السبت، أكتوبر 08، 2011

د. محمد بن شاكر الشريف: "قراءة في كتب السياسة الشرعية ـ بين القديم والحديث"

~ في كثير من الأحيان تظهر مقولة ثم تنتشر ويفشو أمرها بين الناس: في أحاديثهم وكتاباتهم، حتى لا يكاد يذكر في بابها غيرها، وإذا فتشت في حقيقة ذلك وجدت أن أصلها كلمة مبتدأة في  بابها لم يسبقها شيء فذاعت وانتشرت ورددها الكبير والصغير، وهي في حقيقة الأمر لا تعدو كونها رأيا لم تتوفر له دلالات الصحة وأماراتها، ونحسب أن من ذلك ما يذكره كثير من الناس عن عدم اهتمام المسلمين بالحديث عن السياسة، وأن جل همهم متعلق بالآخرة، أما الدنيا فليس لها من كتاباتهم نصيب، فاهتمامهم منصب على أمور غيبية أو على ما تحت التراب لا على ما فوق وجه الأرض، من العلوم والمعارف الدنيوية، وأن ما كتبوه في ذلك لا يتجاوز عددا محدودا من الدراسات، وأغلبهم لا يعرف من الكتب غير الأحكام السلطانية للماوردي، وهؤلاء فريقان:
 -الفريق الأول: من يطعن بذلك في الإسلام نفسه وأنه دين لا علاقة له بالدنيا، وليس من شأنه أن يتعامل معها، وأن من يحاول ذلك من المسلمين فهو يظلم الدين إذا يدخله-حسب زعمه-في أمور لم يأت لقيادها وعلاج ما فيها من أدواء، وهؤلاء هم العلمانيون.
 -والفريق الثاني: من لا يذهب ذلك المذهب بل يرى أن الدين كما هو يعتني بأمر الآخرة التي هي مستقر الناس بعد كدحهم في الدنيا، فهو يعتني أيضا بأمر الدنيا إذ الدنيا مزرعة الآخرة، لكنه يلقي بالتبعة واللوم على علماء المسلمين لتقصيرهم في هذا الباب.
 ولعلنا في هذه المقالة نعرض لمقولات كلا الفريقين ونبين مدى صوابها ودقتها، وقبل الدخول في ذلك نود الإشارة إلى أن الشريعة الخاتمة التي أنزلها الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وجاءت أحكامها في الكتاب والسنة تعتني بالأمرين جميعا الدنيا والآخرة ولا تعرف هذا الفصل الحاد بين المجالين، فالتفريق بينهما إنما هو تفريق تكامل لا تفريق تعارض وتضارب، فالدنيا مزرعة الآخرة، والآخرة حصاد الدنيا، وفساد الدنيا مضر بالآخرة، لكن الأحكام الشرعية لم تأت في مصادرها على وزان واحد وإنما جاءت بصور متعددة ما بين التصريح والتنبيه والإشارة والإيماء وغير ذلك من طرق دلالة الأدلة على الأحكام من خلال الأمر أو النهي أو التوجيه والإرشاد أو التقرير أو من خلال القصص وأخبار السابقين ونحو ذلك.
تعريف السياسة:
السياسة لغة: القيام على الشيء بما يصلحه، ولفظ 'السياسة' في لغة العرب محمل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في مادة سوس: 'سست الرعية سياسة' أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه'، وفي لسان العرب في المادة نفسها: 'السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعتيه'"[1]، والسياسة كما عرفها النسفي في طلبة الطلبة بقوله "السياسة حياطة الرعية بما يصلحها لطفا وعنفا".
 وقد عرفت السياسة الشرعية بتعاريف عدة، والفقهاء لهم اتجاهان في بيان ذلك،
 الاتجاه الأول: يمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: "السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة ولم يربطها برؤية الحاكم، بعكس كلام ابن نجيم فلم يقيدها بعدم مخالفة الشريعة وربطها برؤية الحاكم، وقد يكون مراد ابن نجيم كمراد ابن عقيل، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا التعريف يوسع مجال السياسة الشرعية.
والاتجاه الثاني: اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة للتعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'. }



[1] مجلة البيان عدد 197 مقال السياسة الشرعية تعريف وتأصيل محمد بن شاكر الشريف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق