حمي بيته لاستقبال المعزين في الشهيد محمد دبوب، أول ضحية من ضحايا الإرهاب، من الذين شنقوا علنا في السابع من شهر ابريل من عام 1977م، في ميدان (الكاتدرائية) بمدينة بنغازي. كان الرعب في تلك الأيام يلف المدينة، فقد كان النظام في أوج طغيانه وعنفه وجبروته، وكان الشهيد دبوب يمثل بالنسبة للنظام "العدو الأخطر". وكان مجرد التعاطف النظري مع الضحية جريمة لا تغتفر. السيد حمي لم يتعاطف مع الضحية وحسب، بل فتح بيته لتلقي العزاء في الشهيد محمد دبوب، قمة الجراءة والشجاعة وقمة التحدي والاستفزاز لنظام لا يعرف للرحمة معنى ولا سبيلا.
السيد حمي قام، أيضا، وكما اشرنا أعلاه، بتأبين الأستاذ عامر الدغيس (رحمه الله) أثناء تشييع جنازة الأخير بمدينة طرابلس، وهذا أمر يمثل في ذلك الوقت، قمة التحدي وقمة الوفاء أيضا. الشهيد عامر الدغيس، يفترض انه العدو اللدود للنظام الطاغوتي، فتأبينه يعتبر وبدون شك، تحديا سافرا للنظام القائم. النظام الطاغوتي كان يهدد ويتعقب ويحاكم كل من تسول له نفسه مجرد الدعاء لضحايا النظام. ليس ذلك فحسب، بل قام احد أذيال النظام بصفع فتاة (طالبة)، فقط لأنها فقدت وعيها (أغمي عليها) عندما شاهدت ممارسات الكلاب المسعورة ضد الشهيد مصطفى النويري. من تأرجح في الجثة وجرجرتها وركلها. لم تحتمل الطالبة المشهد والممارسات السادية، لأنها من البشر، ولأنها إنسانة. لم تحتمل المشهد فأغمي عليها، فانهال عليها احد الكلاب المسعورة من أعوان النظام، صفعا وركلا وضربا. النظام المنهار كان ينكل حتى بالأئمة الذين يصلون على الموتى من أعداء النظام، أو تسول لهم أنفسهم مجرد الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة. السيد حمى لم يكتف فقط بالمشاركة في الجنازة، أو بالدعاء للضحايا، بل قام علنا بتأبين الشهيد الدغيس. شخصيا اعتبر هذا الموقف، يجسد حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد عند الله، كلمة حق في وجه سلطان جائر، أي أن هذا الموقف يجسد اعلى طبقات الجهاد بإذن الله.
دعها تبكي يا جلال:
اعتقل السيد محمد حمي، مرة أخرى، في شهر مارس من عام 1980م. بعد قيامه بتأبين الشهيد عامر الدغيس. وأخذت السيدة سلوى محمد حمي، كريمة السيد محمد حمي، تبكي بحرقة، عندما كان ستة من رجال الأمن المدججين بالسلاح يقتادون والدها الكريم من بيته إلى مقر الأمن الداخلي بمدينة بنغازي. وتروي السيدة سلوى، واقعة اعتقال والدها، وملابسات تلقي واستقبال خبر استشهاده، فتقول بحزن وألم واسى:
اقتادوه عند الساعة الثانية ظهرا، ثم عادوا به في اليوم التالي، عند الساعة الرابعة مساء، وفتشوا المنزل تفتيشا دقيقا، وعبثوا بخصوصيات ومحتويات مكتب والدي، واستولوا على أوراقه ودفاتره ومطبوعاته. وكانوا، أثناء عملية التفتيش، يصطحبونه من ركن من البيت إلى ركن أخر، يبحثون عما يمكن استخدامه في توريطه.
لم تكن واقعة اعتقال والدي، هي الواقعة اليتيمة، لكنني أحسست أنها الأخيرة. لذلك انهمرت بالبكاء، بينما كان والدي يهبط من السلم الداخلي للبيت. فخاطبني شقيقي الأكبر جلال، قائلا: لماذا البكاء، إنها ليست المرة الأولى على أية حال، عندها التفت والدي، وخاطب جلال قائلا: "دعها تبكي يا جلال". لقد أحس أبي، أيضا، أنها المرة الأخيرة، وانه ربما لن يعود إلى بيته وأسرته حيا.
وتواصل سلوى حديثها قائلة: عندما رأيت والدي يهبط من السلم، شعرت انه هابط كجثة، وأنني لن أراه بعد الآن. لقد اقتيد والدي إلى مقر الأمن الداخلي بمدينة بنغازي، ثم نقل بعد يوم واحد فقط، إلى مدينة طرابلس. وسجن في منزل خلف سجن الجديدة. وبعد خمسة أسابيع تقريبا، من واقعة الاعتقال، شاهدنا سيارة أمام بيتنا، هبط منها عمي، السيد محمود حمي، وكان يبدوا عليه الارتباك والحزن الشديد والإرهاق. كان وبكل اختصار، في حالة يرثى لها. اقترب عمي من باب بيتنا، وهو على هذه الصورة، فأدركت والدتي، أن السيد محمود، قد جاء بخبر لا يسر. فبادرته والدتي مستفسرة عن المتوفى الذي جاء ليبلغ عن وفاته. هكذا بادرته أمي، قبل أن ينطق بحرف واحد. وفعلا صدق حدس والدتي، فقد ابلغنا عمي بضرورة توجهنا غدا (أي في اليوم التالي) إلى مقر الأمن الداخلي، عند الساعة التاسعة صباحا، لاستلام جثة والدي. لم يتجرأ أعوان النظام، على إبلاغنا مباشرة، بل ابلغوا بيت عمي، تفاديا لرد فعل أسرتنا المباشر، وتفاديا للمواجهة مع الأسرة.
مرت أسرتي قبل سماعنا لهذه الفاجعة، بأسوأ يومين، منذ اعتقال المرحوم. فقد هبطت على البيت صغارا ومكانا وكبارا، حالة غريبة من الهم والكآبة والغم، حتى أن والدتي، كانت تتساءل، عن سبب إغلاق نوافذ البيت، وكانت تطالب بفتحها، وزيادة الإضاءة، وتهوية البيت بصورة دائمة. وقد علمنا فيما بعد، عن طريق السيد حسن اطلوبة، قائد الطائرة التي نُقل على متنها التابوت من طرابلس إلى بنغازي. اخبرنا السيد اطلوبة، بان الجثة قد وصلت إلى مدينة بنغازي منذ يومين. وانه اخذ، منذ وصوله، يدور حول البيت (بيتنا)، عله يرى جنازة أو عزاء فيدرك أن السلطات قد أبلغت الأسرة. وهكذا بقدرة الله، علمنا سر الحالة العجيبة من الغم والكآبة والهم، التي انتابتنا جميعا، وفي نفس الوقت، الوقت الذي اسلم فيه والدي روحه الطاهرة إلى بارئها.
تواصل السيدة سلوى حديثها المحزن، قائلة: اتجهنا في اليوم التالي، عند الساعة التاسعة صباحا، إلى مقر الأمن المركزي، لاستلام الجثة، ولكننا منعنا من ذلك، وطلب منا، بدلا من ذلك، التوجه إلى مستشفى الجمهورية، لاستلام الجثة من المستشفى، عندما يحين وقت الدفن (بعد العصر)، بدلا من استلامها من مقر الأمن المركزي. لم أتمالك نفسي عندما علمت بأننا لن نستلم الجثة ففقدت وعيي مباشرة. ثم اخبرني أخي جلال، بأنهم وجدوا المئات، ممن سمعوا الخبر، ينتظرون استلام الجثة أمام المستشفى، لتشييعها ومرافقتها والمشاركة في دفنها، تكريما للسيد حمي. وبينما الجميع في انتظار تسليم الجثة، إذ بباب المستشفى يفتح على مصراعيه، وإذا بسيارة عسكرية تحمل التابوت، وعليها ستة من رجال الأمن المسلحين، كانوا يرتدون الملابس العسكرية، فخاطبونا قائلين: لن نسلم الجثة، ونحن متجهون بها إلى المقبرة مباشرة (مقبرة سيدي أعبيد).
استجدى بعض الحضور المسئول الأمني بان يسمح لأحد أقرباء الضحية بمرافقة الجثة، فرفض ذلك. وهكذا انطلقت السيارة إلى المقبرة، تحت الحراسة المشددة، حتى لا يقوم احد من أهل الضحية، أو من الناس عامة، بفتح التابوت، والكشف على الجثة. وعلى أية حال، فان الامتناع عن تسليم الجثة، يعتبر دليلا على وجود أثارا للتعذيب، بل دليلا على أن الجثة قد تعرضت إلى تشويه بشع يصعب إخفائه.
كانت جنازة والدي، مظاهرة عكست كراهية الشعب الليبي للنظام الطاغوتي المنهار، وعكست أيضا مكانة والدي في قلوب الناس. وبعد الانتهاء من الدفن، اخبرنا احد الإخوة الذين ساهموا في تسوية الجثة في القبر، بأنه تحسس شيء من الدماء، كانت تسيل من الجثة. وبعد الانتهاء من الدفن، توجه ألاف المعزين إلى بيتنا. كما اخذ جموع المعزين يتوافدون على بيتنا ولمدة ثلاثة أيام متتالية، دون كلل أو توقف أو ملل.
وضاعف من ألآمنا، أن أرسل النظام الطاغوتي المنهار، إلى بيتنا، احد مواطني مدينة أوجلة، في استخدام وقح للقبلية والقبيلة والجهة. ليسلمنا شهادة الوفاة، ويسلمنا أيضا التقرير الطبي الشرعي، والذي جاء فيه أن سبب الوفاة، هي مجموعة من الأمراض، كان الضحية مصاب بها، والتي من بينها، كما جاء في التقرير المزيف، أمراض الضغط والسكر وأمراض باطنية أخرى. كاد أخي جلال أن يعتدي على الرجل بالضرب، عندما اطلع على التقرير، ولكنه توقف، بعد أن أدرك أن الرجل ربما يكون قد اجبر على ذلك.
لقد عانت أسرتي من معمر القذافي ونظامه المنهار معاناة لا حدود لها. فنحن أسرة تمقت النظام الطاغوتي حتى النخاع. فعلى سبيل المثال، مرت أسرتنا بظروف مادية صعبة جدا، وفقدت والدتي بصرها بعد موت والدي، كما تم استدعاء أخي احمد، من دورته الدراسية في كندا، لأنه يحمل اسم "حمي"، وطُلب منه الحضور إلى ليبيا في خلال 48 ساعة، وعندما وصل إلى ليبيا، حُجز جواز سفره، لمدة ستة سنوات، وحُرم من المنحة، وحرم من الدراسة، ومنع من السفر، ومن التجارة، ومن العمل. كما أصيب نجل أخي جلال، بطلقة، أثناء مذبحة القنصلية الايطالية، في مدينة بنغازي، عام 2006م. وقد اخترقت رصاصة بطنه وخرجت من ظهره. واضطرت أختي، السيدة مبروكة، إلى طلب اللجوء إلى سويسرا، وأصيب ابن أخي مروان، بالايدز، ضمن من أصيبوا من فلذات أكباد الوطن. وسجن السيد عصام أمساعد، زوج أختي، ثم طلب اللجوء بسويسرا، وعندما جاء تنسيق أخي علي، تبع الكلية العسكرية، طُرد من الكلية، لأنه يحمل اسم "حمي".
وتختم السيدة سلوى حديثها قائلة بحزن عميق: كانت أمنيتي أن يشيع جثمان أبي من بيتنا، وكم حزنت، عندما لم يتحقق ذلك. لقد سبب لي عدم خروج جثمان أبي من بيتا إلى المقبرة، حرقة إلى يومنا هذا.
كيف قتل الشهيد محمد حمي:
تواترت الأخبار على أن الشهيد محمد حمي قد عذب عذابا شديدا، معنويا ونفسيا وجسديا، وتواترت الأخبار أيضا على أنه أصيب بالشلل من شدة وبشاعة التنكيل والتعذيب. واستمر زبانية النظام الطاغوتي المنهار في تعذيبه، حتى بعد إصابته بالشلل، إلى أن استشهد بين أيديهم في الخامس من ابريل من عام 1980م.
شاهد عيان على مقتل السيد حمي:
يروي السيد أسامة هلال، احد أنجال الشهيد محمد هلال، والذي قضى هو الأخر (الوالد) بين أيدي زبانية الطاغوت، يروي ملابسات وفاة الشهيد محمد حمي في المعتقل فيقول: مازلت أذكر ما سمعته من والدي (الشهيد محمد هلال)، عندما كان يحدثني عن واقعة وفاة الشهيد محمد فرج حمي، في احد الزيارات النادرة التي سمح بها النظام في عام 1981م. فقد اخبرني المرحوم والدي، أن أعضاء طاقم التعذيب، كانوا يأتون بطبيب بعد انتهاء نوبة التحقيق أو بالأحرى التعذيب، وكانت نوبات كثيرة، وخاصة في شهر مارس من عام 1980م. كانت مهمة الطبيب تتلخص في تحديد مدى تحمل الضحية لمزيد من التعذيب أو عدم استطاعته ذلك. وكان الطبيب يترك على باب غرفة الاعتقال، من الخارج، أو على حائط الغرفة، تقريرا يحدد إمكانية "تحمل" أو "عدم تحمل" الضحية لمزيد من التعذيب. فإذا كان التقرير يقول أن المتهم غير قادر على تحمل المزيد من التعذيب، كان الضحية، يترك لفترة بدون تعذيب، إلى أن يستعيد بعض قواه، فيواصل الزبانية معه جحيم التعذيب.
وفي يوم من أيام مطلع شهر أبريل من عام 1981م، اجرى احد الأطباء كشفا على بعض المعتقلين، من بينهم الشهيد محمد حمي، والشهيد محمد هلال، والمرحوم بشير بن كورة. وعند انتهاء الطبيب من الكشف، خرج من غرفة التعذيب، ووضع تقريرا على غرفة والدي وغرفة المرحوم بشير بن كورة، يفيد بعدم إمكانية احتمالهم لمزيد من التعذيب، ولكنه لم يضع تقريرا على باب غرفة السيد حمي، فاستمروا في تعذيبه طوال الليل تقريبا. وعند الفجر شاهدهم والدي، من خلال النافذة، وهم يجرون جثمان الشهيد محمد حمي، بعد أن فارق الحياة تحت التعذيب.
المتورطون في مقتل السيد محمد حمي:

تورط، بالإضافة إلى النظام الطاغوتي المنهار، قادته وجنده ورجاله وأعوانه، وبالإضافة أيضا، إلى الأفراد المنفذين الذين مات بين أيديهم، تورط في اعتقال وتعذيب وقتل الشهيد محمد حمي، كل من: عبد السلام الزادمة (رئيس لجنة التحقيق)، وسعيد راشد خيشة (نائب الرئيس)، واحمد إبراهيم، وعمار الطيف، ومصطفى الزائدي، ومعاوية الصويعي، وبشير أحميدة، وعز الدين الهنشيري، وميلاد الفقهي، ومحمد المجذوب.
وهكذا فقد الوطن رجلا من خيرة أبناء الوطن، رجل احترق منذ شبابه، من اجل الوطن، فرحم الله الأستاذ حمي، رحمة واسعة، ورحم الله أبناء ليبيا البررة، ضحايا الظلم والتخلف والإرهاب. ونسأله سبحانه وتعالى أن يتغمدهم برحمته، وان يلتقوا بأحبابهم، وذويهم، في جنة الخلد، وان ينتقم من الظالمين القتلة، أعداء الدين والوطن، انه على كل شيء قدير.
د. فتحي الفاضلي
لمراسلة الكاتب
fathifadhli@yahoo.com
ffadhli@hotmail.com
لزيارة صفحة الكاتب
www.fathifadhli.com
لزيارة صفحة الكاتب على الفيس بوك
www.facebook.com/fathilibya

مقال  ~ للفكرة البقاء }
للشهيد محمد حمي
إن تاريخ البلاد الطويل الذي يمتد من الفتح العربي إلى القرن العشرين، لا نقف فيه أمام مشهد من مشاهد البطولة المحلية للشعب العربي في ليبيا تقودها جماعة منها يدفعها غرض نبيل، بقدر ما نلمسه في فترة من كفاحنا الشعبي كان عمر المختار رمزا لها، وعنوان عليها. وعمر المختار أو الشعب الليبي ،لم يكتشف ذاته، ويتخذ لنفسه مثلا اعلى يوم أن ولد، أو يوم أن اثبت وجوده، في كفاحه ضد الغزاة المستعمرين، بل قبل ذلك بكثير، ويرجع تاريخ هذا الميلاد إلى الفكرة التي طرأت على الإمام محمد بن علي السنوسي، وهو جالس على كثيب من الرمال في ضواحي مدينة مستغانم من الجزائر، يفكر والألم يحز في نفسه في ما آل إليه مصير الشعوب العربية، حملة الحضارة السلام إلى العالم الذي كان يسوده الجهل والظلم والفساد. ذلك المصير الذي يتمثل في الأغلال والانحلال، تتوائب وتتوافر عليها فيه الأمراض الاجتماعية والنفسية والاعتقادية فوطد الإمام عزمه على العمل الايجابي الصالح لإنقاذ مواطنيه في الوطن العربي الكبير، واتخذ من الجهاد في سبيل تحرير الشعوب مثلا اعلى، ووطد عزمه مرة أخرى بمقتضى هذا المثل أن يبعث الوعي في نفس كل عربي "وبدأ بعشيرته الأقربين " فكانت البيئة المختارة البلاد الليبية .
أما عن سر هذا الاختيار فذلك لما تتمتع به هذه البلاد من الصدارة في العالم العربي من حيث الموقع الجغرافي واستعداد سكانها الطبيعي لحمل رسالة التحرير، وإشعار العرب بضرورة وحدة النضال في سبيل حق تقرير المصير. فكان من الطبيعي أن يستجيب عرب ليبيا باستعدادهم الفطري لهذه الدعوة الكريمة، وسرعان ما برزوا في وحدة أقلقت مضاجع المستعمرين في الداخل، وحرضوا ما يحيط بهم من شعوب إفريقيا على الثورة والتمرد على مستعمريهم فكانت هذه الحركة المباركة بداية يقظة في الشرق العربي عامة وفي الشمال الإفريقي خاصة. ولذا يحتم الواجب على المفكرين في هذه البلاد العربية أن يحتفلوا بالفكرة احتفالهم بمن استجابوا لها، ومن قد استجاب لها كثير ومنهم الأحياء.
وما عمر المختار إلا رمز على من اعتنقها واستشهد في سبيل إنجاحها وتحقيقها، على ألا يكون احتفالنا بها وبمن ضحى في سبيلها احتفال عبدة الأصنام، يؤدون طقوسها كلمات جوفاء فوارغ مبهمة، يتمتمونها كمخاطبي العفاريت وضاربي الرمل، وطالقي البخور، بل احتفال العربي الليبي الذي تلقفها من الإمام حافلا بها، واعيا لها، عاملا على تحقيقها، مضحيا بأعز ما يملك في سبيلها. وما أحوجنا في هذه الفترة التاريخية العصيبة التي يمر بها العالم العربي إلى اعتناق هذه الفكرة والإيمان بها، لنستطيع أن نجابه قوى الاستعمار البغيضة التي تتكالب في سبيل تسخيرنا وتسخير إمكانياتنا لأغراضها العدوانية والسيطرة على مقدراتنا وحقوقنا الطبيعية وإلا كيف نلاقي الإمام (قدس الله سره) وعمر المختار وضحايا الحرية يوم أن نبعث وقد تخلينا عن رسالتهم بعد أن أسلموها لنا، وائتمنونا عليها كيف نبرر موقف المغلوب على أمره، لا لن نستطيع ذلك، مهما كانت حجتنا في التاريخ.
وعليه أيها المواطن العربي الليبي أن المثل الأعلى ينتزعه الإنسان من بيئته التي يعيش فيها ومثلك الأعلى هو ما ترضى عنه نفسك، لا ما يرضى عنه غيرك، وهو ما تعتقد أنت انه خير لك، لا ما يعتقد غيرك انه خير، فأنت أنت الذي تحدد مثلك، وأنت أنت الذي يختار طراز الحياة التي تستهويك، إذا أردت أن تبدع عملا عظيما كعمر المختار. فسر على هذه الفكرة واجعلها رسالتك في التحرر والتحرير ، التحرر من الخوف والأوهام الذي يسيطر على القلوب والنفوس، والتحرير لنفسك ومجتمعك العربي من الأصفاد والأغلال.
وأثر نداء الوعي أن نداءه للحر عرس
لا تخشى للطاغوت تقطيبا وفي جنبيك نفس عارمة
اجعلها فكرة تشتعل في القلوب، وتضرم نار الحقد المقدس في الصدور، ضد سفاحي الإنسانية ومجرمي الحروب .. إلى الموت في سبيل التحرر من قيود الاستعمار وأغلال العبودية وأصفاد الاحتلال وهذا الحقد هو الذي احتدم في النفوس، وظل يدفع بأبناء الوطن إلى مواصلة الكفاح المسلح، والنضال الثوري، والجهاد البطولي، أكثر من ربع قرن من الزمن، حتى تحقق له النصر، ونزلت بعدوه الهزيمة والنكبات .. وحتى رأى ايطاليا الفاشية الغاشمة تنهار أمام جحافل الحلفاء، التي اشترك معها جنبا إلى جنب في معركة التحرير إبان الحرب العالمية الثانية.. المعركة التي خلد ذكراها اليوم التاسع من أغسطس.
أن عمر المختار هو باعث كل هذه العوامل التي خلقت الوعي القومي في الشعب.. الوعي الذي نما في النفوس وظل يهز أعمدة الاستعمار ويزلزل دعائمه ويقوض أسسه ويطيح بقيمه المنهارة... الوعي الذي جعل الشعب يدق أعناق المستعمرين في التراب، ويمرغ أنوفهم في الرغام، ويلطخ وجوههم بالوحل ... الوعي الذي جعل الشعب يصمم في عناد على تحطيم المشاريع الاستعمارية... ومناهضة الأحلاف العدوانية، وازدراء المؤامرات الدنيئة.. الوعي الذي جعل الشعب يصر في إيمان بأنه سيحيا حرا، عزيزا، كريما، لا مكان للمستعمرين والظالمين والمستبدين في بلاده... وبأنه سيحقق مزيدا من الانتصارات في جميع ميادين الحياة...
أن عمر المختار هو الذي شاع في النفوس الإيمان بالكفاح في سبيل الحرية.. الحرية التي هي هبة الله إلى الإنسانية... ومنحة الطبيعة إلى البشرية... الحرية التي قاسى شعبنا في سبيلها، شتى أصناف الذل والهوان والاضطهاد في معسكرات الاعتقال وشتى ضروب البطش والتنكيل والتعذيب في أعماق السجون... الحرية التي استشهد في سبيلها المئات من أبناء شعبنا الكريم.
الحرية الحمراء التي تطرق أبوابها بعنف، الشعوب التي تسعى إلى التخلص من الغاصبين والمحتلين والمستغلين... الحرية التي حاول المستعمرون أن يبعدوها عنا فازددنا منها اقترابا... الحرية التي استخلصها شعبنا الباسل بالقوة من براثن الاستعمار... شعبنا العظيم الذي لم تهن عزيمته الأزمات ولم تنل منه الأحداث التي ظلت تترى على هذا الوطن الصامد، ردحا من الزمن... شعبنا الذي استجمع قواه وانقض على قلاع الاحتلال ومحاها.... والذي استجمع حملته ووثب على حصون الاستعمار ودكها.
شعبنا الذي ضرب للعالم أروع أمثلة البطولة الوطنية.. شعبنا الذي انتزع حقه بسواعد أبنائه المخلصين الذين شاركوا في تشييد صروح الحرية.... وساهموا في بناء دعائم النهضة الوطنية.
وبعد هذه كلمة حق، أملتها عليا ذكرى شهيد الحق.. ذكرى المختار الحبيبة إلى قلوب كل المواطنين الشرفاء.. ذكرى مرور ست وعشرين عاما على استشهاد هذا البطل الذي اختار الموت في سبيل الحياة الحرة الكريمة لشعبنا الليبي وفضل حبل المشنقة على حياة التسلط والخضوع والاستسلام والخنوع.
ذكرى المختار الذي علمنا معنى البطولة والتضحية في سبيل الواجب المقدس نحو الوطن.. ونحو أجياله القادمة.. ذكرى المختار الشيخ المسن الذي وقف على المشنقة رابط الجأش ولفظ أنفاسه بين أعوادها، وصعدت روحه الطاهرة إلى السماء... وادخل في زمرة الشهداء والصديقين... ذكرى عمر المختار الذي كان من حاملي رسالة الحق والخير والسعادة إلى الجموع الإنسانية ورافعي الظلم عن كواهل الجماعات.. ومكافحة الطغيان والإرهاب...
أنها كلمة فيها عبرة للشعب الليبي الباسل ، فيها درس لكل من تحدثه نفسه بالتلاعب بهذا الوطن الحر. وفيها عظة لكل من تسول له نفسه الاستهتار بمقدرات هذا الشعب العظيم والويل كل الويل لمن لا يعتبر ولا يتعظ والزمن شاهد.
بقلم/ محمد حمي



هناك تعليق واحد: